السبت 14 جمادى الأولى 1443 هـ الموافق لـ: 18 ديسمبر 2021 08:40

- اليومُ العالَمِيّ للغة العرب !

الكاتب:  عبد الحليم توميات
أرسل إلى صديق

الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:

فمن سنن الله الكونيّة ترفّع السّفهاء، وانخفاض شأن النّبلاء، حتّى قال الشّاعر:

رَأَيْتُ الدَّهْرَ فِي خَفْضِ الأَعَالِي         وَفِي رَفْـعِ الأَسَافِلَةِ اللّئَـامِِ

   فَقِيهاً صَحَّ فِي فَتْـوَاهُ قَـوْلٌ          بِتَفْضِيلِ السُّجُودِ عَلَى القِيَامِ[1]

ومن مظاهر هذا الخلل، ومعالم هذا الخبل، أن يُجعل يومٌ عالميٌّ للغة القرآن، ولسان النبيّ العدنان صلّى الله عليه وسلّم !

فانضمّت بذلك لغتُنا إلى صفوف المعاقين، والبؤساء المحتاجين، والأطفال المعذّبين، يُذكَرون يوماً، ويُنْسَونَ أشهرا وأيّاماً، ويُبكَون ساعةً ثمّ يعودون أيتاماً.

إنّه الثّامن عشر من ديسمبر: اليوم العالمي للّغة العربيّة، واختير هذا اليوم؛ لأنّه اليوم الذي قرّرت فيه " الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة " إدخالَ اللّغة العربيّة ضِمنَ اللّغات الرّسمية ولغاتِ العمل في الأمم المتّحدة، وذلك بعد مساعٍ وطلبات، وجهودٍ وإلحاحات، دامت أكثر من خمسين سنةً !

وهكذا يضيع شرفُ المكانة، ويخيّم علينا الذلّ والمهانة !

وصدق حافظٌ رحمه الله حين قال على لسان لغة العرب:

رَمَـوْني بعُقمٍ في الشَّبابِ ولَيْتَنِـي         عَقِمتُ فلم أجزَعْ لقَـولِ عِداتي

وَلَدتُ، ولمَّـا لم أجِـدْ لعرائسـي         رِجـالاً وأَكفـاءً، وَأَدْتُ بناتِي

أيُطرِبُكُم من  جانِبِ الغَربِ ناعِبٌ         يُنادي بِوَأدي فـي رَبيعِ حَيـاتي

أَيهجُرنِي قومِي - عفا الله عنهمُ -        إِلَى لغـةٍ لَمْ تـتَّـصـلِ برواة ِ

سَرَتْ لَوْثَة ُ الإفْرَنجِ فيها كمَا سَرَى      لُعـابُ الأفاعي في مَسيلِ فُراتِ

فجزى الله خير الجزاء إخواننا المغاربة، روّادَ هذه الخطوة المهمّة جدّا، ومن أعانهم من مفكّري الدّول العربيّة الأخرى.

ولكنْ، ليتهم رفضوا بالإلحاح نفسِه أن يُجعل للغة العرب يومٌ عالميٌّ ! فإنّه تسمين بعده الذّبح، وذمٌّ بما يشبه المدح.

وإنّها لفُرصةٌ أن نهمس في آذان إخواننا المؤمنين وأخواتنا المؤمنات، بل نصرخ؛ حيث لم تعُدْ تُجدِي الهمسات، بأن يقوموا - كلٌّ بحَسَبِه - بـ( حملةٍ تحسيسيّة )، بضرورة الرّجوع إلى تعلّم اللّغة العربيّة، وممارستها في الحياة اليوميّة، سواءٌ كانت فصيحةً أو عامّية، وأن يحذروا التحدّث بالألفاظ ( نصف الفرنسيّة )[2]، ويجتنبوا كتابتها في رسائلهم، وإحياءَها بمجالسهم.

نعم، إنّه جُهدُ مقلّ ضئيل، ولكنّه أفضل من مخلّ بالقليل، و{مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ}.

فلعلّ هذا المجهودُ يُكلّل بعدُ بندوات ومحاضرات، فدوْراتٍ ومؤتمرات، فإنشاءٍ لمدارسَ ومعاهد وجمعيّات.

وإنّ " العبرة بكمال النّهاية لا بنقص البداية "، وما كانت إنجازات الكبار، إلاّ مجرّد بنات أفكار.

إلى مَعشَرِ الكُتّابِ والجَمعُ حافِلٌ         بَسَطْتُ رجائِي بَعدَ بَسْطِ شَكاتِي

فإمّا حَياة ٌ تبعثُ المَيْتَ في البِلى         وتُنبِتُ في تلك الرُّمُـوسِ رُفـاتي

وإمّا مَمـاتٌ لا قيـامَة َ بَعدَهُ          مَمَاتٌ - لَعَمْرِي - لمْ يُقَسْ بمماتِ

إليكم كلمات انتقيتها من كتب الأعلام، لعلّها تكون لنا حافزا للسّير إلى الأَمام:

- يقول الإمام أبو منصور الثّعالبيّ رحمه الله (تـ: 429 هـ):

" فإنّ من أحبّ اللهَ تعالى أحبَّ رسولَه محمّداً صلّى الله عليه وسلّم، ومن أحبَّ الرَّسولَ العربيَّ أحبَّ العربَ، ومن أحبَّ العربَ أحبَّ العربيَّةَ الَّتِي بها نزلَ أفضلُ الكتبِ على أفضلِ العجمِ والعربِ، ومن أحبَّ العربيّةَ عُنيَ بها، وثابرَ عليها، وصَرفَ همَّتَه إليها.

ومن هداه الله للإسلام، وشرح صدره للإيمان، وآتاه حُسنَ سريرةٍ فيه، اعتقدَ أنّ محمّداً صلّى الله عليه وسلّم خيرُ الرّسل، والإسلامَ خيرُ المِلَل، والعربَ خيرُ الأمم، والعربيّةَ خيرُ اللّغات والألسنة.

والإقبالُ على تفهُّمها من الدّيانة؛ إذ هي أداةُ العلمِ، ومفتاحُ التفقّهِ في الدّينِ، وسببُ إصلاحِ المعاش والمعادِ، ثمّ هي لإحراز الفضائل والاحتواء على المروءة وسائر أنواع المناقب كالينبوع للماء والزِّندِ للنّار.[3]

ولو لم يكن في الإحاطة بخصائصِها، والوقوفِ على مجارِيها ومصارِفِها، والتبحُّرِ في جلائِلِها ودقائقِها إلاّ قوّةُ اليقينِ في معرفةِ إعجازِ القرآنِ، وزيادةُ البصيرة في إثبات النبوّةِ الّتي هي عُمدَةُ الإيمان، لكفَى بهما فضلاً يَحْسُنُ فيهما أثرُه، ويطيب في الدّارين ثمرُه، فكيف وأيسرُ ما خصَّها الله عزّ وجلّ به من ضروب الْمَمَادِح يُكِلُّ أقلامَ الكَتَبَة، ويُتْعِب أناملَ الحَسَبَة ؟!

ولِمّا شرّفها الله تعالى عزَّ اسمه وعظَّمها، ورفع خطرها وكرَّمها، وأوحى بها إلى خير خلقه، وجعلها لسانَ أمينِه على وحيِه، وخلفائِه في أرضِه، وأراد بقاءَها ودوامَها، حتّى تكون في هذه العاجلة لخيار عبادِه، وفي تلك الآجلة لساكني جنانِه، ودارِ ثوابِه[4]، قيَّض لها حفظةً وخزنةً من خواصِّه، من خيارِ النّاسِ، وأعيانِ الفضلِ، وأنجُمِ الأرضِ، تركوا في خدمتها الشّهواتِ، وجابوا الفلوات، ونادمُوا لاقتنائِها الدّفاتر، وسامرُوا القماطِر[5] والمحابِر، وكدُّوا في حصر لغاتِها طباعَهم، وأشهروا في تقييد شوارِدِها أجفانَهم، وأجالُوا في نَظْم قلائدِها أفكارَهم، وأنفقُوا على تخليد كُتبِها أعمارَهم، فعظُمَت الفائدة، وعمَّت المصلحة، وتوفّرت العائدة.

وكلّما بدأَت معارفُها تتنكَّر، أو كادت معالِمُها تتستَّر، أو عَرَض لها ما يُشبه الفترة، ردَّ الله تعالى لها الكرَّةَ، فأهبَّ ريحَها، ونفق سوقَها ".

["فقه اللّغة" (ص 15-16)].

**** *** ****

- " وذلك أنّ اللّسان الّذي اختاره الله عزّ وجلّ لسان العرب، فأنزل به كتابه العزيز، وجعله لسان خاتم أنبيائه محمّد صلّى الله عليه وسلّم.

ولهذا نقول: ينبغي لكلّ أحد يقدر على تعلّم العربية أن يتعّلمها؛ لأنّه اللّسان الأَوْلَى بأن يكون مرغوبا فيه من غير أن يحرم على أحد أن ينطق بأعجميّة ".

[" اقتضاء الصّراط المستقيم " لابن تيمية رحمه الله 204)].

**** *** ****

- فإنّ: " للعربيّةِ شجاعةً صادقةً في تعبيرِها، وفي اشتقاقها، وفي تكوين أحرُفِها، ليست للغةٍ أخرى.

وإذا كانت اللّغة هي خزانة الفكر الإنسانيّ، فإنّ خزائن العربيّة قد ادّخرت من نفيس البيان الصّحيح عن الفكر الإنساني وعن النّفوس الإنسانيّة ما يعجز سائر اللّغات؛ لأنّها صُفِّيَتْ منذ الجاهليّة الأولى الْمُعْرِقَةِ في القِدَم من نفوس مختارةٍ بريئةٍ من الخسائسِ الْمُزْرية، ومن العِلل الغالبة، حتّى إذا جاء إسماعيل نبيّ الله، ابنُ إبراهيم خليل الرّحمن، أخذها، وزادها نصاعةً وبراعةً كرماً، وأسلمها إلى أبنائه من العرب، وهو على الحنيفيّة السّمحة دينِ أبيهم إبراهيم، فظلّت تتَحدّر على ألسِنَتِهم، مختارةً مصفّاةً مبرّأةً، حتّى أظلّ زمانُ نبيٍّ لا ينطق عن الهوى صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل الله بها كتابَه، بلسانٍ عربيٍّ مبينٍ، بلا رمزٍ مبنِيٍّ على الخُرافات والأوهام، ولا ادّعَاءٍ لما لم يكن، ولا نسبةِ كذبٍ إلى الله - تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا - ..." ["أباطيل وأسمار" (ص 436) لمحمود محمّد شاكر رحمه الله].

**** *** ****

- " إنّ العربيّة لغةُ دينٍ قائمٍ على أصلٍ خالدٍ، هو القرآن الكريم.

وقد أجمع الأوّلون والآخِرون على إعجازِه بفصاحتِه، إلاّ مَن لا حفلَ له به مِن زِنديق يتجاهَل، أو جاهلٍ يتزندق.

ثمّ إنّ فصاحةَ القرآن يجب أن تبقى مفهومةً، ولا يدنُو الفهمُ منها إلاّ بالمِرَان والمداولة، ودَرسِ الأساليبِ الفُصحى، والاحتذاءِ بها، وإحكامِ اللّغة، والبصرِ في حقائقها وفنون بلاغتها، والحرصِ على سلامة الذّوق بها، وكلّ هذا يجعل الترخُّصَ في هذه اللغة وأساليبِها ضرباً من الفساد والجهل ...".

["تحت راية القرآن " (ص 16) لمصطفى صادق الرّافعيّ رحمه الله].

**** *** ****

- " فقد وضحَ لك أنّه: لولا القرآنُ وأسرارُه البيانيّة، ما اجتمع العرب على لغتِه، ولو لم يجتمعوا لتبدّلت لغاتُهم بالاختلاطِ الّذي وقع ولم يكن منه بد، حتّى تنتقِضَ الفطرةُ، وتخْتَبِل الطِّبَاعُ.

ثمّ يكون مصيرُ هذه اللّغات إلى العفاء لا محالة، إذ لا يخلُفُهم عليها إلاّ من هو أشَدُّ منهم اختلاطًا وأكثرُ فسادًا، وهكذا يتسلسل الأمر حتّى تَسْتَبْهِمَ العربيّة، فلا تبينُ - وهي أفصح اللّغات - إلاّ بضربٍ من إشارة الآثار ".

["تاريخ آداب العرب" (2/80) للرّافعيّ رحمه الله].

**** *** ****

- " فبقاءُ القرآنِ على وجهة العربيّ، ممّا يجعلُ المسلمين جميعًا على اختلاف ألوانِهم، من الأسود إلى الأحمر، كأنّهم في الاعتبارِ الاجتماعيِّ وفي اعتبار أنفسهم جسمٌ واحدٌ، ينطِق في لغةِ التّاريخ بلسانٍ واحد.

فمن ثَمَّ يكون كلُّ مذهبٍ من مذاهب الجنسيّة الوطنيّة فيهم قد زال عن حيِّزِه، وانتفى من صفته الطبيعيّة؛ لأنّ الجنسية الطبيعيّة الّتي تُقَدَّر بها فروضُ الاجتماع ونوافلُه، إنّما هي في الحقيقة لونُ القلب، لا سَحنة الوجه.

وقد ورِث المسلمون عن أوَّلِيَّتِهم هذا المعنى: فلا يُعلمُ في الأرض قومٌ غيرُهم يعتصمون بحبلِ دينِهم وأيديهم في الأغلال، ويجنحُون إليه بأعناقِهم وهي في رَبْقِ الملوك من الإذلال، ويَخُصّونه بقلوبهم، حتّى يكون أملكَ بها، وأغلبَ عليها، ولا يحتملون فيه سَخْطة، ولا يؤثرون عليه رِضًى، ولا يعدِلون به عدلًا، ويتبرّمُون بكلِّ ضيقٍ إلاّ ما كان من أجلِه، ويرضَوْن المِحْنة في كلّ شيء إلاّ فيه، ثمّ هم لا يرَوْن أنفُسَهم المؤمنةَ في إحساس الفطرة، ومذهب الطّبيعة إلا أنّها بقيّة سماويّة في الأرض ...".

["تاريخ آداب العرب" (2/59) للرّافعيّ رحمه الله].

**** *** ****

- " واعلم أنّ اعتياد اللّغة يؤثّر في العقل والخلق والدّين تأثيرا قويّا بيِّناً، ويؤثّر أيضا في مشابهة صدر هذه الأمّة من الصّحابة والتّابعين، ومشابهتُهم تزيد العقل والدّين والخلق.

وأيضا فإنّ نفس اللّغة العربيّة من الدّين ومعرفتها فرض واجب، فإنّ فهم الكتاب والسنّة فرضٌ، ولا يُفهم إلاّ بفهم اللّغة العربيّة، وما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب، ثمّ منها ما هو واجب على الأعيان، ومنها ما هو واجب على الكفاية ... "اهـ

[" اقتضاء الصّراط المستقيم " لابن تيمية رحمه الله207)].

أرى لرِجالِ الغَربِ عِزّاً ومَنعَةً         وكم عَزَّ أقوامٌ بعِزِّ لُغـاتِ

أتَوْا أهلَهُم بالمُعجِزاتِ تَفَنُّـناً         فيا ليتَكُمْ تأتونَ بالكلِمَـاتِ

فلا تَكِلُوني للزّمـانِ فإنّنـي         أخافُ عليكم أن تَحينَ وَفاتي

هذه نُبذٌ من درر عمالقة هذه الأمّة، لعلّها تشحذ فينا شيئا من الهمّة، والله الموفّق لا ربّ سواه.



[1] الحقّ، أنّ الدّهر لا يخفض ولا يرفع، وإنّما الخافض الرّافع هو الله سبحانه، ولكنّه ضربٌ من المجاز، حيث أسند الفعل إلى ملابسه، وهو الزّمن.

وفي البيت إشارة إلى خلاف واقع بين الفقهاء فيما هو أفضل: أطولُ القيام في الصّلاة، أم كثرة السجود ؟ وفي المسألة أقوال خمسة، والصّواب هو التّفصيل.

[2] فإنّ قومنا - عفا الله عنهم - ما استوردوا إلاّ ما تصدّع وانكسر منها، فلا سيبويه ولا فولتير يفقه عنهم كلامهم !

[3] الزّندُ: هو العودُ الّذي يقدح به لإضرام النّار.

[4] هذا ممّا ليس فيه نصّ من الكتاب ولا السنّة، وما ورد من أنّ العربيّة هي لغة أهل الجنّة، فلا يصحّ سنده.

[5] جمع قِمَطْر، وهو ما تحفظ به الكتب.

أخر تعديل في السبت 14 جمادى الأولى 1443 هـ الموافق لـ: 18 ديسمبر 2021 09:19
عبد الحليم توميات

آخر المواضيع:

الذهاب للأعلي