وكلّ ذلك؛ لأنّ الله تعالى يريد بهذه الأمّة اليُسرَ ولا يريد لهم العُسر، فإنّ الرّؤية يستطيعها كلّ أحد، بخلاف الحساب الفلكيّ، فإنّه لا يستطيعه إلاّ آحاد النّاس.
وهذا ليس فيه إهدارٌ للحساب الفلكيّ، بل نحن نجزم أنّ حسابات الفلكيّين تفيد العلم بولادة الهلال، وإنّما الّذي يجب أن يعلمه المسلمون أنّ الله تعبّدنا برؤية الهلال لا بولادته، فمنشأ الغلط عند الفلكيّين وعند من يُنكر عليهم هو: الخلط بين ولادة الهلال ورؤية الهلال.
وقد تعلّق المجيزون للاعتماد على الحساب الفلكيّ بأمور ثلاثة:
أ) قالوا: إنّ الإمام ابنَ سُريج الشّافعيّ رحمه الله أجاز الاعتماد على الحساب الفلكيّ.
والجواب عن ذلك: أنّه رحمه الله إنّما أجازه إذا تعذّرت الرّؤية البصريّة لغيمٍ أو نحوه، والفلكيّون يعتمدون الحساب ابتداءًَ!
ثمّ إنّ ابن سُريج رحمه الله نؤمن بإمامته لا بعصمته، والحجّة في النّصوص، وما اتّفق عليه السّلف.
ب) قالوا: يجوز الاعتماد على الحساب قياسا على أوقات الصّلاة !
والجواب عن ذلك: أنّ هذا قياسٌ فاسد الاعتبار؛ لمخالفته للنّصوص.
ثمّ إنّه قياس مع الفارق؛ لأنّ أوقات الصّلوات مبناها على منازل الشّمس - وهي ثابتة لا تتغيّر-، وصوم رمضان مبناه على منازل القمر - وهي تتغيّر -.
ج) وقالوا: يجوز الاعتماد على الحساب قياسا على المحبوس لا يرى الهلال !
والجواب عن ذلك: أنّه قياس فاسد أيضاً؛ لأنّ المحبوس معذورٌ، والأحكام الشّرعيّة إنّما مبناها على الغالب.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
" ولا ريب أنّه ثبت بالسنّة الصّحيحة، واتّفاق الصّحابة أنّه لا يجوز الاعتمادُ على حساب النّجوم، كما ثبت عنه في الصّحيحين أنّه قال: (( إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَةٌ، لاَ نَكْتُبُ وَلاَ نَحْسُبُ، صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ )).
والمعتمِدُ على الحساب في الهلال كما أنّه ضالّ في الشّريعة، مبتدِعٌ في الدّين، فهو مخطِئٌ في العقل وعلم الحساب؛ فإنّ العلماء بالهيئة يعرفون أنّ الرؤية لا تنضبطُ بأمرٍ حسابيّ، وإنّما غاية الحساب أنْ يُعْرَفَ كم بين الهلال والشّمس من درجة وقتَ الغروب مثلا ..."اهـ ["مجموع الفتوى" (25/207)].
المسألة الخامسة: في اختلاف الأقاليم في رؤية الهلال.
فلأهل العلم في هذه المسألة ثلاثة أقوال:
القول الأوّل: إذا ثبتت الرّؤية في بلدٍ ما، وجب على من دونه من الأمصار الأخذ بها.
وهو قول الإمام مالك - في رواية ابن القاسم والمصريّين -، والشّافعيّ، وأحمد، والمشهور من مذهب أبي حنيفة.
وعُمدة هذا المذهب قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ )).
القول الثّاني: أنّ لكلّ بلدٍ رؤيتُهم، سواء أتقاربت البلدان أم تباعدت.
وهو قول ابن عبّاس رضي الله عنهما، والقاسم بن محمّد، وسالم بن عبد الله، وإسحاق بن راهويه، وابن المبارك، ومالك -في رواية المدنيّين-، ووجهٌ للشّافعيّة حكاه الماورديّ عنهم.
القول الثّالث: إذا تقاربت البلدان اتّحدت الرّؤية، وإذا تباعدت كان لكلّ بلدٍ رؤية.
وهو قول الشّيرازيّ، وصحّحه الرّافعيّ، والزّيلعيّ، إلاّ أنّهم اختلفوا في ضابط البعد والقرب.
ودليل هذين القولين: ما رواه مسلم عن كُرَيبٍ أنّ أمَّ الفضلِ بنتَ الحارثِ بعثتْه إلى معاوية رضي الله عنه بالشّام، قال:
" فقدِمتُ الشّامَ، فقضيْتُ حاجتَها، واسْتُهِلَّ عليّ رمضانُ وأنا بالشّام، فرأيتُ الهلال ليلةَ الجمعةِ، ثمّ قدمتُ المدينةَ في آخرِ الشّهرِ، فسألني عبدُ الله بنُ عبّاسٍ رضي الله عنهما، ثمّ ذكر الهلال فقال:
مَتَى رَأَيْتُمْ الْهِلَالَ ؟ فقلت: رأيناه ليلةَ الجمعةِ.
فقال: أَنْتَ رَأَيْتَهُ ؟ فقلت: نعم، ورآه النّاس، وصاموا، وصام معاويةُ.
فقال: لَكِنَّا رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ، فَلَا نَزَالُ نَصُومُ حَتَّى نُكْمِلَ ثَلَاثِينَ، أَوْ نَرَاهُ.
فقلت: أَوَ لَا تَكْتَفِي برؤيةِ معاويةَ وصيامِه ؟
فقال: لا، هكذَا أَمَرَنَا رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم ".
قالوا: فهذا ابن عبّاس رضي الله عنهما لم يَعمل برؤية أهل الشّام، وكان حاكم المسلمين يومئذ واحدا، ولم يُنقَل عن أحدٍ من الصّحابة مخالِفٌ له.
قال التّرمذي رحمه الله:" والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم: أنّ لكلّ أهلِ بلدٍ رؤيتَهم "اهـ.
التّرجيح:
الأصل هو توحيد الرّؤية ما أمكن على ذلك، ولكن إذا اختلفت فلكلّ بلدٍ رؤية، وذلك لما يلي:
1- نلحظ في كلام ابن عبّاس رضي الله عنه عبارتين:
الأولى: قوله: " لَكِنَّا رَأَيْنَاهُ .. فَلَا نَزَالُ نَصُومُ .. نُكْمل .."، فهو دليل على أنّه جرى عليه عمل من معه من المسلمين يومئذ.
الثّانية: قوله:" هكذَا أَمَرَنَا رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم "، فهو يدلّ إمّا على أنّه حفِظ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قولاً في ذلك، وإمّا أنّ ذلك ما فَهِمه هو ومن معه من حديث: (( صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ ))، وفهمه مقدَّم على فهم غيره.
2- قال أهل العلم: يُغتفر في الدّوام ما لا يُغتفر في الابتداء.
فمثلا: إنّ الأصل هو عدم تعدّد الخلفاء، وعدم تعدّد الجُمُعات في المصر الواحد، ولكنّه يُغتفر تعدّدهم درءا للفتنة، وجمعا لكلمة المسلمين ما أمكن. فكذلك الأمر في رؤية هلال رمضان.
3- من نظائر ذلك من وجه: قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَصَلُّوا، وَادْعُوا حَتَّى يُكْشَفَ مَا بِكُمْ )) [متّفق عليه].
فتأمّل قوله صلّى الله عليه وسلّم: (( فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَصَلُّوا ))، تجدْه يشبه إلى حدّ كبير قولَه: (( صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ ))، ومع ذلك فإنّه إذا رأى أهلُ بلدٍ الخسوفَ، فإنّه لا يلزم البلدانَ الأخرى الصّلاة.
والله تعالى أعلم، وأعزّ وأكرم، وهو الهادي للّتي هي أقوم.