[" المدوّنة " (1/100)، و"الاستذكار" (6/201)، و" الأمّ " (8/814)، و" المجموع " (3/494)].
· القول الثّاني: أنّه منسوخ، والعمل به بدعة، وهو قول الإمام أبي حنيفة رحمه الله.
[" المبسُوط "(1/165)، و" فتح القدير " لابن الهُمام (1/431)].
· القول الثّالث: أنّه لا يُشرع إلاّ في النّازلة، وهو قول الإمام أحمد رحمه الله وبعض متأخّري الحنفيّة.
[" المغنِي " (2/587)، و" فتح القدير " (1/434)].
· القول الرّابع: أنّه يجوز فعله وتركه، وهو قول الثّوريّ، والطّبريّ، وابن حزم، وابن القيّم رحمهم الله.
[" تهذيب الآثار " للطّبريّ (1/337)، و" المحلّى " (4/143)، و" زاد المعاد "(1/274)].
ولا شكّ أنّ لكلّ مذهبٍ أدلّته، والنّاظر في أدلّتهم رحمهم الله يجد تلك الأدلّة على نوعين:
- صحيح غير صريح.
- صريح غير صحيح.
وبيان ذلك في هاتين النّقطتين:
· فنحن نجزم أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يقنت في الفجر، ولكنّه قنوت نازلة، بدلالة حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصّحيحين قال:
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، يَقُولُ: (( سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ )) يَدْعُو لِرِجَالٍ فَيُسَمِّيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَيَقُولُ:
(( اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ )).
فهذا ظاهر أنّه في قنوت النّازلة، ويؤيّـده ما رواه مسلم في " صحيحه " عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم ( كَانَ يَقْنُتُ فِي الصُّبْحِ وَالْمَغْرِبِ ).
فإذا كانوا يقنتون في الصّبح، فلماذا لا يقنتون أيضا في صلاة المغرب ؟
فانظر أنّ هذا الحديث صحيح، ولكنهّ لا يدلّ على ما ذهبوا إليه.
- واستدلّوا بصريح، ولكنّه غير صحيح، كحديث أنس رضي الله عنه أنّه قال: ( ما زال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقنت في الفَجر حتّى فارق الدّنيا ).
وهو حديث منكر لا يصحّ كما في " العلل المتناهية " (1/441) لابن الجوزيّ.
كما أنّ ألفاظ الدّعاء الّذي يأتي به إخواننا أئمّة المساجد المنتسبون إلى مذهب الإمام مالك، فهو غير ثابت.
· ولكنّه في الوقت نفسه نرى الصّحابة ما كانوا يرون المداومة عليه، فقد روى التّرمذي وغيره عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي:
يَا أَبَتِ، إِنَّكَ قَدْ صَلَّيْتَ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم، وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ هَا هُنَا بِالْكُوفَةِ نَحْوًا مِنْ خَمْسِ سِنِينَ، أَكَانُوا يَقْنُتُونَ ؟ قَالَ رضي الله عنه: ( أَيْ بُنَيَّ مُحْدَثٌ ).
فهذا وذاك يجعلنا نتوسّط، ونأخذ بقول من قال: إنّ القنوت في الفجر وغيره يشرع للنّازلة، والله أعلم.
· تنبيه مهمّ:
ونؤكّد لإخواننا القرّاء، أنّه إن أخذ المسلم بقول من الأقوال السّابقة، فذلك لا يقتضِي تبديعَه، ولا تركُ الصّلاة خلفه، فإنّ هذا جهل بالدّين.
ولله درّ الإمام أحمد رحمه الله حين سئل: عن قومٍ يقنتُون بالبصرة، كيف ترى الصّلاة خلفهم ؟ فقال: ( قد كان المسلمون يُصلُّون خلف من يقنت، وخلف من لا يقنُتُ ).
[نقله عنه ابن القيّم رحمه الله في كتاب " الصّلاة وحكم تاركها " (ص 120)].
فهذا إمام أهل السنّة، لا يحجّر واسعا، ولا يبدّع في الأمور الاجتهاديّة الدّقيقة مخالفا.
- وعلى طالب الحقّ أن يتذكّر أنّ ( العِبـرة فـي العبـادات بمـا فـي ظـنّ المكـلّـف ).
فإنّ الشّافعيّ يصلّي خلف المالكيّ، والمالكيّ يَرَى عدم مشروعيّة قراءة البسملة في الفاتحة، والشّافعيّ يرى البسملة آية من سورة الفاتحة ! فصلاته في نظره باطلة، وفي نظر المالكيّ صحيحة، لكنّ العـبـرة في مثل هذه المسائل بما في ظنّ المكلّف، وقد أحْسن من انتهى إلى ما سمِع.
( فائدة ):
إذا صلّيت خلف من يقنت في صلاة الصّبح، وشرع يقنت بعد القراءة فلك خياران:
- إمّا أن تُمسِك عن الكلام وتظلّ صامتا.
- أو تقرأ في نفسك ما تيسّر من القرآن، وهو أحسن، لأنّ مبنى الصّلاة ألاّ تخلُو من الذّكر من التّكبير إلى التّسليم.
والله تعالى أعلم، وأعزّ وأكرم.