ارجـعْ إلى اللهِ واقصدْ بابه كرماً واللهِ واللهِ لا تــلـــقـى ســـوى الله
مَنْ قَبِله فهو المقبول، ومَنْ حاربه فهو المخذول، ومَنْ التجأَ إليه عزَّ وحماه، ومَنْ توَّكل عليه كفاه، ومَنْ أطاعه تولاه، ومَنْ نازعه قَصَمه، ومَنْ بارزه حَطَمه، ومن وحّده أكرمه، ومَنْ أشرك به حرمه.
إن قدَّسْناهُ أو سبَّحْناه أو مجّدْناه فهو الذي علَّمنا.. وإن حَمِدْناه أو كبَّرْناه أو وحَّدناه فهو الّذي ألهمنا.. إن عَبْدناه أو شَكَرْناه أو ذَكَرْناه فهو الّذي أكرمنا.. صفاتُ المدحِ في الكاملين ذرَّةٌ من كماله، ونعوتُ الفضلِ في الأبرار نفحةٌ من أفضاله، وألسنةُ المادحين وأَقلامُ الواصفين حائرةٌ في جلاله ..
إليك وإلاَّ لا تُشَدُّ الركائبُ ومنك وإلا فالمؤمِّل خائبُ
وأشهد أن محمّداً عبده ورسولُه، وصفيّه وخليله، إمام المرسلين، وخاتم النّبيّين .. صاحب الغرّة والتّحجيل، المشهود بالرّسالة في التّوراة والإنجيل.
اللّهمّ صلّ وسلّم على حامل لواء العزّ في بني لؤيّ، وصاحب الطّود المنيف من بني قصيّ ..
اللهمّ صلّ وسلّم على أعظم هادي، وأفضل داع وحادي، وشَرَفِ الحواضرِ والبوادي، وزينةِ المجالس والنّوادي ..
اللهمّ صلّ وسلّم على صاحب المقام المحمود، والحوض المورود، واللّواء المعقود، والفضل المشهود ..
اللهمّ صلّ وسلّم على من اصطفيته من أهل مضر، وجعلته سيّد البشر، ما اتّصلت عين بنظر، وسمعت أذن بخبر..
اللهمّ صلّ وسلّم على من جعلته خاتم الأنبياء، وخير الأولياء، وأبرّ الأصفياء، ومن تركنا على البيضاء، لا يزيغ عنها إلاّ أهل الأهواء.
اللهمّ صلّ عليه وسلّم صلاة وسلاما دائمي النّماء، يملآن ما بين الأرض والسّماء، وعلى آله الأطهار الأنقياء، وأصحابه الأبرار الأتقياء .. وعلى كلّ من تبعهم بإحسان إلى يوم اللّقاء ..
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } [آل عمران:102]{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً (71) }[الأحـزاب]..
ألا إنّ أصدق الكلام كلام الله تعالى، وخير الهدى هدى محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ محدثة بدعة، وكلّ بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة في النّار، أمّا بعد:
فاللّهمّ إنّا نبرأ من الثّقة إلاّ بك، ومن الأمل إلاّ فيك، ومن التّسليم إلاّ لك، ومن التّفويض إلاّ إليك، ومن التّوكلّ إلاّ عليك، ومن الصّبر إلاّ على بابك، ومن الذلّ إلاّ في طاعتك، ومن الرّجاء إلاّ فيما يديك الكريمتين، ومن الرّهبة إلا لجلالك العظيم، اللّهم تتابع برّك واتّصل خيرك، وكمل عطاؤك، وعمّت فضائلك، وتمّت نوائلك، وبرّ قسمك، وصدق وعدك، وحقّ على أعدائك وعيدك، ولم تبق حاجة لنا إلاّ قضيتها ويسّرتها يا أرحم الرّاحمين ..
كـلـمـة الـوداع: ثمّ أمّا بعد ..
ففي مثل هذا اليوم .. وفي مثل هذه الصّبيحة .. كان كثير من السّلف يخرجون إلى النّاس فينادون: أيّها النّاس ! رمضان سوقٌ قام ثمّ انفضّ، ربح فيه من ربح، وخسر فيه من خسر ..
فما أسعد نفوسَ الفائزين ! وما ألذّ عيش المقبولين ! وما أذلّ نفوس العصاة المذنبين ! وما أقبح حال المسيئين المفرّطين !
ذهب الشّهر منتقلاً، وولّى مرتحلاً، فيا تُرى هل رحل حامدًا الصّنيع أو رحل يذمّ التّفريط والتّضييع ؟ فمن أحسن فعليه بالتّمام، ومن فرَّط فليختم بالحسنى فالعمل بالختام.
فيا ربّ تقبّل حسنات المحسنين، وتجاوز عن سّيئات المسيئين. قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم:« لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ بِفِطْرِهِ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ »..
( إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ بِفِطْرِهِ ) وهذا فرح طبيعيّ لجميع المسلمين والمسلمات ..
( وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ ) وذلك يوم الحساب، وهذا الفرح خاصّ بالصّالحين والصّالحات الّذين:
عاشوا أيّاما كانوا فيها زُهّادا، ولياليَ كانوا فيها عُبّادا ..
عاشوا أيّاما نهارها صدقة وصيام، وليلها تلاوة وقِيام ..
عاشوا أيّاما نَسِيمها الذّكر والدّعاء، وطِيبها الدّموع والبُكاء ..
وبعد كلّ ذلك تراهم باكين مشفقين يتساءلون إن كانوا من المقبولين أم من المحرومين المطرودين ؟
ويصدق في حقّهم قول الله تبارك وتعالى: { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) }[المؤمنون].
وقد روى الإمام التّرمذي عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ:{ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ } أَهُمْ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ ؟ قَالَ: (( لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُمْ الَّذِينَ يَصُومُونَ، وَيُصَلُّونَ، وَيَتَصَدَّقُونَ، وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ، أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ )).
ورحم الله سلف هذه الأُمّة، كانوا يحملون همّ قبول الأعمال أكثر من همّ العمل ذاته، قال عبد العزيز بن عبد رُوّاد رحمه الله تعالى: أدركتهم يجتهدون في العمل الصّالح، فإذا فعلوه وقع عليهم الغمّ والهمّ أيُقبل أم لا ؟.. وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: كونوا لقبول العمل أشدّ اهتماما من العمل، ألم تسمعوا قول ربّ العالمين:{ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقِينَ }؟..
وكان ابن عمر رضي الله عنه إذا صلّى ركعتين بكى، فإذا سئل عن ذلك قال: لأن يقبل الله منّي ركعة واحدة أحبّ إليّ من الدّنيا وما فيها، ذلك لأنّ الله يقول:{ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقِينَ } ..
فكذلك كان حالهم بعد انقضاء هذا الشّهر الكريم، كانوا يدعون الله تعالى أشهرا بعد رمضان ليتقبّله الله منهم .. فيا أيّها المقبول هنيئا لك .. ويا أيّها المحروم جبر الله مصابك.
فأعظم عيد يوم يغفر لك ربّ العبيد، وتُزلف الجنّة لكلّ أوّاب حفيظ ..
ما عيدك الفخم إلا يومَ يغفر لك لا أن تجــرَّ بـــه مستــكــبــــراً حُلَلَـك
كم من جديد ثيابٍ دينُـه خلِقٌ تكاد تلعنه الأقطار حــيـــث ســـلَــــك
ومن مرقّـع الأطــمـــار ذي ورَعٍ بكت عليه السّما والأرضُ حين هلك
فلكي لا يعود المسلم بعد هذا الشّهر الكريم من الخائبين، ولكي يكون بإذن الله تعالى من المقبولين، فما عليه إلاّ أن يسلك سبيل المتّقين ..
ولا أجد ما أوصي نفسي به وإيّاكم من خصال المتّقين إلاّ شطرَ آية .. بل قل: جزء من آية ..
كلمات تصلح بها حياة المسلم وتقوم عليها الأمم .. إذا ضيّعتها كانت بالحضيض وإذا أقامتها كانت في أعلى القمم ..
كلمات بها تكون ودونها لا ولن تكون .. ألا وإنّ ذلك هو قول الله تبارك وتعالى:{ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا }[آل عمران 103].. قال أبو العالية: حبل الله توحيده وإخلاص العبادة له، أي: هي لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله .. فأمرنا الله بأن نحرص على ثلاثة أمور:
1- تحقيق لا إله إلاّ الله: والحرص على الثّبات على توحيد الله، والحذر من الوقوع في الشّرك بالله ..
وإنّما نذكّركم معاشر المؤمنين بالحرص على توحيد الله لأمور:
أوّلها: أنّ هذه هي سنّة المرسلين وسنّة النبيّ الصّادق الأمين صلّى الله عليه وسلّم ..
أمّا المرسلون، فاستمع إلى نبيّ الله نوح عليه السّلام ماذا يقول لابنه حين حضرته الوفاة .. فقد روى الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ نُوحًا عليه السّلام لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ لِابْنِهِ: إِنِّي قَاصٌّ عَلَيْكَ الْوَصِيَّةَ: آمُرُكَ بِاثْنَتَيْنِ وَأَنْهَاكَ عَنْ اثْنَتَيْنِ: آمُرُكَ بِـ( لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ) فَإِنَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرْضِينَ السَّبْعَ لَوْ وُضِعَتْ فِي كِفَّةٍ وَوُضِعَتْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فِي كِفَّةٍ رَجَحَتْ بِهِنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَوْ أَنَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرْضِينَ السَّبْعَ كُنَّ حَلْقَةً مُبْهَمَةً قَصَمَتْهُنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَ( سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ ) فَإِنَّهَا صَلَاةُ كُلِّ شَيْءٍ وَبِهَا يُرْزَقُ الْخَلْقُ، وَأَنْهَاكَ عَنْ الشِّرْكِ وَالْكِبْرِ ».
إنّه عليه السّلام يوصِي ابنه الّذي عاين الطّوفان .. الطّوفان الّذي ما جعله الله عذابا إلاّ لأجل الشّرك، ونحن نظنّ أنّه لا يمكن أن يعود أحدٌ إلى الشّرك لو عاين الطّوفان، لكنّ نوحا عليه السّلام لا يفكّر كتفكيرنا، إنّه يعلم أنّه ما دام هناك شيء اسمه الشّيطان، فلا شكّ أنّه لن يقصّر في جرّ النّاس إلى الشّرك والكفران ..
ثمّ انظر إلى إمام الحنفاء إبراهيم عليه السّلام .. وتأمّل كيف كان يتعاهد أبناءه-وهم من الأنبياء- بكلمة التّوحيد، فقال تعالى:{وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }[البقرة132]، وكان يدعو الله متضرّعا قائلا:{ وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ } [إبراهيم 35].. قال ابن عيينة: من يأمن على نفسه الشّرك بعد إبراهيم ؟ أفنحن أكثر أمنا من إبر اهيم ؟! وصدق الله القائل: { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ }.
وتبعه يعقوب عليه السّلام على ذلك، فقال تعالى:{ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [البقرة:133]..
ولا تتعجّبوا إن قلت إنّ الله هو من سنّ هذه السنّة، فلا يزال يذكّر الأنبياء والمرسلين بتوحيده، وينهاهم عن الإشراك به.. فقال: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ }[الزّمر:65] وقال:{ وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ }[يونس:106].. { وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }[القصص:88]،{ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }[يونس:105]..وغير ذلك من الآيات الّتي نقرؤها كلّ يوم..
أمّا نبيّ الله محمّد صلّى الله عليه وسلّم فكان يتعاهد أصحابه رضي الله عنهم- وهم من هم؟ - بالأمر بالتّوحيد، والنّهي عن الإشراك بالله ربّ العبيد ..
فقد روى الإمام أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه والحاكم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْروٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: « إِنَّ الإِيمَانَ لَيَخْلُقُ فِي جَوْفِ أَحَدِكُمْ كَمَا يَخْلُقُ الثَّوْبُ، فَاسْأَلُوا اللهَ أَنْ يُجَدِّدَ الِإيمَانَ فِي قُلُوبِكُمْ ».
وتراه يذهب إلى من ؟ إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، الّذي قال فيه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: « رَضِيتُ لِأُمَّتِي مَا رَضِيَ لَهَا ابْنُ أُمِّ عَبْدٍ » يأتيه فيقول له: (( أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ ؟ قَالَ: « أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ ».
وفي الصّحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ:(( اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ )) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! وَمَا هُنَّ ؟ قَالَ: (( الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلَاتِ )). وغير ذلك ممّا لا يخفى عليكم.
حتّى الشّرك الأصغر كان لا يترك فرصة إلاّ وذكّرهم بخطره، وقبحه وضرره، فقد روى الإمام أحمد وابن ماجه عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ، فَقَالَ: (( أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنْ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ )) قَالَ: قُلْنَا: بَلَى ! فَقَالَ: (( الشِّرْكُ الْخَفِيُّ، أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ يُصَلِّي فَيُزَيِّنُ صَلَاتَهُ لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ )).
بل إنّ الله تعالى ذكر مزايا سبعة عشر رسولا، ثمّ بيّن أنّه لو لقيه أحد منهم بشيء من الشّرك لحبط عنهم عملهم، فقال تعالى:{ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلّاً هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلّاً فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88)}[الأنعام].. وقال لنبيّه وخليله صلّى الله عليه وسلّم:{ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ }[الزّمر:65].
السّبب الثّاني: وهو أنّ الشّرك عاد إلى هذه الأمّة في أبشع صوره، وأقول في أبشع صوره لأنّ المشركين حين دعوا مع الله آلهة أخرى كان عدد تلكم الآلهة ستّين وثلاثمائة، أمّا اليوم فإنّ ثمّة أكثر من خمسين ألف ضريح يعبد من دون الله .. وكلّ ذلك يصدّق خبر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الّذي رواه التّرمذي وغيره عَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَلْحَقَ قَبَائِلُ مِنْ أُمَّتِي بِالْمُشْرِكِينَ، وَحَتَّى يَعْبُدُوا الْأَوْثَانَ )).
وهذا علم من أعلام نبوّته صلّى الله عليه وسلّم، فما نراه في مجتمعنا هذا يندى له جبين المؤمن التقيّ، والمسلم النّقيّ، بدءا من:
الذبح لغير الله تعالى .. ودعاء غير الله تعالى .. والاستغاثة بغير الله تعالى .. والطّواف بغير بيت الله تعالى ..
ثمّ انتشار سبّ الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم ودينه ..
ثمّ انتشار السّحرة والمشعوذين إمّا بصراحة متناهية، أو تحت غطاء الرّقى الشّرعيّة ..
ثمّ انتشار الكهانة باسم الأبراج الّتي ترونها على صفحات الجرائد ..
وإنّك لو سِرت من هنا أو هناك لوجدت النّاس ما زالوا يحاولون دفع العين وغيرها بتعليق الخامسات والتّمائم والأشواك والعجلات وغير ذلك من المبْكيات ..
السّبب الثّالث: الحملات الكفريّة والشّركيّة الّتي تشنّ على ملّة الإسلام .. بدءا من حملات التّنصير إلى حملات التشيّع والتصوّف ..
أمّا المنصّرون فيستغلّون حاجة النّاس وفقرهم ..
وأمّا الشّيعة - الّذين يدّعون لأئمّتهم العصمة وعلم الغيب وتدبير الكون - فتكاثرت قنواتهم الفضائيّة يستغلّون فضول بعض المسلمين فتعلق الشّبه بعقولهم وقلبوهم ..
وأمّا أصحاب الطّرق الصّوفيّة فلا يخفى على أحد نشاطهم، فلم تعُد تمرّ أيّام إلاّ ويشاهد النّاس حصّة من حصص الشّرك بالله، ويسمّونها بغير اسمها، فهذا يسمّيها: تراثا دينيّا، وآخر يسمّيها معلما سياحيّا، وثالث يسمّيها مزارا قوميّا، حتىّ أصبح بعضهم يسمّي بعض القبور بـ"حجّ المساكين ". والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم يسمّيها شركا بربّ العالمين ..
وهذا ممّا ينبغي لنا بيانه، فإنّ الله تعالى يقول:{ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ }[آل عمران 187]..
فآن للعباد أن يتذكّروا عظمة الله، وأن تنحني جباههم أمام عظمته، وأن تخشع قلوبهم لكبريائه وجبروته، وأن يستشعروا دائما وأبدا أنّه سبحانه وتعالى هو الملك .. هو الجبّار .. هو المتكبّر .. هو القهّار .. هو العظيم الّذي تهابه القلوب، وتنشرح لحبّه الصّدور..
ربِّ لك الحمد العظيـــم لذاتـك حـمـدا وليـــس لـــــواحـد إلاّك
إن لم تكن عيني تراك فإنّـني في كلّ شـيء أستبيـن عُلاك
يا أيّها الإنسان مهلا مـا الّذي بالله جــــلّ جــــلالــــه أغــــراك
2- تحقيق شهادة أنّ محمّدا رسول الله : فإيّاكم والإعراض عن سنّة الحبيب المصطفى صلّى الله عليه وسلّم.
فليست هذه الشّهادة مجرّد كلمة تقال، ولكنّها تعني أنّه لا متبوع بحقّ إلاّ محمّدا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم..
أمّا الدّعاوى فما أيسرها .. قال صلّى الله عليه وسلّم: « البَيِّنَةُ عَلَى المُدَّعِي »..
إذا اشتبكت دموع في خدود تبيّن من بكـى ممّن تبـاكى
وكلّ يدّعي وصــــلا بلـيلـــى وليلـى لا تــقـــرّ لـهـــم بذاك
إنّنا نرى رأي العين، ونلمس لمس اليد هوة سحيقة وفجوة عميقة بين المسلمين ونبيّهم صلّى الله عليه وسلّم، من جهة تعظيمه، وحبّه وتكريمه، وطاعته واتّباع سبيله، والأخذ بأمره وقيله ..
فاعلم أيّها المسلم أنّك تنتسب إلى نبيّ أوجب الله على جميع الأنبياء والرّسل اتّباعه .. قال الله تعالى:{ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ }[آل عمران: 81]..
إنّك تنتسب إلى دعوة إبراهيم وبشارة عيسى .. فإبراهيم نادى ربّه قائلا:{ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }[البقرة:129] وعيسى نادى قومه قائلا:{ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ }[الصّف:من الآية 6]..
هذا دعاء الخليل الّذي ردّده الرّهبان .. وذاك نداء عيسى الّذي مشى به الرّكبان ..
سألت نِياق الحيّ عن أكـرم الورى ؟ قالت: نبـيّ بــيــــن البــرايـا مــعــــظّــــما
فقلت لها يا نوق هل تعرفين مقـام محمّـد ؟ قــالــت بطـيبـــة مــقـاما مسلّـما
فقلت لها يا نوق هل نبع الزّلال من كفّه ؟ قالت: وقد أروى الجيوش من الظّما
فقلت لـها يا نـوق هـذا محمّـد ! قـــالت: وقــــد صـــلّى علــيـــه الله وسلّـــــما
فكيف لا نسارع إلى طاعته صلّى الله عليه وسلّم واتّباعه وقد قال فيه المولى:{ فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً } [النساء:65]..
كيف لا نتّبع سنّته شبرا بشبر وقد قال الله:{ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً }[النساء:80]..
كيف لا نتّبع أوامره ولا نجتنب نواهيه وزواجره، وقد قال تعالى:{ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [الحشر 7]..
كيف لا نحبّ ونتّبع من أحبّه الجماد، وحنّ إليه، وحنّ إلى ذكر الله ! فهل قست قلوبنا حتّى صار الجماد ألين منها ؟!
روى البخاري عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه أَنَّ امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! أَلَا أَجْعَلُ لَكَ شَيْئًا تَقْعُدُ عَلَيْهِ ؟ فَإِنَّ لِي غُلَامًا نَجَّارًا. قَالَ: « إِنْ شِئْتِ » فَعَمِلَتْ لَهُ الْمِنْبَرَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ قَعَدَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم عَلَى الْمِنْبَرِ الَّذِي صُنِعَ، فَصَاحَتْ النَّخْلَةُ الَّتِي كَانَ يَخْطُبُ عِنْدَهَا حَتَّى كَادَتْ تَنْشَقُّ، فَنَزَلَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم حَتَّى أَخَذَهَا فَضَمَّهَا إِلَيْهِ، فَجَعَلَتْ تَئِنُّ أَنِينَ الصَّبِيِّ الَّذِي يُسَكَّتُ، حَتَّى اسْتَقَرَّتْ، قَالَ: « بَكَتْ عَلَى مَا كَانَتْ تَسْمَعُ مِنْ الذِّكْرِ ». سمع ذلك أكثر من ألف صحابيّ ..
كيف لا تحنّ قلوبنا إلى من شكا الحيوان إليه، وأقبل جزعا عليه.. روى أبو داود عَنْ ابنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: " كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم فِي سَفَرٍ، فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ، فَرَأَيْنَا حُمَرَةً مَعَهَا فَرْخَانِ، فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا، فَجَاءَتْ الْحُمَرَةُ فَجَعَلَتْ تَفْرِشُ، فَجَاءَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَ: ((مَنْ فَجَعَ هَذِهِ بِوَلَدِهَا ؟ رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْهَا !))..
جاءت إليك حمامة مشتاقـة تشكو إليك بقلب صبٍّ واجف
من أخبر الورقاء أنّ مقـامكم حرم وأنّــك مـنـزل للخــائــف ؟
وروى أبو داود عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ رضي الله عنه قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم حَائِطًا لِرَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَإِذَا جَمَلٌ، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم حَنَّ، وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم فَمَسَحَ ذِفْرَاهُ، فَسَكَتَ، فَقَالَ:(( مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ ؟ لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ؟)) فَجَاءَ فَتًى مِنْ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ ! فَقَالَ: (( أَفَلَا تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللَّهُ إِيَّاهَا، فَإِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ ))..
هذا هو حبّه، شمل وعمّ الإنسان والحيوان والجماد..
{ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }[آل عمران:31]..
هذا حبل الله: ( لاإله إلاّ الله، محمّد رسول الله ) .. ولكن لا بدّ من صرح ثالث:
3- عليكم بالوَحدة والائتلاف وإيّاكم والفرقة والاختلاف:
فإنّ الشّيطان إذا أيس من قوم أوقع بينهم العداوة والبغضاء، والحقد والشّحناء، وليس شيء تقرّ به عين الشّيطان بعد الشّرك بالله مثل الهجر والقطيعة ..
- فإلى كلّ قاطع رحم .. استمع ما رواه البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْ خَلْقِهِ، قَالَتْ الرَّحِمُ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنْ الْقَطِيعَةِ ! قَالَ: نَعَمْ، أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ ؟ قَالَتْ: بَلَى يَا رَبِّ ! قَالَ: فَهُوَ لَكِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ:{ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23)}[محمّد].
واستمع إلى ما رواه مسلم عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ:(( لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ )).
- وإلى كلّ متهاجرين: ما رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ:(( تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا، إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا)).
وفي الصّحيحين عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ::(( لَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ )). أمّا من هجر أخاه سنة، فإليه:
ما رواه أبو داود عَنْ أَبِي خِرَاشٍ السُّلَمِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ:(( مَنْ هَجَرَ أَخَاهُ سَنَةً فَهُوَ كَسَفْكِ دَمِهِ )).
وإنّ من محاسن العيد أنّه شعيرة تتجلّى فيها مظاهر العبودية لله، وفي الوقت نفسه تراه مظاهر للحبّ والمؤاخاة في الله، فالجميع أيْدٍ تتصافح وقلوب تتآلف، وأرواح تتفادى، ورؤوس تتعانق .. تتألّق على شفاههم الابتسامة الصّادقة، وتلهج ألسنتهم بالكلمة الطيّبة والتّهنئة العطرة، ودّ وصفاء .. أخوّة ووفاء .. لقاءات تغمرها حرارة الشوق والمحبة والنقاء.
إنّ هـذا العيـد جــــاء ناشـراً فـيـنا الإخـــــــاء
نازعاً أشجـار حـقــد مصلحاً مـهـدي الصفاء
فلا تُبطلوا هذه المعاني السّامية، بتفاهات نابية، وقلوب قاسية، ارتفعوا إلى تلكم القمم الشّامخة العالية، التي ترفرف عليها راية:{فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة54].
أيهجـر مسلم فينا أخــــاه سنيناً لا يـمدّ له يمينه
أيهجره لأجل حطام دنيــــا أيهجره على نتف لعينه
ألا أين السماحة والتآخي وأين عرى أُخوتنا المتينه
علام نسد أبواب التآخـي ونسكن قاع أحقاد دفينه
ألا فاعلموا أنّ الصّلة: صلة الأرحام أو صلة الإخوان من شعائر الإسلام، شرعها الله في كلّ وقت سائر الأيّام، إلاّ أنّ علماءنا الأعلام يستحبّونها في مثل هذه المواسم لأنّ النّفوس تكون مهيّأة للعفو والصّفح، والرّجوع إلى الصّلح، فتذوب كثير من أغلالها، وتلك نفحة لا بدّ من استغلالها.
جرى بين أخ وإخوانه جفوة وفرقة وعتاب فكتب إليه :
من اليوم تعارفنا ونطوي ماجرى منّا
فلا كان ولا صـار ولا قـلتـــم ولا قلنا
كلمة إلى المرأة:
ولا ننسى أبدا أخواتنا المسلمات..القابضات على الجمر.. لَكُنَّ علينا حقُّ التّواصي بالحقّ، والتّواصي بالصّبر..
أمّا الحقّ الذي أوصيك به فهو أن تُكْثِري من الصّدقة هذا اليوم، ولا تنتظري زوجا إن كنت زوجة، ولا أبا إن كنت بنتا، ولا أخا إن كنت أختا، بل عليك أن تتصدّقي من مالك، فهو أصلح لحالك، فقد كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يحضّ النّساء على الصّدقة أيّام العيد، ويقول: « تَصَدَّقْنَ فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ » !!..ولم يجد النبيّ صلّى الله عليه وسل ما يذكره من العيوب إلاّ أنهن يكفرن العشير، ويُكثِرن اللّعن .. فما بالكنّ بنساء زماننا ..
أمّا الصّبر.. فصبرا صبرا في عهد غربة الإسلام الثّانية، وعصر التّكالب على الدّنيا الفانية ..
وأخيرا..
ألا فاجبُروا طاعتكم !! فإنّ عبادتنا قد أصابتها الجراح، وما أنزل الله من داء إلاّ وأنزل له الدّواء، ودواء الفرائض ما شرعه الله لنا من النّوافل، فإنّ نبيّكم صلّى الله عليه وسلّم قد ندبكم لصيام ستّة أيّام من شوّال، روى مسلم عن أبي أيّوب رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: (( مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتاًّ مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ )).. فبادروا إلى فعل الطاعات وتسابقوا إلى الخيرات..
الخاتمة والدّعـاء ..