الأحد 27 محرم 1432 هـ الموافق لـ: 02 جانفي 2011 10:59

- السّيرة النّبويّة (25) من الآلام تبـزغ الآمـال

الكاتب:  عبد الحليم توميات
أرسل إلى صديق

الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:

فقد رأينا في المرّة السّابقة الحبيبَ صلّى الله عليه وسلّم يودّع كثيرا من أصحابه وأحبابه وهم منطلقون إلى الحبشة، الّذين ما شقّ عليهم رضي الله عنهم فراق الأهل والأوطان كما شقّ عليهم وآلمهم فراق النبيّ العدنان صلّى الله عليه وسلّم.

النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وبقيّة أصحابه الّذين مكثوا في مكّة يمشون على الأشواك، ويُحثى عليهم التّراب .. ويُبصق في وجوههم ويُداس على رؤوسهم ..

روى ابن إسحاق بسند صحيح ومن طريقه البيهقي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه سُئل: ما أكثر ما رأيت قريشا أصابت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما كانت تظهر من عداوته ؟ فقال:

" لقد رأيتهم وقد اجتمع أشرافهم يوما في الحجر، فذكروا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرّجل قط ! سفّه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرّق جماعتنا، وسبّ آلهتنا، وصبرنا منه على أمر عظيم..

فبينا هم في ذلك، إذ طلع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأقبل يمشي حتّى استلم الرّكن، ثمّ مرّ بهم طائفا بالبيت، فغمزوه ببعضِ القول، فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

فمضى، فلمّا مرّ بهم الثّانية غمزوه بمثلها، فعرفتها في وجهه، فمضى ثمّ مرّ الثالثة، فغمزوه بمثلها، فوقف، ثمّ قال:

(( أَتَسْمَعُونَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ؟ أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِالذَّبْحِ !))..

فأخذت القومَ كلمتُه، حتّى ما منهم من رجل إلاّ ولكأنمّا على رأسه طائر واقع، وحتّى إنّ أشدّهم فيه قَبْل ذلك تلقّاه بأحسن ما يجد من القول، حتّى إنّه ليقول: انصرف يا أبا القاسم راشدا ! فوالله ما أنت بجهول ..

فانصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى إذا كان من الغد، اجتمعوا في الحجر، وأنا معهم، فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم عنه حتّى إذا باداكم بما تكرهون تركتموه ؟!

فبينا هم على ذلك، طلع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوثبوا إليه وثبة رجل، فأحاطوا به يقولون: أنت الذي تقول كذا وكذا لما يبلغهم من عيب آلهتهم ودينهم، فيقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:

(( نَعَمْ أَنَا الَّذِي أَقُولُ ذَلِكَ )).

فلقد رأيت رجلا منهم أَخَذَ بمجامع ردائه وهو عقبة بن أبي معيط والنبيّ يُصلِّي عند الكعبة، فلوى ثوبه في عنقه، فخنقه خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر رضي الله عنه دونه يبكي، ويقول: ويلكم أتقتلون رجلا أن يقول ربِّيَ الله ؟!!

وهذا الشّطر الأخير رواه البخاري.

ثم انصرفوا عنه. قال عبد الله بن عمرو: فإنّ ذلك لأكثر ما رأيت قريشا بلغت منه قط ..

وفي صحيح مسلم عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قال:

بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يُصَلِّي عِنْدَ الْبَيْتِ، وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابٌ لَهُ جُلُوسٌ، وَقَدْ نُحِرَتْ جَزُورٌ بِالْأَمْسِ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ:

أَيُّكُمْ يَقُومُ إِلَى سَلَا جَزُورِ[1] بَنِي فُلَانٍ فَيَأْخُذُهُ فَيَضَعُهُ فِي كَتِفَيْ مُحَمَّدٍ إِذَا سَجَدَ ؟

فَانْبَعَثَ أَشْقَى الْقَوْمِ، فَأَخَذَهُ، فَلَمَّا سَجَدَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، قَالَ: فَاسْتَضْحَكُوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَمِيلُ عَلَى بَعْضٍ، وَأَنَا قَائِمٌ أَنْظُرُ: لَوْ كَانَتْ لِي مَنَعَةٌ طَرَحْتُهُ عَنْ ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم، وَالنَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم سَاجِدٌ مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ [لأنّه لو رفع رأسه لسقطت النّجاسة وانتشرت على جسده الطّاهر].

حَتَّى انْطَلَقَ إِنْسَانٌ فَأَخْبَرَ فَاطِمَةَ فَجَاءَتْ وَهِيَ جُوَيْرِيَةٌ، فَطَرَحَتْهُ عَنْهُ، ثُمَّ أَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ تَشْتِمُهُمْ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم صَلَاتَهُ رَفَعَ صَوْتَهُ، ثُمَّ دَعَا عَلَيْهِمْ، وَكَانَ إِذَا دَعَا دَعَا ثَلَاثًا، وَإِذَا سَأَلَ سَأَلَ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ:

(( اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ )).

فَلَمَّا سَمِعُوا صَوْتَهُ ذَهَبَ عَنْهُمْ الضِّحْكُ، وَخَافُوا دَعْوَتَهُ، ثُمَّ قَالَ: (( اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ )).

فَوَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا صلّى الله عليه وسلّم بِالْحَقِّ لَقَدْ رَأَيْتُ الَّذِينَ سَمَّى صَرْعَى يَوْمَ بَدْرٍ ثُمَّ سُحِبُوا إِلَى الْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ.

كلّ هذا والنّبي صلّى الله عليه وسلّم صابر يتجرّع كؤوس العذاب، وألوان العقاب، وصدق من قال: إنّ من تحمّل عبء الدّعوة إلى الله، يسهل عليه حمل كلّ شيء .. فلا بدّ من المعاناة، وقد بُعِث النّبي صلّى الله عليه وسلّم ليبعث في النّاس الحياة، في نفوس مريضة، يلتقط أشلاءها الممزّقة، وأوصالها المبعثرة ..

تلكم الآلام كان من ورائها تحقّق الآمال ..كانت بمثابة آلام المرأة حال المخاض، يولد بعدها نصر من الله وفتح قريب وبشّر المؤمنين..

قال عزّ وجلّ: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110]..

وبدأت هذه الحقيقة تتجلّى أمام المؤمنين، قال تعالى:{اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الحديد:17]..

وأكرم الله عباده المؤمنين بإسلام حمزة بن عبد المطّلب[2]..

فكان إسلامه نصرا هزّ مكّة من شرقها إلى غربها؛ فإنّ حمزة كان في منعة من نفسه ومن قومه، وكان يضرب به المثل في البأس والشدّة، وقد كسر حمزة جدارا طالما حجب نور الحقّ عن النّاس، وهو أنّ أتباع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إنّما هم الضّعفاء والفقراء الّذين ليس لهم ما يخسرونه إن هم أسلموا..

ولنا وقفات للاعتبار مع هذه الحادثة:

الوقفة الأولى: مع قول عدوّ الله عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم:" وسبّ آلهتنا ":

هذه مغالطة مكشوفة، فإنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ما كان يسبّ آلهتهم امتثالا لأمر الله تعالى:{وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: من الآية108].

وإنّما اعتبروا قول الله تعالى فيها أنّها لا تضرّ ولا تنفع، وأنّها لا تملك لهم من الله شيئا، وأنّها لا تعقل ولا تسمع ولا تبصر ممّا هو واقع فِعْلاً اعتبروه سبّا.

ولا شكّ أنّ بيان الحقّ من الضّلال ليس سبّا، إنّما السبّ أن يأتي المتكلّم بالألفاظ النّابية التي من شأنها أن تنفّر من الشّيء.

وهذه المغالطة سلاح كلّ من فرّ من الحقّ منتصرا للباطل، فلا نزال نستمع إلى:

- أصحاب الطّرق الصّوفيّة يوجّهون سهام الاتّهام إلى الدّعاة إلى التّوحيد ويلمزونهم ببُغض الأولياء، بل وبالجفاء في حقّ الأنبياء ! لا لشيء، إلاّ لأنّهم نَفَوا عن الصّالحين صفات ربّ العالمين !

- وترى المنافقين من العلمانيّين يرفعون لواء الوطنيّة والقوميّة كلّما قام الدّعاة إلى الحقّ ببيان منزلة الولاء والبراء من الإيمان، ويتّهمونهم ببغض الأوطان !

وهكذا لهم في كلّ يومٍ تُهمة وفرية، وصدق الله عزّ وجلّ القائل:{مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} [فصّلت: 43].

الوقفة الثّانية: في الوقت نفسه، ندرك من قول عدوّ الله:" وسبّ آلهتنا " أنّ النّفوس جُبلت على رفض الدّعوة القائمة على السبّ والطّعن، لذلك اعتمده عدوّ الله واتّهم بذلك رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم وهو منه براء .

الوقفة الثّالثة: في هذه الحادثة بيان فضل الدّعاء، والتضرّع إلى ربّ الأرض والسّماء، فأكرم الله عزّ وجلّ نبيّه صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين بنصرين:

أوّلهما: نصر عاجل، وهو إسلام حمزة رضي الله عنه.

الثّاني: نصر آجل، وهو هلاك طواغيت قريش يوم بدر.

عودٌ إلى مكّة ..

لم يُصدّق عتبة بن ربيعة أنّ حمزة أصبح مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم .. إنّه بمثابة الدّرع الحامي، فيصعب الوصول إليه ..

وإذا فشلت سياسة التّجهيل والتّكذيب، ولم تنجح سياسة القمع والتّعذيب، فلم يبق أمامهم إلاّ سياسة الإغراء والتّرغيب..

وهذا ما سوف نسلّط عليه الضّوء إن شاء الله تعالى في حلقة قابلة.



[1] ( السَّلاَ ): هو اللفافة التي يكون فيها الولد في بطن الناقة وسائر الحيوان، وهي من الآدمية: المشيمة.

والجَزور: كلّ ما يُجزَر أي: يذبح كالنّاقة والشّاة.

[2] قصّة إسلام حمزة رضي الله عنه، وأنّه ضرب أبا جهل، لا تصحّ، فقد رواها الطّبراني مرسلة، ورواها ابن إسحاق وابن أبي حاتم معضلة كما في "مجمع الزّوائد" (9/267).

أخر تعديل في الخميس 29 صفر 1432 هـ الموافق لـ: 03 فيفري 2011 09:27
عبد الحليم توميات

آخر المواضيع:

الذهاب للأعلي