الخميس 19 ذو الحجة 1431 هـ الموافق لـ: 25 نوفمبر 2010 17:31

- السّيرة النّبويّة (21) بدايـةُ البَـلاَء

الكاتب:  عبد الحليم توميات
أرسل إلى صديق

الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:

فقد تطرّقنا في الحلقة السّابقة إلى بداية مرحلة الجهر بالدّعوة إلى الله تعالى .. امتثالا لأمر الله القائل:{ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95)} [الحجر].

ورأينا أنّ أوّل من كذّب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من الرّجال عمُّه أبو لهب، واسمه عبد العزّى بن عبد المطّلب.

ولا يخْفى على أحدٍ أنّ تكذيب الأقربين أشدّ على الدّعوة من كلّ تكذيب، وأذاهم أشدّ على النّفس من كلّ تعذيب:

وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة *** على المرء من وقع الحسام المهنّد

أمّا في النّساء فكانت أوّل مكذِّبةٍ هي أمَّ جميل بنت حرب زوج أبي لهب .. لقد انتفضت انتفاضة رهيبة حين بلغها ما نزل فيها وفي زوجها من قرآن:{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)}..

فقد ضاق صدرها بهذا اللّهب، ممّا جعلها تمشي صارخةً في أزقّة مكّة كمن به جِنَّة لا تَلْوي على شيء، تبحث هنا وهناك في الدّور والطّرقات عن انتقام يُخمِد شيئا من نارها، ويغسل شيئا من عارها، فقصدت المسجد الحرام .. فما الّذي حدث هناك ؟

روى البيهقي في " دلائل النبوّة " بسند حسن عن أسماءَ رضي الله عنها قالت:

لمّا نزلت {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ ..} أَقْبَلَت العوراءُ أمُّ جميلٍ بنتُ حربٍ ولها ولولة، وفي يدها فهر[1]، وهي تقول:

مذمّـما أبـيـنا *** ودينَـه قلـيـنا *** وأمـرَه عصـيـنا[2]

والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم جالس في المسجد ومعه أبو بكر رضي الله عنه.

فلماّ رآها أبو بكر قال: يا رسول الله ! ها هي قد أقبلت، وأنا أخاف أن تراك.

فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( إِنَّهَا لَنْ تَرَانِي )) وقرأ قرآنا فاعتصم به:{وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً} [الإسراء:45]..

فوقفت على رأس أبي بكر رضي الله عنه، ولم تر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقالت: يا أبا بكر ! إنّي أُخْبِرْت أنّ صاحبك هجاني ؟

فقال: لا وربّ هذا البيت ما هجاك [وهو صادق رضي الله عنه لأنّ الّذي ذمّها هو الله تعالى].

فولّت وهي تقول: قد علمت قريش أنّي ابنة سيّدها.

وفي رواية أخرى أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال له: (( قُلْ لَهَا: تَرَيْنَ عِنْدِي أَحَداً ؟ فَإِنَّهَا لَنْ تَرَانِي، قَدْ جَعَلَ اللهُ بَيْنِي وَبَيْنَهَا حِجَاباً )).

فسألها أبو بكر، فقالت: أتهزأ بي يا ابن أبي قحافة، والله ما رأى عندك من أحد..

وعادت لتؤلّب قريشا على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وهنالك:

بدأت المعاناة ..

هذا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أوّل من جهر بالقرآن .. ويوم أسلم ما كان يظنّ أنّه سيصبح وعاءً لكلام الرّحمن .. حتّى يقول فيه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( مَنْ أَرَادَ أَنْ يَقْرَأَ القُرْآن غَضًّا طَرِيًّا كَمَا أُنْزِلَ فَلْيَقْرَأْهُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ ))..

فجهر بالقرآن يوما، فظهرت المعاداة، وبدأت المعاناة، فضربوه حتّى أدْمَوْه ..

وواصل أهل مكّة الاضطهاد ..

روى ابن ماجه وأحمد عن عبدِ الله بنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ:

كَانَ أَوَّلَ مَنْ أَظْهَرَ إِسْلَامَهُ سَبْعَةٌ: رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعَمَّارٌ، وَأُمُّهُ سُمَيَّةُ، وَصُهَيْبٌ، وَبِلَالٌ، وَالْمِقْدَادُ.

فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم فَمَنَعَهُ اللَّهُ بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ.

وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَمَنَعَهُ اللَّهُ بِقَوْمِهِ.

وَأَمَّا سَائِرُهُمْ فَأَخَذَهُمْ الْمُشْرِكُونَ وَأَلْبَسُوهُمْ أَدْرَاعَ الْحَدِيدِ ! وَصَهَرُوهُمْ فِي الشَّمْسِ ! فَمَا مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وَاتَاهُمْ عَلَى مَا أَرَادُوا إِلَّا بِلَالًا، فَإِنَّهُ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِي اللَّهِ، وَهَانَ عَلَى قَوْمِهِ، فَأَخَذُوهُ فَأَعْطَوْهُ الْوِلْدَانَ فَجَعَلُوا يَطُوفُونَ بِهِ فِي شِعَابِ مَكَّةَ وَهُوَ يَقُولُ: " أَحَدٌ أَحَدٌ ".

فهذا بلال بن رباح رضي الله عنه .. الّذي انحدر من شلاّلات إفريقيا وأنهارها، شجاعا كأسودها، وسخيّا كسهولها، ساق الله أمّه وأباه إلى مكّة، فوُلِد هناك مليئا بالأحزان والأشجان ..

وُلِد هناك ليجد هموما تغمُرُ قلبَه، وقيودا تضيِّق صدره ..

كان في حياة آسنة عكرة، حتّى سمع برسول الله صلّى الله عليه وسلّم صاحب السّيرة العطِرة .. علم أنّه يحمل الدّعوة إلى التحرّر من العبوديّة إلاّ لربّ العباد، ويحمل ما كان يبحث عنه من انشراح الصّدر، واطمئنان القلب .. فلم الانتظار ؟..

أدرك أنّ الدّنيا ليست سوى ساعات وأيّامٍ معدودات ثمّ ترتحل ..

فمهما طالت فلن تدوم وأنّ الحياة هناك: خلف السّحاب، وخلف السّماء، في مدائن الجمال، والبهجة والكمال، في جنّات تجري تحتها الأنهار..{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111]..

فاختار بلال رضي الله عنه سلعة الرّحمن، ولفظ من حياته تخويف الشّيطان .. وتأمّل كلام ابن مسعودٍ السّابق فيه: ( هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِي اللَّهِ، وَهَانَ عَلَى قَوْمِهِ، فَأَخَذُوهُ فَأَعْطَوْهُ الْوِلْدَانَ فَجَعَلُوا يَطُوفُونَ بِهِ فِي شِعَابِ مَكَّةَ وَهُوَ يَقُولُ: " أَحَدٌ أَحَدٌ ")..

كان منظره يُذيب الصّخر وهو يُسحَب في دروب مكّة وشِعابها، يلعب به الصّبيان والسّفهاء، وهو يسقط المرّة تلو المرّة من الإعياء..

ثمّ تُحرِق الرّمضاء جسدَه، وتختلط العظامُ بلحمه فيضطرّ للقيام مرّة أخرى !

والمسلمون حوله يتحرّقون عليه، ولا يستطيعون أن يدفعوا عنه شيئا من الآلام.. فهم ليسوا بأحسنَ حالا منه..

ظلّ على تلك الحال أيّاما، حتّى أذن الله تعالى لشمس الحرّية أن تشرق، ولهلال الفرج أن يُهلّ ..

ما جاء اللّيل بحلكته *** إلاّ والفجر أتى بسناء

جاء الفرج يحمله أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه، الّذي تقدّم نحو أميّة بن خلف، فعرض عليه شراءه.

فوافق الطّاغية بعد أن تعبت يداه، وكلّت قدماه من الضّرب والصّفع والرّكل ..

تقدّم أبو بكر رضي الله عنه ودفع الثّمن، ثمّ اتّجه نحو ساحة التّعذيب يمدّ يده لينتشل بلالا ..

فكيف كانت حال بلال ؟ وعلى أيّ صورة وجده ؟..

هذا قيس بن أبي حازم يروي لنا آخر فصل لهذه المأساة، فقد روى ابن عبد البرّ رحمه الله في "الاستيعاب" (2/34) بسند قويّ[3] عنه أنّه قال:

" اشترى أبو بكر بلالا وهو مدفون بالحجارة "..والشّمس تحمي عليه تلك الحجارة ..

وأكثر السّلف على أنّ أواخر سورة اللّيل:{الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)} نزلت في أبي بكر رضي الله عنه، روي ذلك عن ابن مسعود وابن عبّاس وعبد الله بن الزّبير وغيرهم..

حتّى كان عمر بن الخطّاب يوم صار خليفة المسلمين يقول: ( أبو بكر سيّدنا، وأعتق سيّدنا )..

ولقد كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يحدّث النّاس عن مقاساة بلال معه، روى أحمد والتّرمذي وابن ماجه عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم:

(( لَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ، وَلَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ، وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَلَاثُونَ مِنْ بَيْنِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَمَا لِي وَلِبِلَالٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلَّا شَيْءٌ يُوَارِيهِ إِبْطُ بِلَالٍ )).

وليس ما ذكرناه إلاّ غيضا من فيض، فما زالت صور التّعذيب تتوالى، نراه لاحقاً إن شاء الله.



[1] وهو حجر ملء الكفّ.

[2] تقصد بمذمّم عكس محمّد. و( قلينا ) أي: أبغضنا.

والمتأمّل يدرك أنّها إنّما تهجو مذمّم، والرّسول صلّى الله عليه وسلّم محمّد، فقد صان الله تعالى اسم نبيّه من هجاء الأعداء.

[3] كما قال الإمام الذّهبي رحمه الله في "السّير" (1/353).

أخر تعديل في الخميس 29 صفر 1432 هـ الموافق لـ: 03 فيفري 2011 09:28
عبد الحليم توميات

آخر المواضيع:

الذهاب للأعلي