السبت 18 ذو الحجة 1433 هـ الموافق لـ: 03 نوفمبر 2012 08:44

- السّيرة النّبويّة (71) غزوة بدر الكبرى: الاستعداد والمشاورة

الكاتب:  عبد الحليم توميات
أرسل إلى صديق

الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:

فقد توقّف بنا المسير في الحلقة السّابقة عند الحديث الّذي رواه مسلم عن أنسِ بنِ مالِكٍ رضي الله عنه قال:" بَعَثَ رسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم بُسَيْسَةَ عَيْنًا يَنْظُرُ مَا صَنَعَتْ عِيرُ أَبِي سُفْيَانَ، فَجَاءَ وَمَا فِي البَيْتِ أَحَدٌ غَيْرِي وَغَيْرُ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم ..".

إنّها مَهَمّة أحاطها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بسياجٍ من السرّية، وهي: تحسّس أخبار القافلة القرشيّة القادمة من الشّام نحو مكّة، والّتي يقودها أبو سفيان بن حرب .. أمره أن يعرف طريقَها.

وعاد بُسَيسة، وقد تمّت المهمّة بنجاح .. يقول أنس رضي الله عنه في تتمّة الحديث السّابق:" فَحَدَّثَهُ الْحَدِيثَ - أي أخبره بما رآه - فَخَرَجَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم فَتَكَلَّمَ، فقال:

 

(( إِنَّ لَنَا طَلِبَةً - أي: شيئا نطلبه ولا بدّ من إدراكه -، فَمَنْ كَانَ ظَهْرُهُ حَاضِرًا فَلْيَرْكَبْ مَعَنَا )).

فَجَعَلَ رِجَالٌ يَسْتَأْذِنُونَهُ فِي ظُهْرَانِهِمْ فِي عُلْوِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: (( لَا، إِلَّا مَنْ كَانَ ظَهْرُهُ حَاضِرًا )).

فجاء أبو بكر رضي الله عنه .. وجاء عمر رضي الله عنه .. أمّا عُثمان فاستبقاه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مع ابنته..

وجاء عليّ رضي الله عنه .. وفي هذا فضل عظيم لعليّ رضي الله عنه، فقد كان مقبلاً على زواجه من فاطمة رضي الله عنها، ولكنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم علم من حاله أنّه ليس من القوم الّذين ينشغلون بالنّساء والأموال.

فقارن بين حاله وحال أتباع يوشع بن نون، فقد جاء في الصّحيحين عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم:

(( غَزَا نَبِيٌّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ، فَقَالَ لِقَوْمِهِ: لَا يَتْبَعْنِي رَجُلٌ مَلَكَ بُضْعَ امْرَأَةٍ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ بِهَا وَلَمَّا يَبْنِ بِهَا، وَلَا أَحَدٌ بَنَى بُيُوتًا وَلَمْ يَرْفَعْ سُقُوفَهَا، وَلَا أَحَدٌ اشْتَرَى غَنَمًا أَوْ خَلِفَاتٍ وَهُوَ يَنْتَظِرُ وِلَادَهَا )).

ذلك لتعلّق القلب بهذه الأمور عادة، ولكنّ عليّا رضي الله عنه خرق العادة .. كان يشدّ لحيته باكيا ويقول:" قد طلّقتك يا دنيا ثلاثا ".

وجاء بقيّة الصحابة من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم.

ولكنّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه جاء بابن له صغيرٍ، فتأمّله النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فوجده طفلا فردّه مكسور الخاطر حزينا.. وهكذا تلاشى حلم ابن عمر رضي الله عنه بأن يخطُوَ خطوات في درب البطولة والشّهادة..

وجاء طفل آخر اسمه البراء بن عازب رضي الله عنه .. فأعاده النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كذلك، فراح يحدّثنا عن ذلك فيما رواه البخاري عن البرَاءِ قال: "اُسْتُصْغِرْتُ أَنَا وَابْنُ عُمَرَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ يَوْمَ بَدْرٍ نَيِّفًا عَلَى سِتِّينَ، وَالْأَنْصَارُ نَيِّفًا وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ ".

وجاء سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه ومعه فتًى صغير هو أخوه عُمير رضي الله عنه .. كان طفلا شجاعا، والعجيب أنّه كان في ذلك اليوم خائفا .. بل باكيا من شدّة الخوف ..

روى الحاكم وابن سعد والبزّار عن سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه قال:" رأيت أخي عُمير بن أبي وقّاص قبل أن يعرضنا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على بدر يَتَوَارَى ! فقلت: ما لك يا أخي ؟! قال: إنّي أخاف أن يراني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيستصغرني فيردّني، وأنا أحبّ الخروج، لعلّ الله َ يرزقني الشّهادة.. " !

فعُرض على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فاستصغره، فقال: (( اِرْجِعْ )) .. فبكى عمير، فأجازه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ".. قال سعدٌ رضي الله عنه: فكنت أعقد حمائل سيفه من صغره.

هذا حال الشّباب في أيّ زمان ومكان إذا تربّى على القرآن والسنّة .. يبكون طمعا في الشّهادة والجنّة .. وكيف لا وهم أمام بوّابة الخلود ؟

وجاء بعدهما أسدان من أسود الأنصار، يكْبُران عميرا بقليل .. أحدهما: معاذ بن عمرو بن الجموح .. واسم الآخر: معاذ ابن عفراء:

معاذ بن عمرو بن الجموح رضي الله عنه، الّذي ذكره النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مع الكبار، فقد روى التّرمذي عن أبي هرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم:

(( نِعْمَ الرَّجُلُ أَبُو بَكْرٍ ! نِعْمَ الرَّجُلُ عُمَرُ ! نِعْمَ الرَّجُلُ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ ! نِعْمَ الرَّجُلُ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ ! نِعْمَ الرَّجُلُ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ ! نِعْمَ الرَّجُلُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ ! نِعْمَ الرَّجُلُ مُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ !)). 

ولنا أن نتصوّر ساعة الوداع بين هؤلاء الأطفال وأمّهاتهم .. يودّعْن أولادهنّ وهنّ لا يدرين أسيعودون أم سيموتون ؟

ولكنّها الجنّة .. فليذهبوا إلى دار الأبرار .. جنّات تجري من تحتها الأنهار ..

وأخرى ترسل بابنها إلى بدر، هي أمّ الرّبيع بنت النّضر، أخت الأسد الهصور أنس بن النّضر رضي الله عنه، وعمّة أنس بن مالك رضي الله عنهم.

وكان هناك شابٌّ آخر .. ربّما كان بين نخله يخرفها، أو في سوق يشتري تمرا .. وربّما غير ذلك .. المهمّ أنّه كان يضع بعض التّمرات في جيبه .. فما سمع النّداء حتّى هبّ مسرعا لنداء الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم .. إنّه: عُمير بن الحُمام رضي الله عنه.

اجتمع كلّ هؤلاء حول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم .. فتراه يشقّ طريقه بينهم فيقف أمامهم وينتظرون الأوامر ..

ولكنّهم ما سمعوه يأمر ولا يصيح ويزجر .. إنّهم سمعوه يسنّ لهم مبدأ الشّورى امتثالا لقوله تعالى:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:159].

ولكن .. لماذا هذه المرّة بالذّات ؟ فقد خرج من قبل ولم يشاورهم في قتال أهل الكفر ..

الجواب يُعلم ممّا سبق بيانه في الغزوات السّابقة .. فقد كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يبعث بالسّرايا وكلّهم من المهاجرين .. ولم يُرسل معهم من الأنصار أحدا ..

ذلك لأنّه لم يبايعهم على القتال الهجوميّ، ولكنّهم بايعهم على القتال الدّفاعيّ .. فالجميع يتذكّر نصّ البيعة:" ونمنعك ممّا نمنع منه أنفسنا وأهلينا ".. فكان لا بدّ من المشاورة.

روى مسلم عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه " أَنَّ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم شَاوَرَ حِينَ بَلَغَهُ إِقْبَالُ أَبِي سُفْيَانَ، فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ عُمَرُ رضي الله عنه، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ رضي الله عنه فقالَ:

إِيَّانَا تُرِيدُ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نُخِيضَهَا الْبَحْرَ لَأَخَضْنَاهَا، وَلَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نَضْرِبَ أَكْبَادَهَا إِلَى بَرْكِ الْغِمَادِ لَفَعَلْنَا !

قال: فَنَدَبَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم النَّاسَ فَانْطَلَقُوا..".[1]

قال الإمام النّووي رحمه الله:

" قال العلماء: إنّما قصد صلّى الله عليه وسلّم اختبار الأنصار، لأنّه لم يكن بايعهم على أن يخرجوا معه للقتال وطلب العدوّ، وإنّما بايعهم على أن يمنعوه ممّن يقصده، فلمّا عرض الخروج لعير أبي سفيان أراد أن يعلم أنّهم يوافقون على ذلك، فأجابوه أحسن جواب بالموافقة التامّة في هذه المرّة وغيرها ".

وخرج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في سرّية تامّة .. دون ضوضاء .. ودون ضجيج.

وتتمّة الأحداث نراها لاحقا إن شاء الله تعالى.



[1] قوله: ( أن نخيضها ) يعني: الخيل. وقوله: ( برك الغماد ): أمّا ( بَرْك ) فهو بفتح الباء وإسكان الرّاء، هذا هو المعروف المشهور في كتب الحديث وروايات المحدّثين، وذكره جماعة من أهل اللّغة بالكسر ليس غير.

وأمّا ( الغماد ) فبغين معجمة مكسورة ومضمومة لغتان مشهورتان، لكن الكسر أفصح، وهو المشهور في روايات المحدّثين، والضمّ هو المشهور في كتب اللّغة، وهو موضع من وراء مكّة بخمس ليال بناحية السّاحل. وقال القاضي وغيره: هو موضع بأقاصي هجر، وقال إبراهيم الحربي: برك الغماد وسعفات هجر كناية يقال فيما تباعد.

أخر تعديل في السبت 18 ذو الحجة 1433 هـ الموافق لـ: 03 نوفمبر 2012 08:50
عبد الحليم توميات

آخر المواضيع:

الذهاب للأعلي