السبت 22 شوال 1431 هـ الموافق لـ: 02 أكتوبر 2010 09:39

- تفسير سورة الفاتحة (2) الكلام عن الاستعاذة.

الكاتب:  عبد الحليم توميات
أرسل إلى صديق

صيغتها معناها حكمها.

والمقصود بالاستعاذة هنا هي الاستعاذة من الشّيطان، وإلاّ فإنّ المسلم عليه أن يستعيذ من كلّ شرّ ومكروه.

1-             المبحث الأوّل: صيغتها: فالمشهور منها ثلاث صيغ ثابتة كلّها:

( أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم )، و( أعوذ بالله السّميع العليم من الشّيطان الرّجيم )، و( أعوذ بالله السّميع العليم من الشّيطان الرّجيم من همزه ونفثه ونفخه ).

وكلّها حسان، قال ابن قدامة رحمه الله في " المغني " (2/146): " وهذا كلّه واسع، وكيفما استعاذ فحسن ".

- أمّا الصّيغة الأولى فهي امتثال لأمر الله بها في القرآن:{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النّحل:98].

- وأمّا الثّانية: فلقوله تعالى:{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف:200]، وقال:{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت:36].

- أمّا الثّالثة: فلأنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يفعلها، فقد روى التّرمذي والنّسائي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ بِاللَّيْلِ كَبَّرَ، ثُمَّ يَقُولُ: (( سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ، وَتَعَالَى جَدُّكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ )) ثُمَّ يَقُولُ: (( اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا )) ثُمَّ يَقُولُ: (( أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ )).

والأفضل أن ينوّع المسلم بينها، كما هو الشّأن في سائر الأذكار، وإن كانت الثّانية والثّالثة أفضل لأنّهما تضمّنتا ثناءً على الله تعالى باسمين عظيمين من أسمائه، وصفتين جليلتين من صفاته، ولا شكّ أنّ الاستعاذة دعاء، ومن المندوب الثّناء على الله تعالى في الدّعاء.

2-             المبحث الثّاني: معناها.

-( أعوذ ): من الاستعاذة، وهي طلب العوذ، وهو الالتجاء والاعتصام والالتصاق بالشّيء، وأصل العوذ هو اللّحم الملتصق بالعظم، فصارت العرب إذا احتمت بالشّيء والتصقت به شبّهته باللّحم الملتصق بالعظم.

ومثله وزنا ومعنى ( لاذ به يلوذ لوْذا ولِوَاذاً ولياذا ) قال في " لسان العرب ": أي لجأ إليه وعاذ به، واختفى وراءه، ومنه قوله تعالى:{قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً} [النور: من الآية63].

-( بالله ): الباء هنا للاستعانة.

و( الله ): علمٌ على الإله المستحقّ للعبادة، والرّاجح أنّه مشتقّ من الألوهيّة والإلهيّة، وهي العبوديّة.

وأصل لفظ الجلاة ( الله ) - كما قال الكسائي والفرّاء وأبو الهيثم -: الإله، حذفوا الهمزة وأدخلوا الألف واللاّم، ثمّ أدغمت اللاّم في الأخرى، ونظيره كلمة ( الأُناس ): حذفوا الهمزة فقالوا: النّاس.

فالله من إله بمعنى مألوه، ككتاب بمعنى مكتوب، وفراش بمعنى مفروش، وبساط بمعنى مبسوط، وإمام بمعنى مأموم يقصده النّاس.

-( الشّيطان ): وهو عَلَم على الجِنِّ إذا تمرّد، وهو مشتقّ من ( شَطَنَ ) بمعنى بَعُدَ، فهو بعيد بطبعه عن طباع البشر، وبعيد بنفسه عن كلّ خير.

وقيل: هو مشتقّ من ( شاط ) لأنّه مخلوق من نار، وهي تشيط بطبعها. وهذا المعنى صحيح، إلاّ أنّ الأوّل أصحّ لأمرين:

1-              أنّه هو الّذي جرى عليه كلام العرب، فقد قال أميّة بن أبي الصّلت في ذكر ما أوتي سليمان عليه السّلام:

( أيّما شـاطن عصـاه عكـاه      ثمّ يلقـى في السّـجـن والأغلال )

فنلاحظ أنّه قال: ( شاطن ) ولم يقل: ( شائط ).

وقال سيبويه: " العرب تقول ( تشيطن فلان ) إذا فعل فعل الشّياطين، ولو كان من ( شاط ) لقالوا: تشيّط ".[i]

2-      لو كان مشتقّا من ( شاط ) لكانت الألف والنّون زائدتين في ( شيطان ) فيمنع من الصّرف للوصفيّة وزيادة الألف والنّون، ولكنّه لم يُمنع من الصّرف في القرآن، قال تعالى:{وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} [الحجر:17]، {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} [التّكوير:25]، فدلّ ذلك على أنّه من شطن.

-( الرّجيم ): فعيل بمعنى مفعول، فهو مرجوم، كقتيل بمعنى مقتول، لأنّه مرجوم من الله بطرده من رحمته، ومرجوم من الملائكة بالشّهب، ومرجوم من العباد بالاستعاذة.

وقيل: بمعنى ( راجم )، كقدير بمعنى قادر، وسميع بمعنى سامع، لأنّه يرجم النّاس بوساوسه، قال ابن كثير:" والأوّل أشهر وأصحّ ".

-( السّميع العليم ): تأمّل كيف علّمنا الله أن نختم استعاذتنا بهذين الاسمين المناسبين تمام المناسبة للمقام، لأنّه يحذّر من العدوّ الجنّي الّذي لا يُرى، كما قال تعالى:{إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُم} [الأعراف: من الآية27]، والّذي لا يسمع العبد كلامه، لكنّ الله يسمعه ويعلمه، ولمّا حذّر من العدوّ الإنسيّ الّذي يُرى قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر:56]. ذكره ابن القيّم رحمه الله في " بدائع الفوائد ".و" إغاثة اللّهفان ".

-( من همزه ونفثه ونفخه ):

أ‌)     الهمز: استعاذ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من همزه امتثالا لقوله تعالى:{وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} [المؤمنون:97] وأصل الهمز: الدّفع، والضّرب والنّخز الّذي يشبه الطّعن، لذلك قيل للكسائيّ: أتهمز الذّيب ؟ فقال: لو همزته لأكلني. فهمزات الشّياطين: دفعهم العباد بالوساوس والإغواء.

قال ابن عبّاس رضي الله عنه والحسن:" همزات الشّياطين:  نزغاتهم ووساوسهم ". وفسّرها بعضهم بالموتة وهي: الجنون والصّرع، ومنه ( الهُمَزَة ) الّذي يطعن في النّاس.

ب‌)       النّفث: معروف، وهو النّفخ مع الرّيق، ونفث الشّيطان فسّره السّلف بأنّه: الشّعر المذموم.

ت‌)   النّفخ: هو الكبر: أي داعي الكبر، والكبر نوعان: على الخلق وعلى الحقّ، لذلك فسّره النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بقوله: (( بطر الحقّ وغمط النّاس )).

3-              المبحث الثّالث:  حكمها.

فقد اختلف الفقهاء في حكمها:

أ-      فالجمهور: الشّافعي وأبو حنيفة وأحمد - في رواية - على أنّها مستحبّة داخل الصّلاة وخارجها [" حاشية ابن عابدين " (1/328)، و" مغني المحتاج "(1/156)].

2-              وذهب مالك رحمه الله تعالى إلى استحبابها خارج الصّلاة ومنعِها في الصّلاة.[" حاشية الدّسوقي " (1/251)].

3-      وذهب عطاء، والثّوري، وابن سيرين، والأوزاعيّ، وداود، وابن حزم، وأحمد في رواية إلى أنّها واجبة في الصّلاة وعند قراءة القرآن.[" المحلّى " (3/247)، و" الفروع "(1/413)، و" الإنصاف "(2/120)].

وهو الصّواب- إن شاء الله – لسببين اثنين:

-         للأمر بها، والأصل في الأمر الوجوب.

-         ولأنّها تدفع شرّ الشّيطان، وما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب.

فوائد ثلاث:

  • الأولى: استحبّها من قال باستحبابها في الرّكعة الأولى فقط، واستحبّها الشّافعيّ في كلّ ركعة.

ومن قال بوجوبها أوجبها في الرّكعة الأولى فقط، وأوجبها ابن سيرين رحمه الله في كلّ ركعة. ووجه كلامه رحمه الله أنّ الاستعاذة شرعت مع القرآن، فإذا تكرّرت القراءة وجبت الاستعاذة، والله أعلم.

  • الثّانية: ظاهر قوله تعالى:{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98] أنّ محلّ الاستعاذة بعد القراءة، وإلى ذلك ذهب بعض القرّاء، قالوا: لدفع الإعجاب بعد الفراغ من العبادة.

والّذي عليه أكثر العلماء من السّلف والخلف أن يُؤتى بها قبل القراءة لدفع الوسوسة، فيكون معنى الآية: إذا أردت أن تقرأ القرآن، وهذا أسلوب عربيّ كثير في كلام العرب، فيحمل عليه، مثل قوله تعالى في آية الوضوء:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ..} [المائدة: من الآية6]، وكحديث الصّحيحين عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم إِذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ قَالَ: (( اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ )).

  • الثّالثة: من الأخطاء الشّائعة قول المتكلّم: قال الله تعالى بعد أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم. وذلك لأمرين:

-         لأنّه لم يكن عليه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ومن استقرأ استشهاده وتمثّله بالقرآن لما وجده صلّى الله عليه وسلّم مرّة واحدة يقولها.

-    ولأنّه كلام لو فهمته لعلمت أنّه كفر، لأنّ مقتضى ذلك أنّ الله قال: أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم، وكيف يستعيذ الله ممّن طرده من رحمته، وأخرجه من جنّته ؟!

والله أعلم وأعزّ وأكرم.



[i] انظر " تفسير ابن كثير ".

أخر تعديل في السبت 14 ذو الحجة 1431 هـ الموافق لـ: 20 نوفمبر 2010 10:09
الذهاب للأعلي