السبت 26 محرم 1432 هـ الموافق لـ: 01 جانفي 2011 02:16

- تفسير سورة البقرة (12) الكفر: معانيه وأسبابه.

الكاتب:  عبد الحليم توميات
أرسل إلى صديق

الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:

فلمّا ذكر الله عزّ وجلّ المؤمنين وأحوالَهم في أربع آيات، ذكر الكافرين ومآلَهم في آيتين، فقال:

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)}. ولنا في هاتين الآيتين مسائل ثلاث:

- المسألة الأولى: شرح الألفاظ وبيان المعاني.

- ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ): وأصل الكفر في كلام العرب: السّتر والتّغطية، ومنه قول العرب:" ليلة كفَرَ النُّجومَ غمامُها "، أي: سترها. ومنه سمّي اللّيل كافرا، لأنّه يغطّي كلّ شيء بسواده، قال الشّاعر:

 

فتذكّرا ثَقلا رثيدا بعدما *** ألقت ذُكاء يمينَها في كافر[1]

والكافر يطلق أيضا على الزّارع، والجمع كفّار، قال الله تعالى:{كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ} [الحديد: 20]، يعني: الزرّاع؛ لأنّهم يغطّون الحبّ. ومنه الكَفْر للقرية المليئة بالأشجار.

وله في القرآن الكريم معانٍ خمسة:

1- التّغطية، وهو المعنى اللّغويّ السّابق ذكره.

2- الكفر بالتّوحيد، كهذه الآية، وهو الغالب استعماله.

3- كفران الّنعمة والإحسان، ومنه قوله تعالى في البقرة:{وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} [آية 152].

ومنه ما رواه البخاري ومسلم عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم: (( أُرِيتُ النَّارَ، فَإِذَا أَكْثَرُ أَهْلِهَا النِّسَاءُ، يَكْفُرْنَ )) قِيلَ: أَيَكْفُرْنَ بِاللهِ ؟ قَالَ: (( يَكْفُرْنَ الْعَشِير،َ وَيَكْفُرْنَ الْإِحْسَانَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا قَالَتْ مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ )).

ولمّا كانت المعاصي كفرانا لنعمة الله تعالى على عبده سمّاها كفرا، كالطّعن في الأنساب، والفخر بالأحساب، والنّياحة، وقتال المؤمن.

4- التبرّؤ، ومنه قوله تعالى:{ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ} [العنكبوت: من 25]، أي: يتبرّأ بعضكم من بعض.

5- الجحود، ومنه قوله تعالى في البقرة:{فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ} [آية 89].

التّعريف بالكفر اصطلاحا:

من خلال ما جاء في كلام أئمّة السنّة كالإمام أحمد، والآجرّي، وابن تيمية، وابن القيّم، وابن الوزير، وغيرهم نستخلص أنّ الكفر - وهو نقيض الإيمان -:

- قد يكون تكذيباً في القلب، فهو مناقض لقول القلب - وهو التّصديق -.

- وقد يكون الكفر عملاً قلبياً كبغض الله تعالى، أو آياته، أو رسوله صلّى الله عليه وسلّم، والذي يناقض الحبّ الإيماني، وهو آكد أعمال القلوب وأهمها.

- وقد يكون قولاً ظاهراً يناقض قول اللّسان.

- وتارة يكون عملاً ظاهراً: كالسّجود للصّنم، والطّواف بالقبور، واتّخاذ الصّليب، وإهانة شعائر الله.

لذلك يعرّف ابن حزم رحمه الله الكفرَ بعبارة جامعة فيقول:

" وهو في الدين: صفة من جحد شيئاً ممّا افترض الله تعالى الإيمان به بعد قيام الحجّة عليه ببلوغ الحقّ إليه بقلبه دون لسانه، أو بلسانه دون قلبه، أو بهما معاً، أو عمل عملاً جاء النصّ بأنّه مخرج له بذلك عن اسم الإيمان "اهـ.

-( سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ): كلمة سواء تأتي في اللّغة على ثلاثة معان كلّها وردت في القرآن:

1- بمعنى " مُسْتَوٍ " مثل هذه الآية والمعنى: إنذارك وعدمه مستوٍ عندنا، ومثله قوله تعالى:{قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ} [الشعراء:136]، والمثنّى: سِيَّانَ.

2- بمعنى التّام، كقوله تعالى:{فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصّلت: من الآية10].

3- بمعنى " وسط "، نحو قوله تعالى:{فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الصّافّات:55].

-( أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ ): الإنذار: هو الإبلاغ والإعلام، ولا يستعمل إلاّ في تخويف، قال تعالى:{فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:13].

ومنه سمّي (الشَّيب) نذيرا؛ لأنّه يُعلِم المرءَ باقترابه من الموت، وبه فسّر ابن عبّاس رضي الله عنهما قوله تعالى:{أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر: من الآية37] قال: هو الشّيب، وقاله البخاري أيضا.

ومعنى هذه التّسوية أنّهم لا يؤمنون، فأراد الله عزّ وجلّ توكيد ذلك فقال:

-( لاَ يُؤْمِنُونَ ): فالكفّار الّذين لا يستجيبون ولو تبيّن لهم ما تبيّن صنفان:

· الصّنف الأوّل: المشركون:

فمنهم من عزم على ألاّ يؤمن بالنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ولو أوتي ما أوتي، حرصا على الجاه والمكانة الّتي يتبوّءها في قومه، أولئك الّذين قال تعالى عنهم:{وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)} [الحجر:15]، وقالوا:{لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَأُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً (93)} [الإسراء]..

وحتّى لو أنزل عليهم الكتاب، لضُرب به عُرض الحائط، فقد قال تعالى:{وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الأنعام:7].

فقد بلغ بهم الكفر إلى حدّ أنّ الله لو أنزلها ثمّ لم يؤمنوا بها لكانوا قد حكموا على أنفسهم بالعذاب !

روى الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ:

قَالَتْ قُرَيْشٌ لِلنَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ أَنْ يَجْعَلَ لَنَا الصَّفَا ذَهَبًا وَنُؤْمِنُ بِكَ ؟ قَالَ: (( وَتَفْعَلُونَ ؟ ))قَالُوا: نَعَمْ.

قَالَ: فَدَعَا، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عليه السّلام فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ عَزَّ وَجَلَّ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ، وَيَقُولُ: إِنْ شِئْتَ أَصْبَحَ لَهُمْ الصَّفَا ذَهَبًا، فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْهُمْ عَذَّبْتُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ، وَإِنْ شِئْتَ فَتَحْتُ لَهُمْ بَابَ التَّوْبَةِ وَالرَّحْمَةِ. قَالَ: (( بَلْ بَابُ التَّوْبَةِ وَالرَّحْمَةِ )).

· الصّنف الثّاني: أهل الكتاب:

ذلك لأنّهم كفروا بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم وبما أنزل إليه، فيكونون قد كفروا بما أنزل عليهم كذلك؛ لأنّ الأنبياء دينهم واحد.

وإنّ أخبار النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قد جاء ذكرها في التّوراة والإنجيل، فلن يؤمنوا بك وقد كفروا بما أنزل إليهم، وفيه ذكرٌ لصفاتك وأخبارك والعهد الّذي أخذه الله عليهم.

وفي حالهم قال تعالى:{وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} [البقرة: من الآية145].

ولا بدّ من التّنبيه على أمر مهمّ في هذه الآية، وهو: أنّ كلمة العلماء في تأويل هذه الآية تتّفق على أنّ هذا الحكم خاصّ بمن سبق في علم الله أنّه يموت على كفره، فأراد الله تعالى أن يُعلِم عباده أنَّ في النّاس من هذه حاله دون أن يعيّن أحدا.

لذلك حملها ابن عبّاس رضي الله عنه على رؤساء اليهود، كحُيَيّ بن أخطب وكعب بن الأشرف ونظرائهما.

وقال الرّبيع بن أنس: نزلت فيمن قتل يوم بدر، والمقصود أنّها خاصّة بمن علم الله أنّه سيموت على الكفر، فهي مثل قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97)} [يونس].

والّذي حمل العلماء جميعهم على هذا التّأويل هو: أنّ هناك مِن أهل الكفر مَن إذا دعوتهم أسلموا، وإذا أنذرتهم تذكّروا، وعموم أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كانوا على الكفر، فأنجاهم الله بنبيّه صلّى الله عليه وسلّم إلى الإيمان وشعائر الإسلام.

-( خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ): الختم: هو الطّبع والغلق، وعادة العرب أنّهم إذا أرادوا إحكام غلق الأشياء ختموا عليها بخاتم حتّى لا يُفتح إلاّ بإذنهم، فالّذين يتمادون في الباطل يختم الله على قلوبهم فلا يصلهم شيء من الهدى والنّور الّذي أنزل على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. وإذا ختم على القلوب فهم لا يعقلون ولا يفقهون.

-( وَعَلَى سَمْعِهِمْ ): وأغلق على آذانهم فهم لا يسمعون شيئا من الحقّ، كما قال تعالى:{وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً[2]} [الأنعام: من الآية25].

-( وَعَلَى أبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ): أي: غطاء، فهم لا يبصرون هدى، كما قال تعالى:{الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً} [الكهف:101]، وقال عن ساعة الحقيقة:{لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22].

والوقف التامّ يكون على ( سَمْعِهِمْ )، فالختم على القلب والسّمع، والغشاوة على الأبصار، ليوافق ذلك قوله تعالى:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثـية:23].

-( وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ): العذاب لغة: هو المنع، وسمّي العقاب عذابا لأنّه يمنع صاحبه من اقتراف المحرّمات، ومنه الماء العذب لأنّه حُبِس في الوعاء حتّى يصفُو ويفارقه ما خالطه.

المسألة الثّانية: وجوب إنذار الكفّار.

لا حجّة لأحد في أن يترك دعوةَ الكافرين والمشركين وإنذارَهم محتجّا بهذه الآية، وذلك من وجوه:

1- فممّا سبق تبيّن لنا أنّ الآية خاصّة بمن علم الله عزّ وجلّ أنّهم ميّتون على الكفر، فلا حجّة لأحد في ترك الدّعوة، لأنّه لا يعلم ما يعلمه الله تعالى.

2- أنّ الله عزّ وجلّ أمر بدعوتهم جميعا وفي علمه أنّ كثيرا منهم سيموت على الكفر:

فقال تعالى:{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشّعراء:214]، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: من الآية67]، وقال:{فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)} [الغاشية]، وقال:{إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [هود: من الآية12].

3- أنّنا ننذرهم رجاء انتفاعهم، وإقامة للحجّة عليهم، واعتذارا إلى الله يوم القيامة، كما قال صالحو القرية:{مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف: من الآية164].

4- أنّنا ننذرهم رجاء انتفاعنا، قال تعالى:{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33].

5- أنّ الّذي نزلت عليه هذه الآية ظلّ يدعو الكفّار إلى أن لحق بالرّفيق الأعلى.

فإن قيل فلماذا أخبر الله نبيّه صلّى الله عليه وسلّم بحال الّذين كفروا ؟

الجواب: أنّ الله لم يعيّن له أحدا في الآية، وإنّما المقصود من الآية تسلية الرّسول صلّى الله عليه وسلّم، وأنّ إعراضهم وكفرَهم ليس تقصيرا منه.

وقد كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يتألّم لصدود النّاس عنه وعن دعوته، حتّى قال له ربّه:{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر:8]، وقال:{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} [الكهف:6]، وقال:{لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:3] وقال تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [لقمان:23].

فالمطلوب: هو الدّعوة فمن استجاب لك فبها ونعمت، ومن أبى وستكبر فاعلم أنّ الله لم يشأ هدايته وبيده الأمر كلّه.

المسألة الثّالثة: ضرر الذّنوب على القلوب والسّمع والأبصار.

- كثيرا ما يجمع الله بين القلب والسّمع والبصر لأنّها وسائل الإدراك، والهدى يدخل إلى العبد من هذه الأبواب الثّلاثة.

لذلك قال تعالى:{إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36]، وامتنّ على عباده بها فقال:{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النّحل:78]، وقال:{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} [المؤمنون:78]، وقال:{ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} [السجدة:9].

وجعل عزّ وجلّ أهل النّار هم الّذين لا ينتفعون بهذه الوسائل الثّلاثة، فقال تعالى:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف من:179].

- وأغلب الآيات تبدأ بذكر القلب لأنّه هو الغاية، فالسّمع والبصر خدمٌ للقلب، وفي آية البقرة بدأ بذكر القلب لأنّ الختم عليه أشدّ، فقد يسمع الإنسان ويبصر ولا يفقه شيئا، قال تعالى في السّمع:{وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:23]، وقال في البصر:{فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: من الآية46].

ولكن، ما سبب هذا الطّبع والختم على القلوب ؟

فاعلم أنّ الختم على القلوب والأسماع، وعمى الأبصار، إنّما سببه: الإصرار على الذّنوب وعدم التّوبة منها.

ومصداق ذلك ما رواه مسلم عن حذيْفَةَ رضي الله عنه قال: سمعت رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يقولُ:

(( تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ:

عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ.

وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا[3] كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا )).

وبدايته " الغين " أو الغيم، كما في صحيح مسلم عن الأَغَرِّ المُزَنِيِّ رضي الله عنه أنّ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي، وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ )).

ولو تساهل المرء في هذه المرحلة ازداد حتّى يصير رانّا، وما بعده الطّبع والختم على القلب عياذا بالله، وأعظمه الإقفال.

قال ابن القيّم رحمه الله في " الوابل الصيّب ":

" وإذا صدئ القلبُ لم تنطبع فيه صور المعلومات على ما هي عليه، فيرى الباطل في صورة الحقّ، والحقّ في صورة الباطل، لأنّه لمّا تراكم عليه الصّدأ أظلم، فلم تظهر فيه صورة الحقائق كما هي عليه، فإذا تراكم عليه الصّدأ، واسودّ وركبه الرّان، فسد تصوّره وإدراكُه، فلا يقبل حقّا، ولا ينكر باطلا، وهذا أعظم عقوبات القلب .." اهـ

ولذا قيل: المعاصي بريد الكفر.

وذكر ابن القيّم في " شفاء العليل " عن أبي معاذ النّحويّ قال:" الرّين أن يسودّ القلب من الذّنوب، والطّبع أن يطبع على القلب وهو أشدّ من الرّين ، والإقفال أشدّ من الطبع وهو أن يقفل على القلب "اهـ.

قال ابن جرير:" إن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها، فلا يكون إليها مسلك، ولا للكفر منها مخلص ".

والله المستعان، وعليه التّكلان.



[1] البيت قاله ثعلبة بن أبي صعير المازنيّ رضي الله عنه يذكر الظّليم والنّعامة وأنّهما تذكّرا بيضهما في أدحيّهما - والأدحيّ هو العشّ في الأرض - فأسرعا إليه.

والرّثيد من رثد المتاع يرثده رثدا، فهو مرثود ورثيد، نضّده ووضع بعضه فوق بعض أو إلى جنب بعض [لسان العرب].

و( ذُكاء )- بضمّ الذّال والمدّ -: اسم للشّمس.

[2] قال في " اللّسان ": " الوَقْرُ: ثِقَلٌ فـي الأَذن، بالفتـح، وقـيل: هو أَن يذهب السمع كله، والثِّقَلُ أَخَفُّ من ذلك ".

[3] المربادّ: هو الأسود فيه قليل من البياض. و( مجخّيا ): أي منكوسا ومقلوبا.

عبد الحليم توميات

آخر المواضيع:

الذهاب للأعلي