الثلاثاء 07 صفر 1432 هـ الموافق لـ: 11 جانفي 2011 04:03

- السّيرة النّبويّة (27) من مبادئ الدّعوة إلى الله عزّ وجلّ (2).

الكاتب:  عبد الحليم توميات
أرسل إلى صديق

الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:

فما زلنا نعيش تلك المرحلة الّتي شرع أعداء الدّعوة فيها إلى الإغراء والتّرغيب، ودفع الرُّشا للتّقريب، ورأينا من أعلام الدّعوة إلى الله المنشورة تلك الأيّام: ( لا تنازل ) و( لا تحايل). فنقف اليوم أمام مبدأين آخرين عظيمين من مبادئ الدّعوة:

3- المبدأ الثّالث: ( خلّوا بيننا وبين النّاس ).

كان شأنه صلّى الله عليه وسلّم شأنَ إخوانه الأنبياء عليهم السّلام من قبله: فما كانوا حريصين على أن يُمسكوا المجتمع من على عرش الحُكم، وإنّما كانوا يريدون أن يُصلحوا المجتمع من جذوره.

ويدلّ على هذا أنّه صلّى الله عليه وسلّم كان بإمكانه أن يجلس على عرش قومه ملكا، يأتمر النّاس بأمره، وينتهون لنهيه، يفرِض عليهم ما يشاء، ويأخذ عليهم الطّاعة في السرّاء والضرّاء ..

ولكنّه صلّى الله عليه وسلّم ما كان ينظر إلى الأمور نظرة سطحيّة، فرفض كلّ ما عرضوه عليه .. لأنّه يريد أن يُقبل النّاس طوعاً إليه ..

ذلك شعار أولي العزم من الرّسل: فانظر إلى موسى عليه السّلام، قال عزّ وجلّ في شأنه:{وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائيلَ (105)} [الأعراف]..

علموا جميعهم أنّ المجتمعات الّتي بينها وبين القِيم هوةٌ سحيقة، إنّما يتمّ إصلاحها من جذورها العميقة.

وتأمّل ما رواه البخاري عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمْ الْأَنْبِيَاءُ كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ )).

فالحكم ربّاني، وعلى عرشه نبيّ من أولي العزم، ومع ذلك كانت عاقبتهم أن قال فيهم عزّ وجلّ:{فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف:166].

وظلّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على هذا المبدأ: يبثّ الخير والعمل الصّالح في النّاس، إلى أن مكّن الله له المجتمع الذي كان شعاره أوّلا وآخرا:{سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: من الآية285].

وسيأتي بيان أنّه ما تأذّى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بشيء كما تأذّى من الحصار الّذي ضرِب عليه، وحيل فيه بينه وبين النّاس.

4- المبدأ الرّابع:{فَذَكِّرْ بِالقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ}.

فقد كان المشركون لا يتأثّرون بشيء كما يتأثّرون بالقرآن الكريم، فقد شاهدوا آيات بيّنات، وخوارق باهرات، ومع ذلك لم تعمل في قلوبهم ما عمل القرآن الكريم.

ولا أدلّ على ذلك مثلُ حادثتنا هذه .. حيث إنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أجاب عُتبة حين عرض عليه ما عرض بأن تلا عليه آياتٍ من كلام الله جعلته يمسك بيده على فم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ويناشده الرّحم على أن يصمت !

ولا شكّ أنّ المشركين امتلكهم العجب، وملأتهم الحيرة من موقف النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ثمّ ازدادوا حيرة بتأثّر مثل عتبة بن ربيعة بالقرآن الكريم !

وممّا سجّل لنا أصحاب السّيرة حوادث عدّة لذلك، من أشهرها:

- ما رواه البيهقيّ والحاكم[1] عن ابن عبّاس رضي الله عنه:

أنّ الوليد بن المغيرة جاء إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقرأ عليه القرآن فكأنّه رقّ له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال: ... قل فيه قولا يبلغ قومك أنّك منكرٌ له.

قال: وماذا أقول ؟ فو الله ما فيكم رجلٌ أعلمُ بالأشعار منّي، ولا أعلم برجزٍ ولا بقصيدة منّي، ولا بأشعار الجنّ، والله ما يشبه الّذي يقول شيئا من هذا، ووالله إنّ لقوله الّذي يقول حلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنّه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنّه ليحطّم ما تحته.

قال: لا يرضى عنك قومك حتّى تقول فيه.

قال: فدعني حتّى أفكّر. فلمّا فكّر قال: هذا سحر يؤثر يأثره من غيره.

فنزلت:{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآياتنَا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)}.

- وروى ابن إسحاق[2] أنّ أبا جهل، وأبا سفيان، والأخنس بن شريق، خرجوا ليلة ليسمعوا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يصلّي باللّيل في بيته، وأخذ كلّ رجل منهم مجلسا ليستمع فيه، وكلٌّ لا يعلم بمكان صاحبه.

فباتوا يستمعون له، حتّى إذا أصبحوا أو طلع الفجر تفرّقوا، فجمعهم الطّريق، فتلاوموا، وقال بعضهم لبعض: لا تعودُنَّ، لو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا.

ثمّ انصرفوا، حتّى إذا كانت اللّيلة الثّانية، عاد كلّ رجل منهم إلى مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتّى إذا طلع الفجر تفرّقوا، فجمعهم الطّريق، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أوّل مرّة.

ثمّ انصرفوا، فلمّا كانت اللّيلة الثّالثة أخذ كلّ رجل منهم مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتّى إذا طلع الفجر تفرّقوا، فجمعهم الطّريق، فقالوا: لا نبرح حتّى نتعاهد ألاّ نعود ! فتعاهدوا على ذلك.

ثمّ تفرّقوا، فلمّا أصبح الأخنس بنُ شريق، أخذ عصا، ثمّ خرج حتّى أتى أبا سفيان في بيته، فقال:

حدِّثني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمّد. فقال: يا أبا ثعلبة ! والله لقد سمعت أشياء أعرفها، وأعرف ما يراد بها، وأشياء ما أعرف معناها، ولا ما يراد بها. فقال الأخنس: وأنا والّذي حلفتّ به كذلك.

ثمّ خرج من عنده حتّى أتى أبا جهل، فدخل عليه بيتَه، فقال: يا أبا الحكم ! ما رأيُك فيما سمعت من محمّد ؟ فقال: ماذا سمعت ؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشّرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتّى إذا تجاثينا على الرّكب، وكنّا كفرسَيْ رِهان قالوا منّا نبيّ يأتيه الوحي من السّماء ! فمتى ندرك هذه ؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدّقه. فقام عنه الأخنس بن شريق.

الشّاهد: أنّ الدّعوة بتلاوة القرآن وبيان معانيه، وتقريبه للأمّة بتفسيره وبيان أسراره وأحكامه وحِكمه، من أعظم السّبل إلى الدّعوة إلى الله.

فلا ينبغي العُدُول عن المنهج الّذي اختاره الله عزّ وجلّ للدّعوة إليه، ونستبدله بأقوال المفكّرين، وأكاذيب الواعظين، وأناشيد المغنّين ! وإلاّ كنّا ممّن يستبدل الّذي هو أدنى بالّذي هو خير.

والحمد لله ربّ العالمين.



[1] وصحّحه، ووافقه الذّهبي، وصحّحه الشّيخ مقبل رحمه الله في "الصّحيح المسند من أسباب النّزول" (ص 262) .

[2] بسند مرسل، وله شواهد يتقوّى بها.

أخر تعديل في الخميس 29 صفر 1432 هـ الموافق لـ: 03 فيفري 2011 09:26
عبد الحليم توميات

آخر المواضيع:

الذهاب للأعلي