الاثنين 25 شوال 1431 هـ الموافق لـ: 04 أكتوبر 2010 21:31

- السّيرة: دروس وعبر (7) مولد الحبيب صلّى الله عليه وسلّم

الكاتب:  عبد الحليم توميات
أرسل إلى صديق

ونتكلّم حول أمور أربعة:

تحقيق عام مولده - بيان نسبه صلّى الله عليه وسلّم - تحقيق شهر ويوم مولده - ثمّ بيان ما صحّ من حوادث زمن مولده.

فمولد محمّد بن عبد الله صلّى الله عليه وسلّم حدث ما زال يهزّ الدّنيا، فهو بُشرى للقلوب، وفرحة للأرواح، وبداية لإنقاذ البشريّة من رمضاء التّيه والضّلال المهلكة، وتحويل النّاس إلى النّبع الصّافي والمورد الكافي ..{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) } [المائدة].{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } [الأنبياء:107]..

* عام ولادته صلّى الله عليه وسلّم.

أمّا عام ولادته صلّى الله عليه وسلّم: فقد ولد عام الفيل، وقد سبق أن ذكرنا أنّ حادثة الفيل حدثت قبيل ولادته صلّى الله عليه وسلّم بأيّام، أو بشهر، أو شهرين، وهذا ما ذهب إليه أئمّة الإسلام.

قال ابن إسحاق:" وكان مولده صلّى الله عليه وسلّم عام الفيل، وهذا هو المشهور عن الجمهور، قال إبراهيم بن المنذر الحزامي: وهو الذي لا يشكّ فيه أحد من علمائنا أنّه صلّى الله عليه وسلّم وُلِد عام الفيل، وبُعِث على رأس أربعين سنة من الفيل "اهـ.

وليس معتمدهم في ذلك ما رواه التّرمذي وأحمد عن قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ رضي الله عنه قَالَ: وُلِدْتُ أَنَا وَرَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم عَامَ الْفِيلِ.

فإنّه ضعيف، ولكنّ العمدة في ذلك أمران اثنان:

1- الأوّل: ما رواه البيهقي بسند حسن عن ابن عبّاس رضي الله عنه قال: وُلِدَ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عام الفيل.

2-الثّاني: بتتبّع أحداث التّاريخ، فقد قال ابن إسحاق وهو يسرد علينا حادثة حرب الفجّار: وكان رسول الله  عام عكاظ [يقصد حاثة حرب الفجّار] ابن عشرين سنة.

وقد قال هو وغيره: إنّ الفجّار كانت بعد الفيل بعشرين سنة. فدلّ ذلك على أنّه ولِد عام الفيل.

* نسبه صلّى الله عليه وسلّم والحكمة منه.

سبق أن ذكرنا نسب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من جهة أبيه، وأنّه ينتمي إلى أشرف الأنساب، وأعرق الأحساب.

أمّا أمّه فهي: آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرّة.

فنسبه من جهة أبيه وأمّه يرجع إلى أبي الأنبياء إبراهيم عليه السّلام، فهو في أعلى درجات الأصالة والشّرف كما مرّ في حديث مسلم: (( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَعِيلَ وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ ))..

وفي هذا حِكَمٌ بالغة منها:

أ‌)      أنّ ذلك من عوامل نجاح الدّعوة في أوّل أمرها، إذ يصعب على الكفّار قتله، لما كان من انتشار للعصبيّة القبليّة يومئذ، ولا يخفى على أحدٍ عناية أبي طالب له، ولم يجرؤ أحد على المساس به من أجل ذلك.

ب‌)    كما أنّ في شرف هذا النّسب ردّا على ما يمكن أن يزعمه مكابر أو مجادل بأنّ دعوته جاءت ردّ فعل لإصلاح واقع اجتماعيّ، كما هو الشّأن في الدّعوات المادّية، فلو كان وضيعا لقالوا إنّما جاء بما جاء تمرّدا على واقعه.

ت‌)    وكان معروفا لدى أهل الكتاب أنّ النبيّ لا بدّ أن يكون شريف النّسب، كما قال هرقل لأبي سفيان:" سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ، فَذَكَرْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ، فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا " [رواه البخاري].

وغير ذلك من الحكم.

ففي عام الفيل وذلك الحدث الجليل، كانت آمنة تحمل في بطنها أشرف الخلق وأكرمهم على الله تعالى وهي لا تدري من ذلك شيئا ..

ولكنّها ما حملت به حتّى تُوُفّي والده عبد الله .. ولم  يُقدّر لهذا المولود أن يرى والده الذي أرسله عبد المطّلب في مَهمّة إلى المدينة.

وليس ذلك من قبيل المصادفة .. وخاصّة أنّه سيفقد أمّه وجدّه أيضا بعد أعوام ..

لقد اختار الله هذه النّشأة للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم لحكم باهرة، ولعلّ أعظمها أمران:

1-   تربية التوكّل على الله في قلبه، وأنّ عناية الله فوق كلّ عناية.

2ألاّ يكون للمبطلين سبيل إلى إدخال الرّيبة في القلوب، وإيهام النّاس أنّه مسيّر من أبيه، وخاصّة جدّه الذي كان سيّدا في قريش، فقد كانت فيه الرِّفادة والسّقاية[1]، بل المتأمّل ليُدرك أنّ عمّه الذي عاش معه وحماه لم يتّبع دعوته، فلا سبيل لأن يُقال إنّ له يدا في ذلك.

ثمّ بعد موت والده، جاءت ولادته صلّى الله عليه وسلّم.

* تحقيق شهر ويوم مولده صلّى الله عليه وسلّم.

- اتّفق علماء الإسلام على أنّه صلّى الله عليه وسلّم ولد يوم الإثنين؛ لما رواه مسلم عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ ؟ قَالَ: (( ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَيَوْمٌ بُعِثْتُ أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ )).

- أمّا الشّهر فالجمهور على أنّ ذلك كان في ربيع الأوّل، وخالف الجمهور الزّبير بنُ بكَّار، حيث زعم أنّ ذلك كان في رمضان، بناء على أنّ أوّل نزول الوحي كان في رمضان بلا خلاف، وكان ذلك على رأس أربعين سنة من عمره، فيكون مولده في رمضان.

لكنّ الصّواب ما ذهب إليه الجمهور، فقد جاء في ذلك آثار تدلّ بمجموعها على ذلك. [انظر " السّيرة النّبويّة " لابن كثير (1/199)].

-        أمّا تحديد اليوم، ففيه أقوال كثيرة:

1-    فقيل: ولد في اليوم الثّاني من ربيع الأوّل، وهو قول ابن عبد البرّ.

2-    وقيل: ولد في الثّامن من ربيع الأوّل، وهو قول ابن حزم في " جوامع السّيرة " له (ص 7).

واستدلّ رحمه الله على ذلك برواية مالك عن محمّد بن جبير بن مطعم، وهي صحيحة.

بل نقل ابن عبد البر في " الاستيعاب " تصحيح أهل الزَّيج[2] له، وهو الّذي قطع به عند الحافظ الكبير محمّد بن موسى الخوارزمي، ورجّحه الحافظ أبو الخطّاب ابن دحية.

3-    وقيل: ولد في العاشر من ربيع الأوّل، وهو قول الشّعبي، وأبي جعفر محمّد الباقر.

4-    وقيل: ولد في الثّاني عشر من ربيع الأوّل، نصّ عليه ابن إسحاق، وفيه رواية ابن أبي  شيبة عن ابن عبّاس وجابر، وهو المشهور عند الجمهور.

5-    وقيل: ولد في السّابع عشر من ربيع الأوّل.

هذه خلاصة الأقوال التي ذكرها ابن كثير في البداية والنهاية (2/242-243).

وليس المقصود التحقّق في يوم مولده صلّى الله عليه وسلّم، وإنّما الإشارة إلى أنّ العلماء لم يتّفقوا على أنّ مولده كان في اليوم الثّاني عشر من ربيع الأوّل.

إلاّ أنّ القول بأنّه صلّى الله عليه وسلّم ولِد في اليوم الثّامن من ربيع الأوّل أقوى وأرجح لعدَّة أمور:

   أنّه هذا هو ما نقله الإمام مالك، وعقيل، ويونس بن يزيد -وهم من هم - عن الزّهري، عن محمد بن جبير بن مطعم.

   أنّ هذا القول رجَّحه جمع من أهل العلم المحقّقون منهم: ابن حزم، والحافظ محمّد بن موسى الخوارزمي، والحافظ ابن دحية في كتابه " التنوير في مولد البشير "، وهو أوّل كتاب صُنِّف في " استحباب المولد ".

* بيان ما صحّ من حوادث زمن ولادته.

فإنّنا نجزم أنّ مولد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان ولا يزال أعظم حدث غيّر الله به البشريّة جمعاء، ولكنّ ذلك لا يعني أبدا أن تتتشقّق هذه المحبّة في القلوب عن أساطير ما لها من زمام ولا خطام !.

فإنّ ولادته صلّى الله عليه وسلّم قد أحاطها الوضّاعون - وتبعهم العامّة - بجملة من الأكاذيب والخرافات، ولقد أعمى الحبُّ كثيرا من النّاس، فصاروا يسقون حدث ولادته بأمطار ممّا لا يصحّ من أخبار، فنشأت حول هذا الحدث العظيم كثير من الأساطير.

من جملة هذه الأكاذيب:

-        دنوّ النّجوم من الأرض.

-        وأنّه كان هناك لوح من ذهب كتبت عليه الأشعار يوم ولادته عند رأس أمّه.

-        ومنها أنّ إيوان كسرى قد ارتجّ، وأنّ ناره التي يعبدون انطفأت لأوّل مرّة.

-        وأنّه لم تشعر أمّه بألم ولادته.

-        وأنّه ولد مختونا، وغير ذلك.

فلم يصحّ شيء من ذلك إلاّ ما جاء موزونا بميزان أهل الحديث، ومصحوبا بأحكام عباقرة السنّة، وذلك:

ما رواه الإمام أحمد والدّارمي عن أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ ! مَا كَانَ أَوَّلُ بَدْءِ أَمْرِكَ ؟ قَالَ: (( دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبُشْرَى عِيسَى، وَرَأَتْ أُمِّي أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ مِنْهَا قُصُورُ الشَّامِ ))[3]. كناية عن انتشار دينه وملّته صلّى الله عليه وسلّم.

والله أعلم وأعزّ وأكرم.


[1]- الرّفادة شيء كانت قريش تترافد به في الجاهليّة، فيجمعون المال الوفير لشراء الطّعام في موسم الحجّ، والسّقاية هي الاعتناء بسقيهم.

[2]- أهل الزّيج: يعني أصحاب الفلك، ووقع في بعض طبعات البداية والنهاية: (أصحاب التاريخ) وهو خطأ، انظر الطبعة التي بتحقيق التركي (3/373)].

[3]- وهذا قد ذكره إبراهيم العليّ في "صحيح السّيرة النبويّة".

أخر تعديل في الاثنين 25 شوال 1431 هـ الموافق لـ: 04 أكتوبر 2010 21:56
الذهاب للأعلي