السبت 08 ذو القعدة 1431 هـ الموافق لـ: 16 أكتوبر 2010 22:38

- السّيرة النّبويّة (10) وفاة أمّه صلّى الله عليه وسلّم.

الكاتب:  عبد الحليم توميات
أرسل إلى صديق

الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:

فقد تطرّقنا في الحلقة السّابقة إلى حادثة شقّ الصّدر الأولى.

وكما كانت تلك الحادثة العظيمة من دلائل نبوّته صلّى الله عليه وسلّم، فإنّها كانت كذلك سببا في خوف حليمة السّعديّة عليه صلّى الله عليه وسلّم، ممّا جعلها تعيده إلى أمّه.

وظلّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع أمّه آمنة بنت وهب، وجدّه عبد المطّلب بن هاشم في كِلاءة الله وحفظه، ينبته الله نباتا حسنا، لما يريد به من كرامته.

قال الله تعالى ممتنّا على نبيّه بهذه النّعمة:{ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى }.

لقد عاد محمّد صلّى الله عليه وسلّم إلى أحضان أمّه، ترعاه وتحنو عليه، شأنه شأن كلّ صبيّ، وشأنها شأن كلّ أمّ: تحدّثه ويحدّثها، تلاعبه ويلاعبها، تملأ عليه دنياه، ويملأ عليها دنياها.

وإذا كان كلّ طفل على وجه الأرض يُنعت بالبراءة، فكيف حال طفل غُسِل بماء الثّلج الطّاهر ؟!

ولمّا بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ستّ سنين، أخذته أمّه معها متّجهة إلى ( يثرب ) عند أخواله من بني عديّ بن النجّار[1].

هناك قضى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وقتا يملأ صدره بنسيمها، ويركض في أرجائها، وهو لا يعلم أنّ تلك الجدران والأشجار والأحجار لو أُذِن لها بالكلام لقالت:

موعدنا بعد خمسين سنة، لتضع عليّ تاج أوّل عاصمة إسلاميّة في الوجود.

المـأسـاة ...

وفي طريق عودتها، مع صغيرها، وفي مكان يقال له ( الأبواء ) - بين مكّة والمدينة - توقّفت القافلة ! فما الّذي حدث ؟

الجميع ينظر إلى آمنة تنزل من على الرّاحلة ! والصبيّ ينظر إليها تئنّ وتتوجّع، وهو لا يستطيع أن يُمدّها بشيء ٍ..

ولم تلبث إلاّ لحظات حتّى خرجت روحها ..

فقد تُوُفِّيت أمّه آمنة بنت وهب بذلك المكان البعيد عن مكّة .. البعيد عن عبد المطّلب .. البعيد عن أعمامه ..

ويرى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم – وهو في قمّة البراءة، وأمسّ الحاجة إلى صدر أمّه الحنون – يراها تؤخذ منه وتوارى التّراب ..

وللقارئ أن يتخيّل حال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ...

ما عسانا أن نقول ونحن نعلم أنّه الآن يعود صلّى الله عليه وسلّم إلى مكّة وحيدا ؟

لا أحد يعلم بآلامه إلاّ الله ..

تراه الآن يعود فاقدا أمّه بعد فقد أبيه .. يعود إلى ذلك البيت الصّغير .. يجول ببصره في أركانه الصّامتة ..

كيف كان يشعر صلّى الله عليه وسلّم  وهو ينظر إلى أرجاء ذلك البيت الصّغير ؟

كيف كان حاله صلّى الله عليه وسلّم وهو ينظر إلى المكان الّذي كانت أمّه تنام عليه، فإذا به يراه خاويا ؟!

كيف كان حاله صلّى الله عليه وسلّم  إذا حان وقت الطّعام وقد اعتاد أن يرى أمّه تعدّه له في رفق وحنان، وشفقة وإحسان ؟!

كيف كان حاله صلّى الله عليه وسلّم وهو يُبصر تلك الأمكنة الّتي كانت تلاعبه فيها وتضاحكه، فإذا به لا يراها ولا يسمع ضحكاتها ؟!

لقد أصبحت جدران ذلك البيت في حداد .. فلم يعد هناك أمّ .. ولم يعد هناك صوت .. فما أعظم اللّوعة .. وما أشدّ الحسرة !

كيف كان حاله إذا انتبه ليلاً فلم يجدها بقربه ؟

ما جواب جدّه وأعمامه إذا سألهم عنها ؟

خاصّة وأنّ للطّفل أسئلة كثيرة ملِحّة: إلى أين ذهبت ؟ متى ستعود ؟ ألا يمكن أن أذهب إليها ؟..

أسئلة كلّها حزن وأسًى، متى ما ألقيت عليك لم تجد أمامك إلاّ أن تخفض رأسك وتخفي وجهك باكيا ..

والّذي يطالع سنّة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم  يجده صلّى الله عليه وسلّم قد تعلّق بها كثيرا رُغم أنّه لم يعِش بقربها إلاّ سنوات قليلة ..

لقد ظلّ ذلك المشهد وهو يراها تُوارى التّراب في مخيّلته .. وممّا يدلّنا على ذلك أنّه مرّ ذات يوم على قبرها، فبكى صلّى الله عليه وسلّم بكاء شديدا ..

روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: زَارَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكَى، وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ، فَقَالَ:

(( اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ فِي أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأُذِنَ لِي، فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ )).

وعند البيهقي رحمه الله عن بريدة رضي الله عنه قال:

" انتهى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى رسم قبرٍ فجلس، وجلس النّاس حوله، فجعل يُحرّك رأسه كالمخاطِب، ثمّ بكى، فاستقبله عمر رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله ! ما يُبكِيك ؟ فقال:

(( هذا قبر آمنة بنت وهب، استأذنت ربّي في أن أزور قبرها، فأذن لي، واستأذنته في الاستغفار لها، فأبى عليها، وأدركتني رِقّتُها فبكيت )).

قال بريدة: فما رأيت ساعة أكثر باكيا من تلك السّاعة "[2].

في كنف عبد المطّلب.

فبعد رحيل آمنة بنت وهب، امتدّت اليد الحانية إليه، وأقبل القلب الرّحيم عليه ..

عاش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في كنف جدّه عبد المطّلب بن هاشم .. تربّى على ساعد رجل كريم الطّباع، صاحب الشّرف وسقاية الحجيج ..

ولقد كان يوضع لعبد المطلب فراشٌ في ظلِّ الكعبة، وكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك، حتّى يخرج إليه لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالا له.

ولكنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يأتي وهو غلام جَفْرٌ، حتّى يجلس عليه، فيأخذه أعمامه ليؤخّروه عنه، فيقول عبد المطّلب إذا رأى ذلك منهم:

دعوا ابني ! فوالله إنّ له لشأنا !

ثمّ يُجلسه معه على الفراش، ويمسح ظهره بيده، ويسرّه ما يراه يصنع.

وممّا يدلّ على عظم حبّه له أنّ عبد المطّلب كان لا يُرسل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو ابن سبع أو ثمان سنين في شيء إلاّ جاء به، ولا في حاجة إلاّ قضاها، ولم يتأخّر عنه قطّ.

إلاّ مرّة واحدة ..

مرّة واحدة أرسله جدّه ليسوق الإبل، فتأخّر ! وكان الموسم موسم حجّ، وليس من السّهل أبدا البحث عن طفل صغير وسط ذلك الزّحام الكبير.

ولم ينشغل ذهن عبد المطّلب بشيء ذلك اليوم .. لا بالحجيج .. ولا برفادتهم ولا بسقايتهم ..

لا يشغله السّاعةَ إلاّ محمّد صلّى الله عليه وسلّم.

فلم يجد إلاّ أن اقترب من الكعبة ورفع يديه قائلا:

( ربّي ردّ إلـيّ محمّدا        ربّ واصطنع عندي يدا )

روى البيهقي بسند حسن (2/20) عن معاوية بن حيدة رضي الله عنه أنّ رجلا من الحجيج شاهده فسأل:

- من هذا ؟  فقالوا:

- عبد المطّلب بن هاشم، ذهبت إبل له فأرسل ابن ابنِه في طلبها، ولم يُرسله في حاجة قط إلاّ جاء بها، وقد احتبس عليه.

قال: فما برحْتُ حتّى جاء محمّد صلّى الله عليه وسلّم بالإبل، فقال عبد المطّلب له: " يا بُنَيّ ! لقد حزنت عليك حزنا، لا تفارِقْني أبدا ".

وحبّ عبد المطّلب للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم له وزنه عند قريش، فقد كان يُلقّب بشيبة الحمد.

لكنّ السّعادة لم تدُم طويلا، فبعد سنتين من وفاة أمّه، نرى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على موعد جديد مع الحزن ..

نراه يبكي خلف سرير عبد المطّلب بحُرقة ومرارة ... فقد مات الجدّ الرّحيم، والسيّد الكريم.


[1]/ وهم أخوال جدّه عبد المطّلب، فأمّ عبد المطّلب سلمى بنت عمرو النجّاريّة.

[2]/ انظر سند القصّة في "سيرة ابن كثير" (1/236).

أخر تعديل في الخميس 29 صفر 1432 هـ الموافق لـ: 03 فيفري 2011 09:34
الذهاب للأعلي