السبت 19 شوال 1432 هـ الموافق لـ: 17 سبتمبر 2011 07:31

- السّيرة النّبويّة (55) الأيّام الأولى من الهجرة النبويّة

الكاتب:  عبد الحليم توميات
أرسل إلى صديق

فكان آخر ما رأيناه من أحداث سيرة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وصوله صلّى الله عليه وسلّم إلى ديارِ بني عمرِو بنِ عوفٍ بقباء، حيث قال عروة بن الزّبير رحمه الله:

فَلَبِثَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم في بَنِي عَمْرِو بنِ عَوْفٍ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، وَأُسِّسَ الْمَسْجِدُ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، وَصَلَّى فِيهِ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم، ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ، فَسَارَ يَمْشِي مَعَهُ النَّاسُ.

وقال في رواية ابن إسحاق: إنّه خرج يوم جمعةٍ، فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف؛ فصلاّها بوادي رانوناء، فكانت أوّل جمعة صلاّها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في الهجرة.

- دخوله صلّى الله عليه وسلّم المدينة:

ثمّ دخل صلّى الله عليه وسلّم المدينة ليلاً، وما من أحد من المسلمين يقرأ خبر دخوله لها صلّى الله عليه وسلّم إلاّ وتمنّى أن يعيشها !

فلا أحدَ يصدّق أنّ عينيه ترى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأبا بكر رضي الله عنه في أنحاء المدينة ! فقد كانت منوّرةً بحقّ .. منوّرة بلقاء حبيبهم صلّى الله عليه وسلّم الّذي حنّت إليه الجذوع، فكيف لا تحنّ له القلوب ؟!

ولقد كان الموكب يتحرّك ببطء، فالطّريق مزدحم بالنّاس، والقلوب، والدّموع، والهتاف .. بل يهتفون مرّة، ويعرضون بيوتهم عليه صلّى الله عليه وسلّم مرّة .. إذ تنازع النّاس أيّهم ينزل عنده النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ؟

روى مسلم عن البراء بن عازب عن أبي بكر رضي الله عنه قال:

فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ لَيْلًا، فَتَنَازَعُوا أَيُّهُمْ يَنْزِلُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم، فقالَ صلّى الله عليه وسلّم: (( أَنْزِلُ عَلَى بَنِي النَّجَّارِ أَخْوَالِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أُكْرِمُهُمْ بِذَلِكَ )). فَصَعِدَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فَوْقَ الْبُيُوتِ، وَتَفَرَّقَ الْغِلْمَانُ وَالْخَدَمُ فِي الطُّرُقِ يُنَادُونَ: يَا مُحَمَّدُ ! يَا رَسُولَ اللَّهِ ! يَا مُحَمَّدُ ! يَا رَسُولَ اللَّهِ !

قال أبو بكر رضي الله عنه: وتلقّاه النّاس، فخرجوا في الطّرق وعلى الأناجير - هي السّطوح -، واشتدّ الخدم والصّبيان في الطّريق يقولون: الله أكبر ! جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم .. جاء محمّد صلّى الله عليه وسلّم !

يقول البراء بن عازب رضي الله عنه - كما في صحيح البخاري-:

أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مِنْ أَصْحَابِ النّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم: مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَجَعَلَا يُقْرِئَانِنَا الْقُرْآنَ، ثُمَّ جَاءَ عَمَّارٌ وَبِلَالٌ وَسَعْدٌ، ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي عِشْرِينَ، ثُمَّ جَاءَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم فَمَا رَأَيْتُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ فَرِحُوا بِشَيْءٍ فَرَحَهُمْ بِهِ، حَتَّى رَأَيْتُ الْوَلَائِدَ - وهنّ البنات - وَالصِّبْيَانَ يَقُولُونَ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَدْ جَاءَ !..

وجاء وصف أنس رضي الله عنه لهذا اليوم في سنن التّرمذي حيث قال:

" لَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم المَدِينَةَ أَضَاءَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ ".

أمّا الصّحابة الّذين قدموا من أرض النّجاشيّ مسلمين فلا تَسألْ عن فرحتهم، ففي مسند أحمد وسنن أبي داود عن أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم المَدِينَةَ لَعِبَتْ الْحَبَشَةُ لِقُدُومِهِ بِحِرَابِهِمْ فَرَحًا بِذَلِكَ.

أمّا الجواري فحَمَلْن الدّفوفَ يضربْنَ عليها ويتغنَّيْن، ففي سنن ابن ماجه والبيهقيّ عن أنسِ بنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أنَّ النّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم مَرَّ بِبَعْضِ الْمَدِينَةِ، فَإِذَا هُوَ بِجَوَارٍ يَضْرِبْنَ بِدُفِّهِنَّ وَيَتَغَنَّيْنَ، وَيَقُلْنَ:

( نَحْـنُ جَـوَارٍ مِنْ بَنِـي النَّجَّارِ *** يَـا حَبَّـذَا مُحَمَّـدٌ مِنْ جَـارِ ).

فقالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم: (( يَعْلَمُ اللَّهُ إِنِّي لَأُحِبُّكُنَّ )).

ضعف قصّة نشيد ( طلع البدر علينا )

ومن الجدير بالتّنبيه عليه أنّ ما يذكره كثير ممّن ألّف في السّيرة من أنّ بنات النجّار خرجن ينشدن نشيد ( طلع البدر علينا من ثنيّات الوداع ) فإنّه لا يصحّ؛ وذلك لسببين اثنين:

الأوّل: ضعف سندها.

الثّاني: ضعف متنها، فإنّ ثنيّات الوداع من جهة الشّام، يمرّ بها من جاء من الشّام يريد المدينة، والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم قدم من مكّة لا من الشّام فكيف يمرّ بثنيّات الوداع ؟!

نعود إلى تلك الأجواء الرّائعة الّتي أحاطت بدخول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم المدينة: البنات ينشِدن، والأحباش يرقصون بالحراب ..

والّذي لا يليق به الدفّ، ولا يحسن الرّقص بالحراب، فلم يبخل أن ينحَر ويُطْعِم، ففي مسند الإمام أحمد عن جابِرٍ رضي الله عنه أنّ النّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ نَحَرُوا جَزُورًا أَوْ بَقَرَةً، وَقَالَ مَرَّةً: نَحَرْتُ جَزُورًا أَوْ بَقَرَةً.

أمّا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فلم يعزم على شيء يومَها كما عزم على:

بناء المسجد.

فاليوم صارت المدينةُ عاصمةَ الإسلام؛ فلا بدّ من جمعِهم في مسجد يجمع كلمتَهم، على كلمة الإسلام، ويثلج صدورهم بأخوّة الإيمان.

فبينما النّاس يهتفون فرحا، رجالا ونساءً، صغارا وكبارا، إذا بناقة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم تتوقّف وتبرُكُ ..

قال عروة - كما في صحيح البخاري -:" حَتَّى بَرَكَتْ عِنْدَ مَسْجِدِ الرّسولِ صلّى الله عليه وسلّم بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ مِرْبَدًا[1] لِلتَّمْرِ لِسُهَيْلٍ وَسَهْلٍ - غُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي حَجْرِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ -، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم حِينَ بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ:

(( هَذَا إِنْ شَاءَ اللهُ الْمَنْزِلُ )).

ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم الْغُلَامَيْنِ فَسَاوَمَهُمَا بِالْمِرْبَدِ لِيَتَّخِذَهُ مَسْجِدًا، فقالا: لَا، بَلْ نَهَبُهُ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ! فَأَبَى رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُمَا هِبَةً، حَتَّى ابْتَاعَهُ مِنْهُمَا.

ثُمَّ بَنَاهُ مَسْجِدًا، وَطَفِقَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يَنْقُلُ مَعَهُمْ اللَّبِنَ فِي بُنْيَانِهِ، ويقولُ - وَهُوَ يَنْقُلُ اللَّبِنَ -: (( هَذَا الْحِمَالُ لَا حِمَالَ خَيْبَرْ [2].. هَذَا أَبَرُّ رَبَّنَا وَأَطْهَرْ )) وَيَقُولُ:

(( اللَّهُمَّ إِنَّ الْأَجْرَ أَجْرُ الْآخِرَهْ *** فَارْحَمْ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ ))".

وفي الصّحيحين قالَ أنسٌ رضي الله عنه:" فَكَانَ فِيهِ مَا أَقُولُ لَكُمْ: قُبُورُ الْمُشْرِكِينَ، وَفِيهِ خَرِبٌ وَفِيهِ نَخْلٌ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم بِقُبُورِ الْمُشْرِكِينَ فَنُبِشَتْ، ثُمَّ بِالْخَرِبِ ( وهو ما هُدِم من البيوت) فَسُوِّيَتْ، وَبِالنَّخْلِ فَقُطِعَ، فَصَفُّوا النَّخْلَ قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ، وَجَعَلُوا عِضَادَتَيْهِ الحِجَارَةَ - والعِضادة: جانب الباب -، وَجَعَلُوا يَنْقُلُونَ الصَّخْرَ وَهُمْ يَرْتَجِزُونَ، وَالنَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم مَعَهُمْ وَهُوَ يَقُولُ:

(( اللَّهُمَّ لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُ الْآخِرَهْ *** فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ )) ".

كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يتعب كما يتعبون، ويتصبّب عرقا كما يتصبّبون، ولكنّه كان يتكلّم بما لا يتكلّمون ..

كان يقول شيئا من أمور الغيب وهو يرى عمّارَ بنَ ياسر يحمل حجارتين بدل الواحدة ..

ففي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه أَتَى على ذِكْرِ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ فقالَ: كُنَّا نَحْمِلُ لَبِنَةً لَبِنَةً، وَعَمَّارٌ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ، فَرَآهُ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم فَيَنْفُضُ التُّرَابَ عَنْهُ، وَيَقُولُ: (( وَيْحَ عَمَّارٍ ! تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ ! يَدْعُوهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ ))، قال: يَقُولُ عَمَّارٌ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ الْفِتَنِ.

ولمّا كان المسجد يحتاج إلى أيّام لإتمام بنائه كان لا بدّ أن يختار النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بيتاً من بيوت بني النجّار يستقرّ فيه هو وأهله.

وهذا ما سوف نراه لاحقا إن شاء الله تعالى.



[1] المربد: المكان الّذي يجفّف فيه التّمر. 

[2] أي: ما نحمله من الطّوب واللّبِن أطيب عند الله وأعظم أجرا من حمال خيبر، وهو التّمر والزّبيب والثّمار.

أخر تعديل في السبت 19 شوال 1432 هـ الموافق لـ: 17 سبتمبر 2011 07:35
عبد الحليم توميات

آخر المواضيع:

الذهاب للأعلي