ففي صحيح البخاري أنّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قال لهم يَوْمَئِذٍَ: (( قَدْ أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ، رَأَيْتُ سَبْخَةً ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لَابَتَيْنِ وَهُمَا الْحَرَّتَانِ )).
جاءت هذه الرّؤيا لتبعث الحياة من جديد لدعاة التّوحيد، بعد أن ضاقت مكّة بأحلامهم، وارتجّت بهم الأرض وهو يريدون تحقيق آمالهم.
ولكنّ الله تبارك وتعالى كتب لهم مرحلة جديدة من مراحل الدّعوة الإسلاميّة .. إنّها مرحلة الهجرة النبويّة ..
تلك المرحلة الّتي كتب الله لها أن تغيّر وجه التّّاريخ، وتنتقل بالبشريّة من حضيض الجهل والوثنيّة إلى قمّة العلم وعبادة ربّ البريّة ..
ومن الواجب علينا نحن أيضا أن نضع رحالنا عند عتبة فضائل الهجرة وأهمّيتها، وعلوّ منزلتها ومرتبتها ..
مقاصد الهجرة في سبيل الله:
فإنّ الله تعالى قد فتح لعباده باب الهجرة وجعلها من أعظم أبواب العبادة، فبعد هجر الشّرك والأدناس، يأمرهم سبحانه بأن يهجروا أعظم ما لدى النّاس، ألا وهو هجر الأوطان في سبيل الله.
ولم تكن أمر الهجرة غريبا عن أهل الإسلام .. فقد كانوا يقرؤون أخبار الأنبياء والمرسلين .. قرؤوا قوله تعالى أنّ خليل الله إبراهيم عليه السّلام أُخرِج من أرضه، فقال تعالى:{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [العنكبوت:26]، وكأنّ من مقتضيات الإيمان الهجرة إلى الله ..
قال الإمام الطّبري رحمه الله:
" وهذه القصّة الّتي قصّ الله من نبإ إبراهيم عليه السّلام وقومه تذكيرٌ منه بـ.. أنّه مخرجه من بين أظهرهم كما أخرج إبراهيم عليه السّلام من بين أظهر قومه حين تمادوا في غيّهم إلى مهاجره من أرض الشّام ... ومعلّمه أنّه منجّيه منهم كما نجّى أباه إبراهيم عليه السّلام من كفرة قومه " اهـ.
ولا بدّ أن نعلم أنّ الله تعالى لم يشرع الهجرة على سبيل النّدب والتّخيير، ولم يجعلها بالشّيء الهيّن اليسير، ولكنّ الله شرعها عزّ وجلّ على سبيل الإلزام، وجعلها من أعظم الفرائض على أهل الإسلام .. قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء:97].
كلّ ذلك لعِظم أهدافها، وأهمّية مقاصدها .. فإنّ من مقاصد الهجرة:
1- هجر المكان الذي يُكفر فيه بالله، بل بالغ بعضهم فأوجبها من دار المعصية.
نقل الحافظ ابن حجر رحمه الله عن بعض أهل العلم أنّه يجب على كلّ من كان بِبَلد يُعمل فيها بالمعاصي، ولا يمكنُه تغييرُها: الهجرةُ إلى حيث تتهيّأ له العبادة؛ لقوله تعالى:{فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}.
2-تكثيف سواد المسلمين.
حتّى جعلها من أسباب الوِلاية، وتركها ينقض هذه الولاية، فقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: من الآية72].
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73]:" أي: إن لم تُجانبوا المشركين وتوالوا المؤمنين وقعت الفتنة في النّاس، وهو التباس الأمر واختلاط المؤمنين بالكافرين، فيقع بين النّاس فساد منتشر عريض طويل ".
3-تيسير الجهاد على أهل الإسلام.
وقد سبق أن ذكرنا في الحلقات السّابقة أنّ القتال حرّم قبل الهجرة لعدم تمييز صفّ الإيمان من صفّ الكفر، قال تعالى:{وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَأُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [الفتح: من الآية25].
4-أنّ البقاء بينهم ذريعة إلى موافقتهم.
وقد أشار إلى ذلك العالم الذي أفتى قاتل التّسعة وتسعين نفسا، حيث قال له: (( وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَك وَبَيْنَ التَّوْبَةِ ؟ انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللهَ، فَاعْبُدْ اللَّهَ مَعَهُمْ، وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ )).
قال صدّيق حسن خان رحمه الله تعالى في " العبرة ممّا جاء في الغزو والشّهادة والهجرة " (217):
" وقد استُدلّ بهذه الآية على أنّ الهجرة واجبة على كلّ من كان بدار الشّرك، أو بدار يُعمل فيها بمعاصي الله جهارا إذا كان قادرا على الهجرة، ولم يكن من المستضعفين، لما في هذه الآية من العموم، وإن كان السّبب خاصّا .. وظاهرها عدم الفرق بين مكان ومكان، وزمان وزمان "اهـ.
إلاّ على من كان داعيا إلى الله تعالى ويُرجى منه بثّ ونشر الحقّ بين النّاس فلا بأس بمكثه.
وأحاط الله هذا الواجب بالأجر العظيم ترغيبا في الحرص عليها، فقد ثبت لها من الفضل والثّواب، بقدر ما قارنها من المشقّة والعذاب.
فضائل الهجرة:
لقد ذكرها الله تعالى أربعة وعشرين مرّة في كتابه الكريم، فصارت معلما لأهل الإيمان، ويظهر فضلها من وجوه كثيرة منها:
1- أنّها كانت تنعقد عليها البيعة، ففي الصّحيحين عن عبدِ اللهِ بنِ عمْرِو بنِ العاصِ رضي الله عنه قال: أَقْبَلَ رَجُلٌ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَ: أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ أَبْتَغِي الْأَجْرَ مِنْ اللَّهِ.
2-أنّ الله وعد المهاجر في سبيله إحدى الحسنيين:
أ) النّصر والغنيمة وإرغام الكفّار، فقال تعالى:{وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} [النساء: من الآية100].
(مراغما): أي مكانا يُرغِم فيه أنوفَ الكفّار، (وسعة) في الرّزق والأمن والصّدر.
ب) أو يموت في الطّريق فهو قد نال ثواب الله، قال تعالى:{وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ}، وهذه الآية عامّة لكلّ من خرج مهاجرا ومات في الطّريق.
وقد كان بعضهم يمثّل لهذه الآية ببعض الأفراد، فقال عكرمة مولى ابن عبّاس رضي الله عنه:" طلبت اسمَ هذا الرّجل أربع عشرة سنة حتّى وجدته ".
وكان يقصد ضمرة بن العيص أو العيص بن ضمرة، حكاه الطبري عن سعيد بن جبير، وكان من المستضعفين بمكّة وكان مريضا، فلمّا سمع ما أنزل الله في الهجرة قال: أخرجوني ! فهُيِّءَ له فراش، ثمّ وُضِع عليه وخرج به فمات في الطّريق بالتنعيم.
3-ومن فضلها أنّها تدحر الشّيطان الرّجيم، حتّى قرنها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالإسلام والجهاد في سبيل الله تعالى.
روى الإمام أحمد والنّسائي عن سَبْرَةَ بنِ أبي فَاكِهٍ رضي الله عنه قال: سمعت رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يقول:
(( إِنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لِابْنِ آدَمَ بِأَطْرُقِهِ:
فَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ: تُسْلِمُ وَتَذَرُ دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ وَآبَاءِ أَبِيكَ ؟ فَعَصَاهُ، فَأَسْلَمَ.
ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ: تُهَاجِرُ وَتَدَعُ أَرْضَكَ وَسَمَاءَكَ ؟! فَعَصَاهُ فَهَاجَرَ.
ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْجِهَادِ، فَقَالَ: تُجَاهِدُ ؟ فَهُوَ جَهْدُ النَّفْسِ وَالْمَالِ فَتُقَاتِلُ فَتُقْتَلُ فَتُنْكَحُ الْمَرْأَةُ وَيُقْسَمُ الْمَالُ ؟! فَعَصَاهُ فَجَاهَدَ )) فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ قُتِلَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَإِنْ غَرِقَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ وَقَصَتْهُ دَابَّتُهُ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ )).
وهذه الفضائل، وتحقيق هذه المقاصد، لا يناله المرء إلاّ بعد جهدٍ جهيد.
فجاء الأمر من الله تعالى بالهجرة، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من معه بمكّة بالخروج إلى المدينة والهجرة إليها، فخرجوا أرسالا، وأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكّة ينتظر أن يأذن الله له ربّه بالخروج ..
فكان أوّل من هاجر من المسلمين:
أبو سلمة بن عبد الأسد - ثمّ عامر بن ربيعة ومعه امرأته ليلى بنت أبي حثْمة - ثمّ عبد الله بن جحش، هاجر بأهله وأخيه عبد بن جحش وكان ضريرا - ثمّ خرج عمر بن الخطّاب - وعيّاش بن أبي ربيعة - وهشام بن العاص رضي الله عنهم ..
ولنا أن نقف مع هجرة بعضهم لاحقا إن شاء الله تعالى.