الاثنين 28 محرم 1440 هـ الموافق لـ: 08 أكتوبر 2018 12:35

السّيرة النّبويّة (99) غزوة أُحُد: مشاهد من قتال الصّحابة رضي الله عنهم

الكاتب:  عبد الحليم توميات
أرسل إلى صديق

 

الحمد لله، وبعد:

فقد رأينا كيف امتلأ قلب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالسّرور؛ وهو يرى أصحابه يمتثلون أوامره كأنّها نُقشت في قلوبهم. 

* إنّه يرى مصعب بنَ عمير رضي الله عنه الّذي لا يملك سوى سيفِه، وقرآناً في صدره، يلقّن المشركين دروسا كما لقّن الأنصار من قبل تلاوة القرآن.

* ويرى أبا دجانة رضي الله عنه وعليه عصابته الحمراء آخذا بسيف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مصمّما على أداء حقّه، فكان يهدّ صفوف المشركين هدّا، لا يلقى مشركا إلاّ قتله، وجعل يهتف قائلا:

                                                                     ( أَنَـا الَّذِي عَـاهَـدَنِي خَلِـيـلِي     وَنَـحْـنُ بِالسَّفْـحٍ لَدَى النَّخِـيـلِ

      أَنْ لاَ أَقُـومَ الدَّهْـرَ فِي   الكَيُّولِ       أَضْـرِبْ بِسَـيْـفِ اللهِ وَالرَّسُـولِ )[1] 

* أمّا ذلك الشّيخ الأعرج عمرو بن الجموح، ورفيق دربه عبد الله بن عمرو بن حرام رضي الله عنهما:

فكانا يقاتلان كالشّباب.. ولكن.. لتقدّم السنّ أحكام قاسية .. فقد سقط عبد الله والدُ جابر رضي الله عنه شهيدا على أرض المعركة، وكان أوّل شهيد في سجلاّت أحد.

وقد شاهد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الملائكة تظلّله، روى البخاري عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا قُتِلَ أَبِي قَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم: (( مَا زَالَتْ الْمَلَائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رَفَعْتُمُوهُ )).

والعجيب أنّه وهو ساقط على أرض المعركة، كان يتمنّى أن يعود ليُقتل في سبيل الله ! ولم يقف إكرام الله تعالى له عند هذا فحسب، فقد خصّه بشيء تشرئبّ له الأعناق.. سنذكره لاحقا إن شاء الله.

* وبعده بزمن ترى صاحبه ورفيق دربه عمرو بنَ الجَمُوح يسقط أرضا ليرتفع سماء شهيدا.. ليطأ بقدمه صحيحةً أرض الجنّة، ويدلّيها في أنهارها ومياهها..

وبقيت المعركة تتأجّج كبركان ثائر يقذف حمما.. يقذف جثثا ودماءً.. فوصل إلى أرض المعركة:

* حُسَيْلٌ وثابت بن وقشٍ ..

حسيلٌ: والد حذيفة رضي الله عنهما .. لقد ظلّ ينتظر هذا اليوم على أحرّ من الجمر؛ لأنّه رُدّ في بدر .. ولكنّه يرى نفسَه مرابطا يحرس المدينة هو وثابت بن وقش ..

فضاقت بطموحهما أسوارُ المدينة النّبويّة، وشعرا أنّ هذا المكان لا يليق بشجاعين مثليهما ..

( فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ - وَهُمَا شَيْخَانِ كَبِيرَانِ -:

لاَ أَبَا لَكَ ! مَا نَنْتَظِرُ ؟ فَوَاللهِ مَا بَقِيَ لِوَاحِدٍ مِنَّا مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ ظَمَأَ حِمَارٍ، إِنَّمَا نَحْنُ هَامَةُ القَوْمِ-أي أسياد فيهم-! أَلاَ نَأْخُذُ أَسْيَافَنَا ثُمَّ نَلْحَقُ بِرَسُولِ اللهِ ؟! "..

قال محمود بن لبيد رضي الله عنه: ( فَدَخَلاَ فِي المُسْلِمِينَ وَلاَ يَعْلَمُونَ بِهِمَا )..[2]

ولكنّ تقدّم السنّ دائما له أحكامه الخاصّة .. قال لبيد رضي الله عنه: ( فَأَمَّا ثَابِتُ بْنُ وَقْشٍ فَقَتَلَهُ المُشْرِكُونَ، وَأَمَّا أَبُو حُذّيْفَةَ ...)

فسوف نعرف حاله بعدُ إن شاء الله؛ فله قصّة رهيبة !

هذان ضيفان حلاّ على أحد، فأكرمهما الله تعالى .. وجاء ضيف ثالث:

* عمرو بنُ أُقَيشٍ : روى أبو داود عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ( أَنَّ عَمْرَو بْنَ أُقَيْشٍ رضي الله عنه كَانَ لَهُ رِبًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَكَرِهَ أَنْ يُسْلِمَ حَتَّى يَأْخُذَهُ ) إذن هو يريد الإسلام ولكنّه يعلم أنّه لو أسلم لما حلّ له الرّبا، فالمانع ليس الكبر ولكنّه الهوى.. مع وجوب ملاحظة أنّه لم يرد الإسلام أيّام الأمن والسّكون.. فكيف حاله يوم الرّهبة والفتون ؟..

( فَجَاءَ يَوْمُ أُحُدٍ ) أي: إلى المدينة، فوجدها لا تُضحّي بأموالها فقط، ولكنّها تضحّي بأرواح أبنائها وفلْذات أكبادها..

( فَقَالَ: أَيْنَ بَنُو عَمِّي ؟! قَالُوا: بِأُحُدٍ.. قَالَ: أَيْنَ فُلَانٌ ؟ قَالُوا: بِأُحُدٍ. قَالَ: فَأَيْنَ فُلَانٌ ؟ قَالُوا: بِأُحُدٍ ). عندئذ هانت عليه أمواله كلّها.. وهان رباه .. وهان كلّ شيء في نظره، وكشفت الشّدائد عن معدَنِه: ( فَلَبِسَ لَأْمَتَهُ، وَرَكِبَ فَرَسَهُ، ثُمَّ تَوَجَّهَ قِبَلَهُمْ، فَلَمَّا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ، قَالُوا: إِلَيْكَ عَنَّا يَا عَمْرُو ! قَالَ: إِنِّي قَدْ آمَنْتُ. فَقَاتَلَ حَتَّى جُرِحَ، فَحُمِلَ إِلَى أَهْلِهِ جَرِيحًا، فَجَاءَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ رضي الله عنه فَقَالَ لِأُخْتِهِ: سَلِيهِ حَمِيَّةً لِقَوْمِكَ أَوْ غَضَبًا لَهُمْ أَمْ غَضَبًا لِلَّهِ ؟ فَقَالَ: بَلْ غَضَبًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ صلّى الله عليه وسلّم .. فَمَاتَ، فَدَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَا صَلَّى لِلَّهِ صَلَاةً )..

الجنّة بخلودها، وسحرها، وأنهارها، وثمارها، ونسائها، وخدمها، وكلّ ما فيها، لهذا الفارس من أجل لحظات من التّوحيد ..

هم القوم لا يشقى بهم جليسهم، فكيف بمن عمل عملهم ؟!

* أنس بن النّضر رضي الله عنه .. الّذي برّ بقسمه.. روى البخاري ومسلم عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ:" غَابَ عَمِّي أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ عَنْ قِتَالِ بَدْرٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، غِبْتُ عَنْ أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلْتَ الْمُشْرِكِينَ ! لَئِنْ اللَّهُ أَشْهَدَنِي قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ "..

وقد برّ بقسمه، فبهر من رآه بشجاعته، كان كالأسد بين الصّفوف لا تزيده الجراح الكثيرة إلاّ شراسةً وإقداما في الفتك بأعداء الله تعالى.. لا يتفوّق عليه أحد إلاّ:

* حـمـزة رضي الله عنه.. كان يقاتل بأسلوب جديد، ويصرخ صراخ الشّهيد .. شاهده كثيرون وكأنّهم نسُوا أنّهم في ساحة قتال لا تجوز فيها الغفلة ولا السّهو عن العدوّ.. ولكنّ المنظر كان لا يمكن تحمّل تركه يمرّ.. كان قتاله يأخذ بقلوب الأبطال..

ممّن شاهدوه سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه .. فلنستمع إليه..

روى الحاكم[3] بسند صحيح عن سعدٍ رضي الله عنه قال:" كَانَ حَمْزَةُ رضي الله عنه يُقَاتِلُ يَوْمَ أُحُدٍ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم بِسَيْفَيْنِ، وَيَقُولُ: أَنَا أَسَدُ اللهِ .. أَنَا أَسَدُ اللهِ ..".

كان يحُزّ الرّقاب، ويُذلّ الطّغاة، فيتساقطون أمامه .. أجمع كلّ من رآه أنّه لا يمكن لأيّ شيء أن يصمُدَ أمامه، حتّى ذلك العبد الأسمر البعيد، الّذي لا يزال يترقّبه من بعيد، ولم يشارك في القتال، لم يجد إلى غاية الآن فرصةً للإجهاز عليه .. كان يراه هَوْلاً مستطيرا .. بل جحيما وسعيرا .. واستمع إلى وحشيّ بن حرب وهو يحدّثنا عن حال حمزة رضي الله عنه بعبارة وجيزة بليغة:

روى ابن إسحاق عنه بسند صحيح أنّه قال:" إنّني أنظر حمزة وأتبصّره، حتّى رأيته في عرض النّاس، كأنّه الجمل الأورق يهدّ النّاس بسيفه هدّا، ما يقوم له شيء "..

فمن الانتحار أن يتصدّى شخص لهذا الّذي يصرخ: أنا أسد الله ! أنا أسد الله !.. هان عليه الرقّ في تلك اللّحظات، فالحياة عبدا، أهون من الموت حرّا ..

فالسّاحة الآن للرّسول صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه رضي الله عنهم، حيث هرب الوثنيّون تاركين نساءهم في متناول الزّبير رضي الله عنه وأصحابه ..

* أمّا نساء المسلمين، فكُنّ كرجالهم يؤدّين واجبهنّ على أكمل وجه، فكُنّ يُمارسن التّمريض والإسعاف بالماء.

روى البخاري عنْ أنسٍ رضي الله عنه قالَ: لَمَّا كانَ يَوْمُ أُحُدٍ لقَدْ رَأَيْتُ عَائِشَةَ وَأُمَّ سُلَيْمٍ وَإِنَّهُمَا لَمُشَمِّرَتَانِ، أَرَى خَدَمَ سُوقِهِمَا، تَنْقُزَانِ الْقِرَبَ - أي: تَنْقُلَانِ الْقِرَبَ - عَلَى مُتُونِهِمَا، ثُمَّ تُفْرِغَانِهِ فِي أَفْوَاهِ الْقَوْمِ، ثُمَّ تَرْجِعَانِ فَتَمْلَآَنِهَا، ثُمَّ تَجِيئَانِ فَتُفْرِغَانِهَا فِي أَفْوَاهِ الْقَوْمِ "..

* عائشة رضي الله عنها، لا تتعدّى الحادية عشر من عمرها، تراها تحت ظلال جبل أحد، وتصف لنا الحدث، فتقول - كما في صحيح البخاري و"سنن البيهقيّ" واللّفظ له -:" هُزِمَ المُشْرِكُونَ يَوْمَ أُحُدٍ هَزِيمَةً بَيِّنَةً تُعْرَفُ فِيهِمْ "..

خلت السّاحة إلاّ من ركضهم يبحثون عن بقايا حياة .. لا ترى إلاّ جثتهم المنتنة. وكان عدد قتلى المشركين سبعين قتيلا ..

وإن شئتَ فقل: تسعةً وستّين؛ فإنّ أحدَهم يتظاهرُ بالموت خشية أن يُجهِزَ عليه فرسان محمّد صلّى الله عليه وسلّم.

إنّه وهب بن عمير .. روى الطّبراني في "معجمه" عن أنَسٍ رضي الله عنه قالَ:" كَانَ وَهْبُ بْنُ عُمَيِْرٍ شَهِدَ أُحُدًا كَافِرًا، وَأَصَابَتْهُ جِرَاحَةٌ، فَكَانَ فِي القَتْلَى، فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَعَرَفَهُ، فَوَضَعَ سَيْفَهُ فِي بَطْنِهِ، حَتَّى خَرَجَ مِنْ ظَهْرِهِ، ثُمَّ تَرَكَه ".

ولكن .. هل مات ؟ إنّه سيكون له شأن عظيم، فـرضي الله عنه.

ها هي السّاحة الآن تُذكّر بانتصار بدر، سبعون للأسر، وسبعون للقبر .. والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه يكحّلون أنظارهم بمشهد يسرّ النّفس ويشرح الصّدر ..

لقد كانت السّاحة مزيّنة بجتث المشركين من جهة، وبالغنائم من جهة .. وبهذا يكون الله تعالى قد أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم أهل الشّرك وحده ..

لكن ... سرعان ما تحوّلت السّاحة إلى دماء أهل الإيمان، يخوض فيها بأقدامهم أهل الشّرك والكفران .. إنّهم الرّماة .. فـ:

ماذا حدث ؟ وماذا فعل الرّماة ..

هذا ما سوف نراه لاحقاً إن شاء الله تعالى.



[1] رواه البيهقيّ في " السّنن الكبرى "، وانظر " نهاية الأرب "(17/88)، و" سير أعلام النّبلاء " (1/8245). ومعنى ( الكيُّول ) قال أبو عبيدة رحمه الله: هو آخر الصّفوف، وبمثل ذلك قال الهرويّ وزاد: سُمّي بكيّول الزّند، وهي سواد دخان يخرج منه آخرا بعد القدح إذا لم يورِ نارا، وذلك شيء لا غناء فيه، وكذلك كيّول الصّفوف لا يوقد نار الحرب ولا يزكّيها [الرّوض الأنف (3/162)].

[2] أخرجه ابن إسحاق ومن طريقه الحاكم (3/202) وقال: " هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ".

[3] وقال: " صحيح على شرط الشّيخين ولم يخرّجاه " وقال الذّهبي: " صحيح "، وعنه رواه البيهقيّ في " السّنن الكبرى ".

أخر تعديل في الاثنين 28 محرم 1440 هـ الموافق لـ: 08 أكتوبر 2018 12:43
عبد الحليم توميات

آخر المواضيع:

الذهاب للأعلي