الاثنين 17 ذو القعدة 1431 هـ الموافق لـ: 25 أكتوبر 2010 10:30

- السّيرة النّبويّة (13) زواجه صلّى الله عليه وسلّم من خديجة

الكاتب:  عبد الحليم توميات
أرسل إلى صديق

 

الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:

فقد برز في مجتمع العرب عددٌ من النّساء، اشتهر بعضهنّ بالحكمة ورجاحة العقل، وبعضهنّ اشتهر بالمتاجرة ووفرة المال ..

أمّا خديجة رضي الله عنها فقد جمعت ذلك كلّه.

خديجة بنت خويلد بنت أسد بن عبد العُزّى بن قُصيّ .. اسمٌ صار أشهر من نار على علمٍ في رحاب الحسب والنّسب والجمال ..

وانضاف إليها كثرة ووفرة المال ..

عُرفت في الجاهليّة بـ ( الطّاهرة )، حتّى كان الأشراف يتزاحمون على بابها، والجميع يتشرّف بأن يكون من خُطّابها ..

ولكنّها كانت ذات همّة عالية، ونفس غالية ..

كانت لا تبحث عن الرّجولة في الصّورة، بل كانت تبحث عن الرّجولة في العقل والرّوح ..

في تلك الأيّام، كانت تستأجر بعض من لهم خبرة بالتّجارة لتُثمّر مالها ..

ومن طبيعة النّساء أن يسألن عن سادات الرّجال وكرمائهم، فتسمع أخبارهم وفي كلّ مرّة إذا حدّثوها عن شخصٍ ما تراها وكأنّها تقول:{فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ } [يوسف: من الآية60]..

ولكن ..

لفت انتباهها حديث النّاس عن محمّد صلّى الله عليه وسلّم .. فشدّتها سيرته ..

وعليك – أخي القارئ – أن تلحظ كيف يكسب المرءُ النّاسَ بأخلاقه، وحسن معاملته ..

كان قد أخذ جلّ فكرها .. فلا بدّ من التّجربة ..

فعرضت عليه صلّى الله عليه وسلّم أن يُتاجر بمالها إلى الشّام، وتُعطيه ما كانت تعطي غيره من الرّجال ..

حُلْمُ كلّ شابّ في ذلك الزّمان .. أن يتخلّص من أشواك الصّحاري وصخور الجبال ..

زِد على ذلك أنّه صلّى الله عليه وسلّم كان بين قوم يُعظّمون التّجّار، ويحتقرون رُعاة الغنم ..

فقبِل صلّى الله عليه وسلّم  عرضَها وخرج ليتاجر بمالها، يُرافقُه غلام خديجة ( ميسَرة ).

فعاد إليها غلامها بالرّبح وزيادة .. جاءها بما تصبو إليه، وتبكي عليه ..

جاءها بأوصاف تأخذ بالألباب، وتفتح إلى السّعادة كلّ باب ..

حدّثها عن كرم أخلاقه، وصدقه وأمانته، ونُبله وعفّته .. ولا شكّ - وهي المرأة الرّاجحة العقل - تعلم أنّ مثل هذه الأخلاق لا ينالها ابن بيئته، ولا تنتِجُها مثل حياته في اليُتم، ورعي الغنم، والفقر .. فأشرِب قلبها حبَّه ..

فأرسلت إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قائلة: يا ابن عمّ ! إنّي قد رغبت فيك لقرابتك وسِطتك في قومك.

فقبل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الزّواج منها، وهي تكبره سنّا.

وهنا لا بدّ أن نعلم:

- أنّه قد اشتهر أنّه صلّى الله عليه وسلّم كان حينئذ ابنَ خمسٍ وعشرين سنةً، وأنّها كانت بنت أربعين:

وهذا لا دليل عليه مع شهرته، وخاصّة إذا تذكّرنا أنّها كانت ولودا إلى ما بعد البعثة، أي: ستلد له بعد خمس عشرة سنة أخرى، وهو سنّ يبعد فيه ذلك ..

والصّواب: أن يقال: إنّها كانت أكبر منه دون تعيين لسنّها.

- كما أنّه شاع أنّ الذي خطبها له هو عمّه حمزة رضي الله عنه من أبيها وأنّه قبل، وهذا باطل.

لأنّ أباها كان معارضا لزواجها من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ولكنّها بحبّها للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم وبذكائها استطاعت أن تصل إلى مرادها.

وأصحّ ما جاء في زواجه صلّى الله عليه وسلّم منها هو ما رواه الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه:

أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم ذَكَرَ خَدِيجَةَ، وَكَانَ أَبُوهَا يَرْغَبُ أَنْ يُزَوِّجَهُ، فَصَنَعَتْ طَعَامًا وَشَرَابًا، فَدَعَتْ أَبَاهَا وَزُمَرًا مِنْ قُرَيْشٍ، فَطَعِمُوا وَشَرِبُوا، حَتَّى ثَمِلُوا، فَقَالَتْ خَدِيجَةُ لِأَبِيهَا:

إِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَخْطُبُنِي، فَزَوِّجْنِي إِيَّاهُ ! فَزَوَّجَهَا إِيَّاهُ.

فَخَلَعَتْهُ وَأَلْبَسَتْهُ حُلَّةً - وَكَذَلِكَ كَانُوا يَفْعَلُونَ بِالْآبَاءِ - فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْهُ سُكْرُهُ، نَظَرَ فَإِذَا هُوَ مُخَلَّقٌ، وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ، فَقَالَ:

مَا شَأْنِي ؟ مَا هَذَا ؟ قَالَتْ: زَوَّجْتَنِي مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ.

قَالَ: أَنَا أُزَوِّجُ يَتِيمَ أَبِي طَالِبٍ لَا لَعَمْرِي.

فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: أَمَا تَسْتَحِي، تُرِيدُ أَنْ تُسَفِّهَ نَفْسَكَ عِنْدَ قُرَيْشٍ، تُخْبِرُ النَّاسَ أَنَّكَ كُنْتَ سَكْرَانَ !

فَلَمْ تَزَلْ بِهِ حَتَّى رَضِيَ.

وكتب الله تعالى أن تكون خديجة أوّل امرأة عرفها سيّد ولد آدم .. خديجة التي كتب الله لها أن تكون أوّل امرأة أسلمت .. حتّى إنّ الله كان يرسل إليها السّلام.

روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: جاء جبريل إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَ: هَذِهِ خَدِيجَةُ أَتَتْكَ بِإِنَاءٍ فِيهِ طَعَامٌ أَوْ إِنَاءٍ فِيهِ شَرَابٌ فَأَقْرِئْهَا مِنْ رَبِّهَا السَّلَامَ وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ مِنْ قَصَبٍ لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ.

وكتب لها أن تكون سيّدة من سيّدات العالمين، وجنّات ربّ العالمين، فقد روى أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ:

(( أَفْضَلُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ )).

وروى البخاري ومسلم عن عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ:

(( خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ، وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ )).

فممّا اختصّت به سبقها نساء هذه الأمّة إلى الإيمان، فسنّت ذلك لكلّ من آمنت بعدها، فيكون لها مثل أجرهنّ، لما ثبت " أَنَّ مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أجرها وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا ".

وقد شاركها في ذلك أبو بكر الصديق بالنسبة إلى الرجال، ولا يعرف قدر ما لكل منهما من الثواب بسبب ذلك إلا الله عز وجل.

وكتب لها أن تكون أوّل من واسى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأيّده وصدّقه ..

وكتب الله أن تلد لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم ولده كلّه إلاّ إبراهيم[1].

والمتفق عليه أنّها ولدت له:

1-   ( القاسم )، وبه يُكنّى صلّى الله عليه وسلّم، وقد مات صغيرا قبل المبعث أو بعده بقليل.

2-   و( عبد الله )، ويُلقّب بالطّاهر والطيّب، ولد بعد المبعث، أي بعد خمسة عشرة سنة على الأقلّ.

وبناته الأربع:

3-   زينب.

4-   ثمّ رقيّة.

5-   ثمّ أمّ كلثوم.

6-   ثمّ فاطمة.

وكلّهنّ أسلمن، وهاجرن معه، وتوُفِّين في حياته إلاّ فاطمة رضي الله عنها، ماتت بعده.

وممّا كافأ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم به خديجة في الدّنيا أنّه لم يتزوّج في حياتها غيرها، فقد روى مسلم عن عائشة قالت:

" لمَْ يتَزَوَّجْ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم عَلَى خَدِيجَةَ حَتَّى مَاتَتْ ".

فصان قلبها من الغيرة ومن نكد الضّرائر، وتلك خصلة لم يشاركها فيها غيرها.


[1] فأمّه مارية القبطيّة، من صعيد مصر، أهداها إليه المُقوقس عظيم القِبط.

 

أخر تعديل في الخميس 29 صفر 1432 هـ الموافق لـ: 03 فيفري 2011 09:32
الذهاب للأعلي