وهذا باقٍِ إلى يوم القيامة، ولم يُنسخ، فالتقدّم بين يدي سنّته بعد وفاته كالتقدّم بين يديه في حياته، ولا فرق بينهما عند ذي عقل سليم.
قال مجاهد رحمه الله: لا تفتاتوا[1] على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وقال أبو عبيدة:" تقول العرب: لا تقدّم بين يدي الإمام، وبين يدي الأب، أي: لا تعجلوا بالأمر والنهي دونه ". وقال غيره: " لا تأمروا حتّى يأمر، ولا تنهوا حتّى ينهى ..")اهـ.
وفي سبب نزول هذه الآية روى البخاري عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ:
كَادَ الْخَيِّرَانِ أَنْ يَهْلِكَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا؛ رَفَعَا أَصْوَاتَهُمَا عِنْدَ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِ رَكْبُ بَنِي تَمِيمٍ.
فَأَشَارَ أَحَدُهُمَا[2] بِالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ أَخِي بَنِي مُجَاشِع. وَأَشَارَ الْآخَرُ[3] بِرَجُلٍ آخَرَ.
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ: مَا أَرَدْتَ إِلَّا خِلَافِي. قَالَ: مَا أَرَدْتُ خِلَافَكَ. فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا فِي ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ الله:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ ...}. الْآيَةَ[4].
وقد بيّن ابنُ القيّم رحمه الله أنّ من مظاهر التقدّم بين يدي الله والرّسول صلّى الله عليه وسلّم هو:
العمل قبل معرفة حكم الله ورسوله، فقال:" أي لا تقولوا حتّى يقول، ولا تأمروا حتّى يأمر، ولا تُفْتُوا حتى يُفتِي، ولا تقطعوا أمرا حتّى يكون هو الّذي يحكم فيه ويمضيه ".
روى علي بن أبي طلحة عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال:" لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة ". وروى العوفي عنه قال:" نُهُوا أن يتكلّموا بين يدي كلامه ".
والقول الجامع في معنى الآية: لا تعجلوا بقول، ولا فعل، قبل أن يقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو يفعل حتّى يستأذنوه.
فإذا جُعِل من لوازم الإيمان أنّهم لا يذهبون مذهبا إذا كانوا معه إلاّ باستئذانه، فأولى أن يكون من لوازمه أن لا يذهبوا إلى قول ولا مذهب علميّ إلا بعد استئذانه، وإذنه يُعرف بدلالة ما جاء به على أنه أذن فيه "اهـ.
4- الأدب الرّابع: ألاّ ترفع الأصوات فوق صوته صلّى الله عليه وسلّم.
فإنّ رفع الصّوت فوق صوته صلّى الله عليه وسلّم سبب لحبوط الأعمال.
وبعد حادثة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: فَمَا كَانَ عُمَرُ يُسْمِعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ حَتَّى يَسْتَفْهِمَهُ. أي: حتّى يقول له: أعِد أعِد.
وروى مسلم في صحيحه عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ:
لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ..} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، جَلَسَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ فِي بَيْتِهِ، وَقَالَ:
أَنَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَاحْتَبَسَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَسَأَلَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فَقَالَ:
(( يَا أَبَا عَمْرٍو، مَا شَأْنُ ثَابِتٍ ؟ اشْتَكَى ؟))، قَالَ سَعْدٌ: إِنَّهُ لَجَارِي وَمَا عَلِمْتُ لَهُ بِشَكْوَى.
قَالَ فَأَتَاهُ سَعْدٌ فَذَكَرَ لَهُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم، فَقَالَ ثَابِتٌ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي مِنْ أَرْفَعِكُمْ صَوْتًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم فَأَنَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ !.
فَذَكَرَ ذَلِكَ سَعْدٌ لِلنَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم:
(( بَلْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ )). وَزَادَ في رواية: فَكُنَّا نَرَاهُ يَمْشِي بَيْنَ أَظْهُرِنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ.
قال ابن القيّم رحمه الله:" فما الظنّ برفع الآراء، ونتائج الأفكار على سنّته وما جاء به ؟".
5- الأدب الخامس: ألاّ يُجعل دعاؤه كدعاء غيره صلّى الله عليه وسلّم.
قال الله تعالى:{ لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً }، وفيه قولان للمفسّرين:
· أحدهما: المعنى: لا تدعونه باسمه كما يدعو بعضكم بعضا، بل قولوا: يا رسول الله ! يا نبيّ الله !
من أجل ذلك يقبُح عند الإخبار عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن يقال: وقال محمّد ! وفعل محمّد ! بل لا بدّ من توقيره وتعظيمه عند الإخبار عنه.
ومن تأمّل القرآن الكريم، رأى رأي العين أنّه ما من نبيّ ولا رسول إلاّ ناداه الله تعالى باسمه:
فقال تعالى:{يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} [البقرة: من الآية33]، {يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا} [هود: من الآية48]، {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [هود: من الآية76]، {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف: من الآية144]، {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: من الآية55]، {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} [ص: من الآية26].. وغير ذلك..
إلاّ نبيّ الله محمّدا صلّى الله عليه وسلّم، فليس هناك موضع في القرآن يُنادى فيه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم باسمه، بل يناديه واصفا إيّاه بالنبوّة والرّسالة، قال تعالى في أكثر من آية:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ ..}، وقال في عديد من الآيات:{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ }.
قال العزّ بن عبد السّلام رحمه الله – بتصرّف –:" ولا يخفى على أحد أنّ السيّد إذا دعا أحد عبيده بأفضل ما وُجد فيهم من الأوصاف العليّة أنّ فيه تعظيما لمنزلة من دعاه، بخلاف من دُعي باسمه العلم " اهـ.
ولا يترك هذا الأدب إلاّ حقود حسود كالنّصارى واليهود، أو جاهل جاف كالأعراب الأجلاف، أو من ضعُف حبّه للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم فترك كثيرا من أوامره وهديه، كما تراه في كتب من يسمّون أنفسهم زورا وبهتانا بالمفكّرين الإسلاميّين.
· المعنى الثّاني: أي: لا تجعلوا دعاءه لكم بمنزلة دعاء بعضكم بعضا إن شاء أجاب وإن شاء ترك، بل إذا دعاكم لم يكن لكم بدٌّ من إجابته، ولم يسعْكم التخلّف عنه ألبتة.
وقد روى البخاري عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى قَالَ:
كُنْتُ أُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ، فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم فَلَمْ أُجِبْهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي.
فَقَالَ: أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ { اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } ؟ ثُمَّ قَالَ لِي: (( لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ السُّوَرِ فِي الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ ...)) الحديث.
6- الأدب السّادس: ألاّ يُترك مجلسه إلاّ بإذنه صلّى الله عليه وسلّم.
قال ابن القيّم رحمه الله:" ومن الأدب معه: أنّهم إذا كانوا معه على أمرٍ جامعٍ من خطبة، أو جهاد، أو رباط، لم يذهب أحدٌ منهم مذهبا في حاجته له حتّى يستأذنه، كما قال تعالى:{إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ }.
فإذا كان هذا مذهبا مقيّدا بحاجة عارضة، لم يوسَّع لهم فيه إلاّ بإذنه، فكيف بمذهب مطلق في تفاصيل الدين: أصوله وفروعه، دقيقه وجليله، هل يشرع الذّهاب إليه دون استئذانه ؟ {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}.
7- الأدب السّابع: ألاّ يُعارض قوله صلّى الله عليه وسلّم بشيء.
قال ابن القيّم رحمه الله أيضا:"ومن الأدب معه: ألاّ يُستشكَل قوله، بل تستشكل الآراء لقوله.
ولا يعارَض نصُّه بقياس، بل تُهدَر الأقيسة وتُلْقى لنصوصه. ولا يحرّف كلامه عن حقيقته لخيال يسميه أصحابه معقولا ... فكلّ هذا من قلة الأدب معه صلّى الله عليه وسلم، وهو عين الجرأة ..".
8- الأدب الثّامن: الصّلاة عليه كلّما ذكر صلّى الله عليه وسلّم.
كيف لا، وهو الذي بيّن لنا الطّريق إلى الله، وأرشدنا إلى كلّ ما يرضي الله، ونهانا عن كلّ ما يسخط الله ؟
لذلك روى الترمذي وأحمد عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم:
(( الْبَخِيلُ: الَّذِي مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ )).
ورويا أيضا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ:
(( مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا لَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهِ، وَلَمْ يُصَلُّوا عَلَى نَبِيِّهِمْ، إِلَّا كَانَ عَلَيْهِمْ تِرَةً، فَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ )).
ومعنى قوله ( ترة ): يعني حسرة وندامة.
ومن أخطاء الكُتّاب أن يكتبوا ( ص ) أو ( صلّعم ) بجانب اسمه صلّى الله عليه وسلّم، فهو ممّا ارتكبه الجاهلون، وأذاعه ونشره المستشرقون.
9- الأدب التّاسع: تعظيم أهل بيته صلّى الله عليه وسلّم.
فلا نعلم أحدا من الأنبياء ولا المرسلين عُظّم أهله المؤمنون كما عُظّم أهل بيت نبيّ الله محمّد صلّى الله عليه وسلّم.
وآل بيته هم: قرابته المؤمنون من بني هاشم وبني عبد المطّلب، وأزواجه رضي الله عن الجميع.
فاللهمّ صلّ على محمّد، وعلى آل محمّد، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
[1] ( افتات ) من الفوت، أي: سبق إلى الشيء واستبدّ به.
[2] هو أبو بكر رضي الله عنه، والأقرع: لقب، وإنّما اسمه: فِراس بن حابس.
[3] هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أشار بالقعقاع بن معبد، وكان يلقّب بتيار الفرات لجوده.
[4] وفي رواية أخرى للبخاري والنسائي:" فنزل في ذلك:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللهِ وَرَسُولِهِ }، حّتى انقضت الآية.