الاثنين 16 ذو الحجة 1431 هـ الموافق لـ: 22 نوفمبر 2010 11:14

- السّيرة النّبويّة (20) الجـهـر بالدّعـوة.

الكاتب:  عبد الحليم توميات
أرسل إلى صديق

الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:

فكنّا قد تطرّقنا في حلقتنا السّابقة إلى بداية الدّعوة سرّا، ورأينا أنّه لمّا ربَى عددُ المسلمين اختار النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لهم مقرّا يتدارسون فيه الإسلام، فكانت دار الأرقم بن أبي الأرقم هي التي حظِيت بهذا الشّرف المبين ..

ودامت الدّعوة سرّا مدّة لا يُمكِنُ تحديدها، وذكرنا أنّه قد شاع في كتب السّيرة أنّها ظلّت ثلاث سنوات اعتمادا على رواية ابن إسحاق دون إسناد، فلا يمكن الجزم بذلك.. ولنا وقفتان مع هذه البداية:

الأولى: أنّ هذه السرّية كانت من تمام تعليم الله تعالى لعباده وجوب أخذ الحيطة، وأنّه لا بدّ من اتّخاذ الأسباب، وأنّ القدح في الأسباب قدح في التوكّل.

ولو أنّ الله نصر عبده ورسوله صلّى الله عليه وسلّم في أيّامه الأولى، وفي هجرته دون اتّخاذ الأسباب، لما كان لنا فيه أسوةٌ، ولكان جميع المتقاعسين يعتذرون بأنّ ذلك رسول الله مؤيّد من الله !!..

ولكنّه صلّى الله عليه وسلّم قطع الحجّة، وبيّن المحجّة بأنّ النّصر سبيله: اتّخاذ الأسباب، ودعاء الله العزيز الوهّاب، فذاك هو التوكّل.

الثّانية: كان الغالب من أتباع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم هم الفقراء والضّعفاء والأرقّاء.

فما السرّ في أن تتكوّن النّواة الأولى من الإسلام من هؤلاء ؟

إنّ هذه الظّاهرة كانت بادية مع كلّ نبيّ أرسله الله عزّ وجلّ، وها هم أولاء قوم نوح عليه السّلام يعيّرونه بأتباعه قائلين:{مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [هود: من الآية27]..

وقال تعالى عن أتباع موسى عليه السّلام:{وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأعراف: من الآية137]..

وهي حقيقة أدركها هرقل عظيم الرّوم تمام الإدراك حيث سأل أبا سفيان قائلا: وَسَأَلْتُكَ: أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمْ اتَّبَعُوهُ وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ. [رواه البخاري].

- والحكمة من وراء ذلك: أنّ الله يريد من أتباع هذا الدّين أن يخضعوا من أوّل يوم لسلطان الله وحده، فيكون الّذي دخل مع هؤلاء الأتباع قد دخل بحقّ إلى دين الله، وسلطان الله، لا إلى سلطان الجاه، ولا إلى قصور الشهوات، ولا إلى بروج التكبّر والسّيادة..

فالمستضعفون لا يرون مانعا من الاستجابة إلى الحقّ.

أمّا السّادة والشّرفاء فإنّ مَنْ قَهَر تلك النّفس الّتي لا تتنازل عادةً عن السّيادة والمكانة الرّفيعة، كان لما بعدها أشدَّ قهرا ..

- ومن فقه هذا الواقع: ألاّ يغترّ الإنسان بالظّاهر، فلربّما ردّ النّاسُ الحقَّ لفقر حامليه، ولربّما قبلوا الباطل لمكانة حامليه، والمطلوب أن يتّبع الإنسان الحقّ لأنّه الحقّ، (( إِنَّ اللهَ لاَ بَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ، وَلاَ إِلَى صُوَرِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ )).

وجاءت المرحلة السّاخنة .. ألا وهي الجهر بالدّعوة إلى الله عزّ وجلّ.

روى البخاري ومسلم عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ:{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} صَعِدَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم عَلَى الصَّفَا، فَجَعَلَ يُنَادِي:

يَا بَنِي فِهْرٍ ! يَا بَنِي عَدِيٍّ ! - لِبُطُونِ قُرَيْشٍ - حَتَّى اجْتَمَعُوا، فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ أَرْسَلَ رَسُولًا لِيَنْظُرَ مَا هُوَ ؟ فَجَاءَ أَبُو لَهَبٍ وَقُرَيْشٌ، فَقَالَ صلّى الله عليه وسلّم:

(( أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا بِالْوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ ؟)) قَالُوا: نَعَمْ ! مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلَّا صِدْقًا .. قَالَ:

(( فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ )).

حينها أرادوا أن يسمعوا منه، علمنا ذلك من رواية أخرى في صحيح البخاري ومسلم عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ:

قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} قَالَ:

(( يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ !-أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا- اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ، لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ ! لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا ! يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ! لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا ! وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم ! لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا ! وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ ! سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي، لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا )).

والجميع مذهول .. فقد كانت مفاجأة لا تتوقّعها العقول ..

أُلجِمت الألسنة بما يدعوهم إليه الصّادق الأمين، إلاّ رجلا ركب رأسه كما ركبته الأصنام، هو: أبو لهب ..

فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ، أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا فَنَزَلَتْ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ}"..

ونزل قوله تعالى:{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ (95)} [الحجر].

وقِف معي أخي القارئ .. وتذكّر هذا المكان الّذي كُذّب فيه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، لتُدرِك السّر فيما قاله النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في حجّته يوم قام على الصّفا.

ففي صحيح مسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قال في حديثه الطّويل في صفة حجّة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم:

فَلَمَّا دَنَا صلّى الله عليه وسلّم مِنْ الصَّفَا، قَرَأَ:{إِنَّ الصَّفَا والْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ.

فَبَدَأَ بِالصَّفَا، فَرَقِيَ عَلَيْهِ ... فَوَحَّدَ اللَّهَ وَكَبَّرَهُ، وَقَالَ: (( لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ )).

وهكذا كانت عادة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: لا يترك مكانا كذّبت فيه كلمة الله، أو ظهرت فيها شعائر الجاهليّة إلاّ وطمسها بإحياء معالم التّوحيد والإيمان،

· ثمّ واصل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم دعوة أقاربه، بل أقرب أقاربه:

روى الإمام أحمد عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ:

جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فِيهِمْ رَهْطٌ كُلُّهُمْ يَأْكُلُ الْجَذَعَةَ وَيَشْرَبُ الْفَرَقَ (مكيال معروف يساوي 16 رطلا) قَالَ:

فَصَنَعَ لَهُمْ مُدًّا مِنْ طَعَامٍ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، قَالَ وَبَقِيَ الطَّعَامُ كَمَا هُوَ، كَأَنَّهُ لَمْ يُمَسَّ، ثُمَّ دَعَا بِغُمَرٍ (القدح الصّغير) فَشَرِبُوا حَتَّى رَوَوْا وَبَقِيَ الشَّرَابُ كَأَنَّهُ لَمْ يُمَسَّ أَوْ لَمْ يُشْرَبْ، فَقَالَ:

يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ! إِنِّي بُعِثْتُ لَكُمْ خَاصَّةً، وَإِلَى النَّاسِ بِعَامَّةٍ، وَقَدْ رَأَيْتُمْ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَا رَأَيْتُمْ، فَأَيُّكُمْ يُبَايِعُنِي عَلَى أَنْ يَكُونَ أَخِي وَصَاحِبِي ؟

فَلَمْ يَقُمْ إِلَيْهِ أَحَدٌ، فَقُمْتُ إِلَيْهِ، وَكُنْتُ أَصْغَرَ الْقَوْمِ، فَقَالَ صلّى الله عليه وسلّم:

(( اجْلِسْ )). قَالَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ كُلُّ ذَلِكَ أَقُومُ إِلَيْهِ فَيَقُولُ لِي: (( اجْلِسْ !)) حَتَّى كَانَ فِي الثَّالِثَةِ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى يَدِي.

إذن فقد أعلن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الحرب على الشّرك وأهله، وأعلن أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وكان لا بدّ أن تستمرّ سنن الله الكونيّة:{ آلم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)} [العنكبوت]..

فكانت بداية البلاء ..

أخر تعديل في الخميس 29 صفر 1432 هـ الموافق لـ: 03 فيفري 2011 09:29
عبد الحليم توميات

آخر المواضيع:

الذهاب للأعلي