السبت 28 ذو الحجة 1431 هـ الموافق لـ: 04 ديسمبر 2010 14:53

- شـرح كتـاب الحـجّ (52) إثم من أفزع أهل المدينة النّبويّة

الكاتب:  عبد الحليم توميات
أرسل إلى صديق

الباب السّادس عشـر: ( التّرهيب من إخافة أهل المدينة أو إرادتهم بسوء ).

الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:

فهذا الباب هو آخر أبواب كتاب الحجّ، عقده المصنّف رحمه الله ليبيّن حُرمة المدينة ومنزلتها عند الله، ومرتبتها عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد كتب الله لمن عظّم حرماته أن يُعظّمه، ويلبسه لباس المهابة ويُكرمه.

وما من أحدٍ جلب على أهل المدينة الخوف والهلع، وأدخل عليهم الفزع، إلاّ أذلّه الله وصغّره، وكساه ثوب مهانة وحقّره، وتتابعت عليه لعنات الخلق أجمعين، ولا يجدُ له من وليّ ولا نصير أو مُعين.

 

* الحديـث الأوّل:

1212-عَنْ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:

(( لَا يَكِيدُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَحَدٌ، إِلَّا انْمَاعَ كَمَا يَنْمَاعُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ )).

[رواه البخاري ومسلم]. وفي رواية لمسلم:

((... وَلَا يُرِيدُ أَحَدٌ أَهْلَ الْمَدِينَةِ بِسُوءٍ، إِلَّا أَذَابَهُ اللَّهُ فِي النَّارِ ذَوْبَ الرَّصَاصِ أَوْ ذَوْبَ الْمِلْحِ فِي الْمَاءِ )).

وقد روي هذا الحديثُ عن جماعة من الصّحابة في " الصّحاح " وغيرها.

· شــرح:

- قوله: ( يَكِيد ): من الكيد، أي: أراد بأهل المدينة سوءا. ومن أخطاء النّاس اليوم إذا أرادوا أن يؤكّدوا الوعد أو القول قالوا: (أكيد) !!

وليس له معنى في اللّغة إلاّ أنّه فعل مضارع لـ( كاد يكيد كيدا ) فتنبّه !

فإذا رام الفصاحة، فعليه أن يقول: مؤكّد. وليس هذا موضع بسط تعليل وجه التّخطئة.

- قوله: ( اِنْمَاعَ): من الميوعة، وهي السّيلان والذّوبان، ومنه يقال للشّيء السّائل: ( مائع ) كالزّيت والماء والخلّ ونحو ذلك.

الشّاهد: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم شبّه أهل المدينة لوفور علمهم، وصفاء قرائحهم بالماء، وشبّه من يريد بهم كيدا وسوءا بالملح.

فعقابه يوم القيامة أنّ الله يُذيبه في النّار كما يذوب الملح في الماء، وفي الرّواية الأخرى: ( ذَوبَ الرَّصَاصِ في النّار ).

* الحديث الثّـانـي:

1213-وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه:

أَنَّ أَمِيرًا مِنْ أُمَرَاءِ الْفِتْنَةِ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، وَكَانَ قَدْ ذَهَبَ بَصَرُ جَابِرٍ، فَقِيلَ لِجَابِرٍ: لَوْ تَنَحَّيْتَ عَنْهُ، فَخَرَجَ يَمْشِي بَيْنَ ابْنَيْهِ، فَانْكَبَّ، فَقَالَ: تَعِسَ مَنْ أَخَافَ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ! فَقَالَ ابْنَاهُ أَوْ أَحَدُهُمَا: يَا أَبَتِ ! وَكَيْفَ أَخَافَ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ مَاتَ ؟! قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:

(( مَنْ أَخَافَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ، فَقَدْ أَخَافَ مَا بَيْنَ جَنْبَيَّ )).

[رواه أحمد ورجاله رجال "الصّحيح"]. ورواه ابن حبان في "صحيحه" مختصرا، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( مَنْ أَخَافَ أَهْلَ المَدِينَةِ أَخَافَهُ اللهُ )).

· شــرح:

- قوله: ( أَنَّ أَمِيرًا مِنْ أُمَرَاءِ الْفِتْنَةِ قَدِمَ الْمَدِينَةَ ): يقصِد فتنة الحرّة الّتي أجّج نارها وزاد أوراها مسلم بن عقبة، حيث استُبِيحت فيها المدينة ثلاثة أيّام.

- قوله: ( مَنْ أَخَافَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ، فَقَدْ أَخَافَ مَا بَيْنَ جَنْبَيَّ ): وهذا وعيد شديد لمن أحدث في المدينة جنايةً يُخيف بها أهل المدينة، فإنّه يكون بذلك قد آذى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والله يقول:{ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ التّوبة من: (61)]، ويقول:{ إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً (57)} [الأحزاب].

* الحديثان: الثّالث والرّابع.

1214-وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:

(( اللَّهُمَّ مَنْ ظَلَمَ أَهْلَ المَدِينَةِ وَأَخَافَهُمْ فَأَخِفْهُ، وَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ، وَالمَلاَئِكَةِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلاَ عَدْلٌ )).

[رواه الطبراني في "الأوسط"، و"الكبير" بإسناد جيّد].

1215-وروى النّسائي، والطّبراني، عَنِ السَّائِبِ بْنِ خَلاَّدٍ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

(( اللّهُمَّ مَنْ ظَلَمَ أَهْلَ المَدِينَةِ وَأَخَافَهُمْ فَأَخِفْهُ، وَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ، وَالمَلاَئِكَةِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لاَ يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلاَ عَدْلاً )).

· شــرح:

اختلف العلماء في شرح معنى ( الصّرف )، و( العدل ) على أقوال لكثيرة، بلغت عشرة، ذكرها الحافظ في " فتح الباري "، وذكر المصنّف بعضا منها، أهمّها:

- (الصّرف): هو الفريضة، و(العدل): التطوّع، قاله سفيان الثّوري.

- وقيل بالعكس: ( الصّرف ): هو النّافلة، و( العدل ) هو الفريضة، وهذا قاله الحسن البصريّ.

- وقيل: ( الصّرف): التوبة، و( العدل ): الفدية، قاله مكحول والأصمعيّ.

- وقيل: ( الصّرف): الاكتساب، أي عمله لنفسه، و( العدل ): الفدية، قاله يونس بن حبيب.

- وقيل: ( الصّرف ): الوزن، و( العدل ): الكيل، قاله ابن دريد.

وقيل غير ذلك.

- وأحسن من ذلك قول من قال: ( الصّرف ) الشّفاعة، و( العدل ): الفدية، فيوافق قوله تعالى:{ وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ } [البقرة: من الآية 48]، لأنّ الشّفاعة تصرف العذاب، وبهذا جزم البيضاوي.

وبهذا نأتي على نهاية " كتاب الحجّ " من صحيح التّرغيب والتّرهيب.

وجزى الله عنّا كلّ خير من دعا لنا بظهر الغيب أن يثبّتنا الله على الهدى، ويُجنّبنا مزالق الهوى والرّدى.

نسأل الله تعالى بأسمائه الحُسنى، وصفاته العُلى، أن يُعلّمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علّمنا، وأن يزيدنا علما.

نسأله تعالى الّذي بيده خزائن السّموات والأرض أن يُيسّر للمسلمين والمسلمات حجّ بيته الحرام، وأن يحُطّ عنّا وعنهم المعاصي والآثام، وأن يحشرنا مع سيّد الأنام، حبيبنا وقرّة أعيننا محمّد عليه الصّلاة والسّلام، إنّه وليّ ذلك والقادر عليه.

سبحانك اللهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلاّ أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

عبد الحليم توميات

آخر المواضيع:

الذهاب للأعلي