الثلاثاء 17 شعبان 1437 هـ الموافق لـ: 24 ماي 2016 16:57

- السّيرة النّبويّة (90) زواجه صلّى الله عليه وسلّم من حفصة رضي الله عنها.

الكاتب:  عبد الحليم توميات
أرسل إلى صديق

فلا زلنا في قلب العام الثّالث من الهجرة النبويّة، وفي بحر شهر ربيع الأوّل ..

فبعد غزوة بَحران، كان هناك حدثٌ لم يفرحْ له أحدٌ كما فرِح عمرُ بن الخطّاب رضي الله عنه؛ إذ لم يكتَفِ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بصحبته، ولا بوزارته، ولكنّه قرّبه منه صهرا.

وكانت العرب تعظّم المصاهرة، حتّى إنّهم ولربّما أسقطوا كثيرا من حقوقهم لأجلها، وهذا ما سيتبيّن لنا جليّا من زواجه صلّى الله عليه وسلّم من أمّ سلمة كيف أثّر ذلك على بني مخزوم، وفي زواجه من جويرية وكيف أثّر ذلك على الصّحابة حتّى أعتقوا قومها من بني المصطلق ..

وبالمقابل، فإنّه لو أرادوا الثّأر من قبيلة ما، أُمِروا بتطليق النّساء اللاّء كنّ سبب المصاهرة !

ولم يلفِت انتباهَ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى حفصة كونُها بنتَ عمرَ بنِ الخطّاب رضي الله عنه فحسب، إنّما لفتت انتباهَه لتحلّيها بصفات المرأة الصّالحة التقيّة النقيّة: فقد عُرِفت بكثرة العبادة والزّهد في الدّنيا وقراءة القرآن ..

إنّها المرأة الّتي كُتِب لها أن يكون المصحف الإمام في بيتها دون غيرها ..

إنّها المرأة الّتي يوم أراد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مفارقتها، جاءه الوحي ليُرجعها؛ فدخل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عليها، فقال: (( يَا حَفْصَةُ، أَتَانِي جِبْرِيلُ عليه السّلام آنِفًا، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ يُقْرِئُكِ السَّلاَمَ، وَيَقُولُ لَكَ: رَاجِعْ حَفْصَةَ ! فَإِنَّهَا صَوَّامَةٌ قَوَّامَةٌ، وَهِيَ زَوْجَتُكَ فِي الجَنَّةِ )).[1] 

فكيف بدأ أمر زواجه صلّى الله عليه وسلّم من حفصة ؟

كانت رضي الله عنها تحت خُنَيْسِ بنِ حذافة السّهميّ رضي الله عنه، فمات بعد غزوة بدر على الصّحيح، كما قال الحافظ ابن حجر في "الإصابة" و"فتح الباري"، فأراد عمرُ رضي الله عنه أن يختار لها زوجا برّا حَيِيّا، عفيفا تقيّا .. فأدار عينيه في وجوه أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فلم يجد أفضل من عثمان رضي الله عنه حينئذ، وازداد اطمئنانه إليه أنّه هو أيضا لا يزال مفجوعا بموت قرّة عينه رقيّة رضي الله عنها.

وفي السّماء شيء آخر .. فإنّ الله تعالى يريد لحفصة رجلا أفضل من عثمان رضي الله عنه، ويريد لعثمان امرأة أفضل من حفصة  ..

ولندعْ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه نفسه يحدّثنا عن ذلك .. روى البخاري ومسلم عن عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ عُمَرَ حِينَ تَأَيَّمَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ مِنْ خُنَيْسِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ، قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: فَلَقِيتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رضي الله عنه، فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَفْصَةَ ..".

ما أطهر هذا المجتمع ! يكسر تقاليد المجتمعات الفاسدة، ويهدم صنم الحياء المذموم في عَرْض البنت على الصّالحين، وربّما رأوا في ذلك غضّا من منزلتهم ومرتبتهم !

ويهدمُ صنمَ الاستنكاف عن تزوّج الأرملة، حتّى صارت شبيهة بالمحكوم عليها بالإعدام !

قال عُمَر:" فَقُلْتُ: إِنْ شِئْتَ أَنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ، قَالَ عثمان: سَأَنْظُرُ فِي أَمْرِي ".

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:" لعلّه كان على علمٍ بأنّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم ذكرها ".

وهذا محتمل، ويمكن أن يقال أيضا: لعلّه كان يريد التزوّج من أمّ كلثوم رضي الله عنها.  فإنّها قد تزوّجها عتبة بن أبي لهب، ولم يبْنِ بها، حتّى إذا بُعث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أمر أبو لهب وأمّ جميل ابنَهما بأن يطلّقها !

والظّاهر من الحديث أنّ عثمان رضي الله عنه لم يرغب في الزّواج تلك الأيّام، وهذا ما يبيّنه لنا تمام الحديث، حيث قال عمر رضي الله عنه:" فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ، فَقَالَ-أي عثمان-: قَدْ بَدَا لِي أَنْ لَا أَتَزَوَّجَ يَوْمِي هَذَا.

قَالَ عُمَرُ: فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ، فَقُلْتُ: إِنْ شِئْتَ أَنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ.

فَصَمَتَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه، فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيَّ شَيْئًا، فَكُنْتُ عَلَيْهِ أَوْجَدَ مِنِّي عَلَى عُثْمَانَ !

فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ..ثُمَّ خَطَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم، فَأَنْكَحْتُهَا إِيَّاهُ ..

فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه، فَقَالَ: لَعَلَّكَ وَجَدْتَ عَلَيَّ حِينَ عَرَضْتَ عَلَيَّ حَفْصَةَ فَلَمْ أَرْجِعْ إِلَيْكَ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَرْجِعَ إِلَيْكَ فِيمَا عَرَضْتَ إِلَّا أَنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَدْ ذَكَرَهَا، فَلَمْ أَكُنْ لِأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم، وَلَوْ تَرَكَهَا لَقَبِلْتُهَا ".

وهكذا أُعِدّ لحفصة رضي الله عنها حجرةٌ أخرى في الجهة الشّرقيّة من المسجد، إلى جانب حجرتَيْ عائشة وسودة رضي الله عنهنّ جميعهنّ.

وبعد أيّام، زوّج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ابنتَه أمَّ كلثوم من عثمان بن عفّان رضي الله عنه .. ودخل بها بعد ذلك، قال ابن عبد البرّ في "الاستيعاب":" وبنى عليها في جمادى الأولى "، فصار يلقّب بذي النّورين رضي الله عنه، لأجل ذلك.

ولم تقف الفرحة عند هذا الحدّ، فمضت الأشهر، حتّى جاء شهر رمضان، فأكرم الله النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بـ:

مولد الحسن بن عليّ رضي الله عنه من فاطمة.



[1] رواه الضّياء المقدسيّ رحمه الله في " الأحاديث المختارة " قال: أخبرنا أبو جعفر محمّد بن أحمد بن نصر بن أبي الفتح بأصبهان رحمه الله أنّ أبا عليّ الحداد أخبرهم وهو حاضر أنبأنا أبو نعيم الأصبهانيّ، أنبأنا سليمان بن أحمد الطبراني، ثنا أحمد بن يحيى بن خالد بن حيان، ثنا موسى بن أبي سهل المصري، ثنا يحيى بن أبي بكير الكرماني، ثنا شعبة، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه قال:" طلّق النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حفصةَ، فاغتمّ النّاس من ذلك، ودخل عليها خالُها عثمانُ بنُ مظعون وأخوه قدامة، فبينا هم عندها وهم مغتمّين [كذا في الأصل]، إذ دخل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على حفصة، فقال:... فذكره. ثمّ قال:

" قال الطّبراني: لم يرو هذا الحديث عن شعبة إلاّ يحيى بن أبي بكير، تفرّد به موسى بن أبي سهل. قال الدّارقطني: رواه عبيد بن أسباط، ومحمّد بن ثوّاب بن سعيد عن أسباط عن سعيد عن قتادة عن أنس رضي الله عنه وغيرهما، يرويه عن أسباط عن سعيد عن قتادة مرسلا، وهو الصّحيح، وكذلك رواه سعيد بن عامر عن سعيد عن قتادة مرسلا، وهو الصّواب.

قلت: فهذه الرّواية الّتي رويناها من رواية شعبة غير رواية سعيد، والله أعلم " اهـ.

وقد ذكر في "مجمع الزّوائد" (9/244) طرقا لهذا الحديث من رواية عمّار بن ياسر وابن عمر بن الخطّاب رضي الله عنهم. فلا شكّ أنّ أقلّ درجات هذا الحديث أنّه حسن.

أخر تعديل في الثلاثاء 17 شعبان 1437 هـ الموافق لـ: 24 ماي 2016 16:59
عبد الحليم توميات

آخر المواضيع:

الذهاب للأعلي