الاثنين 24 ذو القعدة 1431 هـ الموافق لـ: 01 نوفمبر 2010 17:52

- أصول اعتقاد السّلف (7) مراعاة قواعد الاستدلال بالنّقول

الكاتب:  عبد الحليم توميات
أرسل إلى صديق

الأصل الخامس: مراعاة قواعد الاستدلال بالنّقول.

ممّا تميّز به أهل السنّة والجماعة مراعاة أصول وقواعد الاستدلال عند النّظر في النّصوص، فتراهم:

- أوّلا: يأخذون بالظّاهر الّذي يدلّ عليه النصّ في جميع أمورهم:

سواء فيما يتعلّق بأسماء الله وصفاته، أو فيما يتعلّق بالإيمان بألوهيّته، وأنبيائه واليوم الآخر وغير ذلك، ولا يصرفون اللّفظ عن ظاهره إلاّ بنصّ آخر أو إجماع.

بخلاف أهل البدع الّذين يصرفون ظواهر النّصوص دون دليل، وإن أخذوا بالظّاهر فإنّهم يبترونه فيأخذون ببعضه دون بعضه الآخر، فأهل السنّة يأخذون بظاهر القول، وأهل البدع يأخذون بظاهر من القول.

- ثانيا: يجمعون بين النّصوص ما استطاعوا، لأنّ في الأخذ ببعضها إهمالا لبعضها الآخر.

- ثالثا: يقدّمون النصّ الخاصّ على العامّ، والمقيّد على المطلق، والمبيّن على المجمل.

وبالجملة فهم يردّون المتشابه إلى المحكم، سائرون على ما ذكره الله في كتابه قائلا:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران:7].

روى البخاري ومسلم عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم هَذِهِ الْآيَةَ، قَالَ: (( فَإِذَا رَأَيْتِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكِ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ )).

قال الإمام الشّاطبيّ رحمه الله في " الاعتصام " (1/245):

" من اتّباع المتشابهات الأخذ بالمطلقات قبل النّظر في مقيِّداتها، وبالعمومات من غير تأمّل: هل لها مخصِّصَات أم لا ؟

وكذلك العكسن بأن يكون النصّ مقيّدا فيُطلَق، أو خاصّا فيُعَمّ بالرّأي من غير دليل سواه.

فإنّ هذا المسلك رميٌ في عماية، واتّباع للهوى في الدّليل، وذلك أنّ المطلق المنصوص على تقييده مشتبِهٌ إذا لم يُقيّد، فإذا قُيِّد صار واضحا، كما أنّ إطلاق المقيّد رأي في ذلك المقيّد معارض للنصّ من غير دليل ".

روى ابن بطّة في " الإبانة الكبرى " (2/609) عن أيّوب السّختياني رحمه الله قال:" ما أعلم أحدا من أهل الأهواء إلاّ يخاصم بالمتشابه ".

* من الأمثلة على أخذهم بالمتاشبه:

  • * من أمثلة العموم: تراهم يتمسّكون بقوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} في نفي وتعطيل أو تأويل صفات الله الاختيارية وصفات الذّات، ثمّ لا يستصحبون عموم الآية في نفي ما أثبتوه كذات الله وصفات المعاني، فهم ملزمون بأحد أمرين:

1-   إمّا نفي جميع الصّفات.

2-   أو إثباتها كما هو مذهب السّلف، فقد قال تعالى بعد:{وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}.

لذلك ألزمهم علماء أهل السنّة أنّ: ( القول في الصّفات كالقول في الذّات )، و( القول في بعض الصّفات كالقول في بعضها الآخر ).

  • * من أمثلة العموم أيضا: إنكار بعضهم حديث الجسّاسة استدلالا بما رواه البخاري ومسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِشَهْرٍ: (( أُقْسِمُ بِاللَّهِ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ تَأْتِي عَلَيْهَا مِائَةُ سَنَةٍ ))[1].

مع أنّ حديث الجسّاسة مثل هذا الحديث في درجة الصحّة، إذ كلاهما رواهما مسلم.

وكان بوسعهم أن يقولوا إنّ حديث جابر رضي الله عنه عامّ، وحديث الجسّاسة خاصّ، فيقدّم الخاصّ على العامّ.

ثمّ تراهم يغفلون عن هذا العموم الّذي أخذوا به في إثبات حياة الخضِر عليه السّلام !

  • * من أمثلة تركهم الجمع بين النّصوص: حين أنكروا صفة اليدين لله تعالى.

ومذهب أهل السنّة أنّ لله تعالى يدين تليقان بجلاله، قال ابن خزيمة رحمه الله تعالى في " كتاب التّوحيد "(1/118):

" باب ذكر إثبات اليد للخالق البارئ جلّ وعلا، والبيان أنّ الله تعالى له يدان كما أعلمنا في محكم تنزيله.. "، ثمّ سرد جملة من النّصوص من الكتاب والسنّة.

ومن الواجب أن نعلم أنّ أئمّة الأشاعرة المتقدّمين قالوا بإثبات صفة اليدين وغيرها من النّصوص الخبريّة لله تعالى، كما قال الإمام أبو الحسن الأشعري في"مقالات الإسلاميين"(1/345)، و" الإبانة "(ص41)، وبذلك قال ابن فورك كما في " مشكل الحديث "(224)، والباقلاني في " تمهيد الأوائل "(ص295)، والبيهقي في" الأسماء والصّفات "(ص399)، و"الاعتقاد"(ص35).

ولا يمكن تأويل اليد في هذه النّصوص بالقدرة، لأمور:

الأوّل: أنّه لا بدّ من الأخذ بالظّاهر.

الثّاني: أنّ الله تعالى قال لإبليس في مقام تعظيم آدم عليه السّلام:{مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ}.

وبهذه الصّفة يذكّر أهل الموقف أبانا آدم عليه السّلام على شرفه وجاهه عند ربّه حيث يقولون: ( خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه ..) الحديث.

وبها ذكّر آدمَ ولدُه موسى عليه السّلام، حيث قال: ( اصطفاك الله بكلامه، وخطّ لك التّوراة بيده ..)، وفي رواية: ( كتب لك التّوراة بيده ..).

قال صدّيق حسن خان في " قطف الثّمر في بيان عقيدة أهل الأثر "(ص55):

" فلو كانت اليد هي القدرة، لم يكن لها اختصاص بذلك، ولا كانت لآدم فضيلة بذلك على شيء ممّا خُلق بالقدرة ..".

* من أمثلة اتّباع المتشابه:

ما استدلّ به نفاة عذاب القبر وهو قوله تعالى:{قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يـس: من الآية52].

قال ابن كثير رحمه الله: " وهذا لا ينفي عذابهم في قبورهم؛ لأنّه بالنّسبة إلى ما بعده في الشدّة كالرّقاد.

وقال أبيّ بن كعب رضي الله عنه، ومجاهد، والحسن، وقتادة: ينامون نومة قبل البعث، قال قتادة: وذلك بين النفختين ".

ومن أجل هذا الأصل العظيم، وهو مراعاة قواعد الاستدلال، كان من خصائص أهل السنّة أمران عظيمان:

أوّلهما: دقّة وسرعة الفهم.

قال ابن تيمية رحمه الله في " مجموع الفتاوى " (4/9-10):

" فهم أكمل النّاس عقلا، وأعدلهم قياسا، وأصوبهم رأيا، وأسدّهم كلاما، وأصحّهم نظرا، وأهداهم استدلالا، وأقومهم جدلا، وأتمّهم فراسة، وأصدقهم إلهاما، وأحدّهم بصرا ومكاشفة، وأصوبهم سمعا ومخاطبة، وأعظمهم وأحسنهم وجدا وذوقا، وهذا هو للمسلمين بالنّسبة إلى سائر الأمم ولأهل السنّة والحديث بالنّسبة إلى سائر الملل.

فكلّ من استقرأ أحوال العالم وجد المسلمين أحدّ وأسدّ عقلا، وأنّهم ينالون في المدّة اليسيرة من حقائق العلوم والأعمال أضعافَ ما يناله غيرهم في قرون وأجيال.

وكذلك أهل السنّة والحديث، تجدهم كذلك متمتّعين، وذلك لأنّ اعتقاد الحقّ الثّابت يُقَوِّي الإدراك ويصحّحه، قال تعالى:{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً (17)} [محمّد]، وقال:{وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً (68)} [النّساء].

وهذا يُعلم تارة بموارد النّزاع بينهم وبين غيرهم، فلا تجد مسألة خولفوا فيها إلاّ وقد تبيّن أنّ الحقّ معهم، وتارة بإقرار مخالفيهم ورجوعهم إليهم دون رجوعهم إلى غيرهم ".

الثّانية: مذهب السلف وسَطٌ بين المذاهب وسطيَّة الأمة بين الأمم.

وهذه ميزةٌ من ميزات أهل السنة والجماعة،  قال ابن تيمية رحمه الله في " العقيدة الواسطيّة " وهو يبيّن أهمّ خصائص أهل السنّة:

" هم الوسط في فرق الأمّة، كما أنّ الأمّة هي الوسط في الأمم:

فهم وسط في باب صفات الله سبحانه وتعالى بين أهل التّعطيل " الجهميّة " وأهل التّمثيل " المشبّهة ".

وهم وسط في باب أفعال الله بين " الجبرية " و" القدريّة " وغيرهم.

وفي باب وعيد الله بين " المرجئة " و" الوعيديّة " من القدريّة وغيرهم.

وفي باب أسماء الإيمان والدّين بين الحرورية والمعتزلة وبين المرجئة والجهميّة.

وفي أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين الرّافضة والخوارج " اهـ.

وسبب هذه الوسطيّة هو أنّهم يجمعون بين الأدلّة ويعلمون بقواعد وطرق الاستدلال.

وتفصيل ما ذكره شيخ الإسلام في شرح أصول الإيمان الستّة.


[1] قال الحافظ في " فتح الباري " (2/393): " قد بيّن ابن عمر رضي الله عنه في هذا الحديث مراد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأنّ مراده أنّ عند انقضاء مائة سنة من مقالته تلك ينخرم ذلك القرن، فلا يبقى أحدٌ ممّن كان موجودا حال تلك المقالة، وكذلك وقع بالاستقراء، فكان آخر من ضبط أمره ممّن كان موجودا حينئذ أبو الطفيل عامر بن واثلة، وقد أجمع أهل الحديث على أنه كان آخر الصّحابة موتا، وغاية ما قيل فيه إنّه بقي إلى سنة عشر ومائة، وهي رأس مائة سنة من مقالة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والله أعلم ".

أخر تعديل في السبت 14 ذو الحجة 1431 هـ الموافق لـ: 20 نوفمبر 2010 13:59
الذهاب للأعلي