الخميس 07 شوال 1431 هـ الموافق لـ: 16 سبتمبر 2010 10:15

- السّيرة النّبويّة (1) المقدّمة

الكاتب:  عبد الحليم توميات
أرسل إلى صديق

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مدخل إلى دراسة علم السّيرة النبويّة.

1- التّعريف بالسّيرة:

لغة: السّيرة  من سار يسير سيرا، والسَّيْرة المرّة الواحدة، والسِّيرة الضرب من السير، قال ابن منظور: السّيرة: الطريقة، يقال سار بهم سيرة حسنة، والسّيرة الهيئة، وفي التّنزيل العزيز:{ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى }.

فما سار عليه المرء في حياته يُسمّى سيرة، لذلك قالوا: السّيرة تقابل الصّورة، أي: السّيرة في السّلوك، والصّورة في الجسد.

 

قال الجرجاني رحمه الله في "التّعريفات":" السِّيَر: جمع سيرة، وهي الطّريقة سواء كانت خيرا أو شرّا، يقال: فلان محمود السّيرة، وفلان مذموم السّيرة ".

وفي الاصطلاح الشّرعي:

السّيرة هي: العلم بحياة النبيّ محمّد صلّى الله عليه وسلّم من قبل ولادته إلى وفاته، وما يتعلّق بدعوته من الحوادث.

حتّى إنّه عند الإطلاق لا ينصرف لفظ السّيرة إلاّ إلى حياة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.

2- أهمّية دراسة السّيرة:

لا ريب أنّ دراسة السّيرة لها مكانتها من بين العلوم، ويظهر لنا ذلك جليّا من خلال ما يلي:

1- صحيح أنّ السّيرة تتحدّث عن حياة النبيّ محمّد صلّى الله عليه وسلّم، ولكنّها في الحقيقة تتحدّث عن الإسلام، لأنّها تعتني بدعوته ودلائل نبوّته لذلك أطلق عليها السّيرة النبويّة أي: باعتبار أنّه نبيّ صلّى الله عليه وسلّم.

2- ثمّ إنّ من شروط الإيمان بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم حبّه وتقديمه على النّفس والأهل والولد، فقد روى الشّيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ:

(( فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ )).

وفيهما أيضا عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ:

(( ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ )).

والمتمعّن في سيـرته، ليخرج منها بأكبر نصيب من هذا الحبّ تجاه نبيّه صلّى الله عليه وسلّم .

3- ثمّ يأتي بعد ذلك أصل من أصول الإيمان، ألا وهو: حبّ أصحابه رضي الله عنهم:

وكيف خالط الإيمان تلك القلوب فرفعهم إلى أرقى المنازل، حتّى نالوا شهادة لا تزال تتلى على مرّ السّنين:{ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [التوبة: 100]

فكانوا - وإن مشوا على الأرض - على اتّصال دائم بالله والملأ الأعلى، فهذا يهتزّ عرش الرّحمن من أجله، وآخر تشيّع الملائكة جنازته، وثالث تغسله الملائكة، ورابع تسمع ترنّمه بالتّلاوة، وخامس يقرئه ربّه السّلام، وسادس يسلّم عليه الملك، وجيش يقاتل معه مدد من السّماء الثّالثة .. الخ

4- العبرة من دراسة السّيرة النبويّة فهم جزء كبير من كتاب الله عزّ وجلّ، وسنّة المصطفى ذاتها، قال تعالى:{ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24].

فما من لحظة من لحظات حياته صلّى الله عليه وسلّم إلاّ وهي مكلّلة بوحي نازل من السّماء يستقي منه المسلم ما يعينه على تخطّي هذه الحياة فقها وسلوكا وإيمانا ودعوة ..

لذلك كان أفقه النّاس بالقرآن والسنّة هم أصحابه الذين عايشوا مراحل حياته صلّى الله عليه وسلّم.

5- جُبِلت النّفوس على حبّ الاقتداء، والزجاجة إن لم تملأها بالماء ملئت بالهواء.

فدراسة حياة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم تجعل المؤمن لا يرغب إلاّ في اتّباع منهجه في الحياة، مصداقا وامتثالا لأمر الله تعالى:{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً } [الأحزاب:21 ].

فلمّا أراد الله ذلك، هيّأه لذلك:

فجاءت سيرته شاملة شمول دين الإسلام، وكاملة كمال شريعته:

فيجد فيه الحاكم قدوته في سياسة دولته.

والأب يجد فيه قدوته في تربية أولاده.

والزّوج تعامله مع زوجته.

والمعلّم براعة الطريقة في تعليمه.

والتّلميذ حسن تأدّبه مع شيخه.

والزّاهد يجد صدق زهده.

والتّاجر صدق تعامله.

والعامل أمانة عمله.

والغنيّ قمّة في شكر ربّه.

والفقير غاية في صبره.

واليتيم صورة لتوكّله على ربّه.

والدّاعي نبراسا لدعوته ..

فنبيّ مثل نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم جدير على كلّ مسلم أن لا تلفظ أنفاسه ولا تكون حركاته إلاّ بهديه.

هذا فيما يخصّ عموم المسلمين.

أمّا حملة الرّسالة، والمحاربون للجهالة، فإنّهم يلجون من خلال دراسة السّيرة النبويّة إلى عالم مخيف، قبل ظهور المنار المنيف ..

عالم الجاهليّة الأولى، تجد فيه طفلا طهورا كالبَرَد، وُلِد يتيما، واستمرّ اليُتم يلاحقه، ويلاحق طفولته في طرقات مكّة ودروبها .. يذيقه مرارة تقلّب العشيرة والأصحاب، ويُفْجِعه بفقد الأهل والأحباب، ويكبر ،وتكبر غربته، ويكتشف في دروب الحياة يُتما أكبر من يتمه، وهمّا أعظم من همّه، فالأرض كلّها يُتم، والعالم كلّه همّ وغمّ ..

ما عساه أن يفعل أمامها ؟ وماذا بيديه حيالها ؟..
في تلكم الحال، ينزل عليه وحي الكبير المتعال: اُدع إلى ربّ البريّة .. وأصلح البشريّة .. وأزل هذه الجاهليّة .. فنطق بها، فأتته الإجابة على غير ما تمنّى ..
سياط من التّكذيب وهو الذي كان بالأمس الصّادق الحبيب ..

وفي الأخير كانت الإجابة بعد سيرة حياة كاملة، سيرته تلك تمثّل واقع هذه الصّحوة التي تهزّ أركان الأرض كلّها.

6- تعدّ سيرة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم السّيرة الوحيدة من بين سير الأنبياء الكاملة في التّأريخ، والمترابطة الحلقات، والواضحة الأطوار، تجمع لنا جميع أطوار حياته بدقّة متناهية.

بخلاف غيره من الأنبياء، فإنّ حياتهم يكتنف كثيرا من جوانبها الغموض، بل إنّ من الأنبياء ما لا نعرف عنه شيئا { وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ } [النساء: من الآية 164].

أمّا من ذكر في القرآن فمنهم من لا نعرف عنه إلاّ اسمه، والآخر لا نعرف عنه إلاّ حواره مع قومه، وأولو العزم من الرّسل نجهل كثيرا من أطوار حياتهم .

وقد أجبرت هذه الميزة الكبيرة لسيرة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم غير المسلمين - على حقدهم - على الاعتراف بها.

فقال جون ديون بورت في مقدّمة كتابه عن السّيرة " الاعتذار من محمّد والقرآن ":

" لا ريب أنّه لا يوجد في الفاتحين والمُشرّعين والذين سنّوا السّنن من يعرف النّاس حياته وأحواله بما هو أكثر تفصيلا وأشمل بيانا من سيرة محمّد وأحواله ".

ويقول الانكليزي باسورت سميث:

" .. لا شكّ أنّ في الوجود شخصيّات لا نعلم عنها شيئا، ولا نتبيّن حقيقتها أبدا، أو تبقى منها أمور مجهولة.

بيد أنّ التّاريخ الخارجيّ لمحمّد صلّى الله عليه وسلّم نعلم جميع تفاصيله، من نشأته إلى شبابه، وعلاقته بالنّاس، وروابطه، وعاداته، ونعلم أوّل تفكيره، وتطوّره، وارتقاءه التّدريجيّ، ثمّ نزول الوحي العظيم عليه نوبة بعد نوبة، ونعلم تاريخه الدّاخليّ بعد ظهور دعوته وإعلان رسالته.." [الرّسالة المحمّدية (98 و121)].

* ومن الأمور التي تبيّن أهمّية دراسة السّيرة: تعظيم دين الله.

وأنّه ما جاء على طبق من فضّة وقطعة من حرير، ولكنّه جاء بعد عناء طويل، وجهاد متواصل، وصبر كبير ..

فعلى المؤمن أن يعيش تلك الأيّام ليكون له حافزا على أن ينفض غبار الكسل والفشل من على نفسه، ويحذر أن يكون ممّن قال فيهم الله تعالى:

{ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا } [الأعراف: من الآية: 169 ].

لذلك أكثر العلماء من التّأليف في سيرة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وكانت قبل ذلك مبثوثة في كتب السنّة لأنّ تدوينها سابق لها، وأوّل من اهتمّ بكتابة السّيرة النبويّة هو عروة بن الزّبير (تـ:92)، ثمّ أبان بن عثمان (105)، ثمّ وهب بن منبه (110)، ثمّ شرحبيل بن سعد (123)، ثمّ ابن شهاب الزّهري (124).

فكانت كتبهم طليعة هذا العمل العلميّ العظيم، ولكنّه لم يكن على النّسق المعروف اليوم، ولم يصلنا منها شيء، ولم يبق منها إلاّ أجزاء متناثرة يروي لنا بعضها الطّبري .. حتّى جاء عصر التّدوين الشّامل.

( يتبع إن شاء الله )

أخر تعديل في السبت 11 رجب 1435 هـ الموافق لـ: 10 ماي 2014 23:02
الذهاب للأعلي