فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ ! بَلْ أَجِبْنِي عَمَّا كُنْتُ أَسْأَلُكَ. قَالَ:
(( جِئْتَ تَسْأَلُنِي عَنِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ )).
فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ مَا أَخْطَأْتَ مِمَّا كَانَ فِي نَفْسِي شَيْئًا. قَالَ:
(( فَإِذَا رَكَعْتَ فَضَعْ رَاحَتَيْكَ عَلَى رُكْبَتَيْكَ، ثُمَّ فَرِّجْ أَصَابِعَكَ، ثُمَّ اسْكُنْ حَتَّى يَأْخُذَ كُلُّ عُضْوٍ مَأْخَذَهُ، وَإِذَا سَجَدْتَ فَمَكِّنْ جَبْهَتَكَ وَلاَ تَنْقُرْ نَقْرًا، وَصَلِّ أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ )).
فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ ! فَإِنْ أَنَا صَلَّيْتُ بَيْنَهُمَا ؟ قَالَ:
(( فَأَنْتَ إِذًا مُصَلٍّ. وَصُمْ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلاَثَ عَشْرَةَ، وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَخَمْسَ عَشْرَةَ )).
فَقَامَ الثَّقَفِيُّ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الأَنْصَارِيِّ، فَقَالَ:
(( إِنْ شِئْتَ أَخْبَرْتُكَ عَمَّا جِئْتَ تَسْأَلُنِي، وَإِنْ شِئْتَ تَسْأَلُنِي وَأُخْبِرُكَ ؟)).
فَقَالَ: لاَ يَا نَبِيَّ اللهِ ! أَخْبِرْنِي بِمَا جِئْتُ أَسْأَلُكَ. قَالَ:
(( جِئْتَ تَسْأَلُنِي عَنِ الحَاجِّ مَا لَهُ حِينَ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ ؟ وَمَا لَهُ حِينَ يَقُومُ بِعَرَفَاتٍ ؟ وَمَا لَهُ حِينَ يَرْمِي الجِمَارَ ؟ وَمَا لَهُ حِينَ يَحْلِقُ رَأْسَهُ ؟ وَمَا لَهُ حِينَ يَقْضِي آخِرَ طَوَافٍ بِالبَيْتِ ؟ )).
فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ ! وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ مَا أَخْطَأْتَ مِمَّا كَانَ فِي نَفْسِي شَيْئًا. قَالَ:
(( فَإِنَّ لَهُ حِينَ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ أَنَّ رَاحِلَتَهُ لاَ تَخْطُو خَطْوَةً إِلاَّ كَتَبَ اللهُ بِهَا حَسَنَةً، أَوْ حَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً.
فَإِذَا وَقَفَ بِـ(عَرفَةَ) فَإِنَّ اللهَ عزّ وجلّ يَنْزِلُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَقُولُ: اُنْظُرُوا إِلَى عِبَادِي شُعْثًا غُبْرًا، اِشْهَدُوا أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ ذُنُوبَهُمْ وَإِنْ كَانَتْ عَدَدَ قَطْرِ السَّمَاءِ وَرَمْلِ عَالِجٍ.
وَإِذَا رَمَى الجِمَارَ لاَ يَدْرِي أَحَدٌ مَا لَهُ حَتَّى يَتَوَفَّاهُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ.
وَإِذَا حَلَقَ رَأْسَهُ، فَلَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَقَطَتْ مِنْ رَأْسِهِ نُورٌ يَوْمَ القِيَامَةِ.
وَإِذَا قَضَى آخِرَ طَوَافٍ بِالبَيْتِ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ )).
[رواه البزار، والطّبراني، وابن حبّان في "صحيحه"، واللّفظ له].
· شــرح الحديـث:
- سبق أن شرحنا مثل هذا الحديث، وأنّه ما من عمل من أعمال الحجّ إلاّ وفيه من الأجر العظيم، والخير العميم ما لا يُحصيه إلاّ الله تبارك وتعالى.
- كما رأينا أنّ هذا الحديث من دلائل نبوّته صلّى الله عليه وسلّم، حيث أخبرهما بما جاءا يسألان عنه، وحرص صلّى الله عليه وسلّم على ذلك ليقذف الله اليقين في قلوبهما، والطّمأنينة في صدورهما.
- قوله صلّى الله عليه وسلّم: (( سَبَقَكَ الأَنْصَارِيُّ )) دليل على أنّ من سبق إلى شيء فهو أولى به، وأنّ من آدب العالم أن يقدّم من السّائلين الأسبق.
- قول الأنْصاريّ: ( إِنَّهُ رَجُلٌ غَرِيبٌ، وَإِنَّ لِلْغَرِيبِ حَقًّا، فَابْدَأْ بِهِ ): فيه حرص الصّحابة على مكارم الأخلاق، إذ لم يحمِلْه شغفه بالتعلّم على يد أعلم الخلق صلّى الله عليه وسلّم على أن ينسى حقّ الغريب، وأنّ الرّغبة في العلم ليست مسوِّغا للتّفريط في الآداب الشّرعيّة، والأخلاق المرعيّة.
- قوله: ( جِئْتَ تَسْأَلُنِي عَنِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ ): إنّما سأل الثّقفيّ عن الصّلاة وأركانها والصّيام، وسأل الأنصاريّ عن الحجّ، لأنّ ثقيفا هم أهل الطّائف، أسلموا العام الثّامن، فهو حديث عهدٍ بإسلام، فلا بدّ أن يسأل عن الأولى فالأولى.
- بيّن له النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أمرين ثلاثة أمور مهمّة:
أ) الأوّل: الحِرص على الطّمأنينة في الصّلاة، وهي ركن من أركان الصّلاة، وضابط الطّمأنينة قوله صلّى الله عليه وسلّم له: (( حَتَّى يَأْخُذَ كُلُّ عُضْوٍ مَأْخَذَهُ )).
وإنّما فصّل له النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كيفية الرّكوع وأين يضع يديه وكيف يفرّج أصابعه قابضا على ركبتيه، لأنّ مِن شأن من يتعاهد نفسه في ذلك أن يطمئنّ في صلاته، ويأتي بالرّكوع على وجهه، لا كما يفعله كثيرٌ من العوامّ فتراه لا يُقِيم صلبه في الرّكوع من غير عذر.
وبعد ما أمره بالطّمأنينة في الرّكوع أمره بالطّمأنينة في السّجود أيضا، فقال: (( وَإِذَا سَجَدْتَ، فَمَكِّنْ جَبْهَتَكَ، وَلاَ تَنْقُرْ نَقْرًا )).
وتأمّل كيف يعلّم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم النّاس ما يحتاجون إليه، ممتثلا قول الله تعالى:{ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ }، قال البخاري في " صحيحه ":
" قال ابن عبّاس رضي الله عنه:{ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ }:حُلماء فقهاء، ويقال: الرّباني الّذي يربّي النّاس بصغار العلم قبل كباره".
ب) الأمر الثّاني الّذي بيّنه له: الإكثار من صلاة التطوّع.
حيث قال صلّى الله عليه وسلّم: (( فَأَنْتَ إِذًا مُصَلٍّ )). وفي حديث: (( الصَّلاَةُ خَيْرُ مَوْضُوعٍ، فَمَنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يَسْتَكْثِرَ، فَلْيَسْتَكْثِرْ )).
وخصّه بصلاتين:
الأولى: صلاة أوّل النّهار، والمقصود بها صلاة الضّحى.
الثّانية: صلاة آخر النّهار، وهو قيام اللّيل.
ت) الأمر الثّالث الّذي أوصاه به: صيام أيّام البِيض: لقوله: (( وَصُمْ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلاَثَ عَشْرَةَ، وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَخَمْسَ عَشْرَةَ )) [" صحيح التّرغيب والتّرهيب " (390)].
وهذه وصيّة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لأبي ذرّ وأبي هريرة رضي الله عنهما، فكلاهما قال:
( أَوْصَانِي خَلِيلِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَلَاثٍ: بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَكْعَتَيْ الضُّحَى، وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَرْقُدَ).
- وتتمّة الحديث سبق شرحه. بقي علينا أن نبيّن حكما مهمّا:
- أنّ المبيت بمزدلفة واجب على الصّحيح من أقوال أهل العلم، وهو مذهب أحمد.
إلاّ الرّعاة، والسّقاة، وأهل الأعذار من الضّعفاء والمرضى، ومن يقوم عليهم فيحلّ لهم أن يفيضوا منها بعد نصف اللّيل.
وذهب الجمهور إلى أنّ الواجب هو الوقوف بها لا المبيت، بل قال الشّافعيّة: يكفي المرور بها.
والأصل أنّ مناسك الحجّ واجبة لقوله صلّى الله عليه وسلّم: (( خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ )) والمقرّر أنّ الفعل مفسِّرٌ للقول، وحكم الفعل حكم القول، إلاّ إذا ثبت الدّليل على عدم الوجوب.
- ثمّ إذا تبيّن الفجر الثّاني صلّى الفجر مبكّرا، ويقف عند المشعر الحرام وهو جبل مزدلفة، يستقبل القبلة ويدعو الله تعالى ويكبّره ويهلّله ويوحّده، ويبقى على ذلك حتّى يُسفِر جدّا. والحديث في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه..