وفي الصّحيحين من حديث عبد الله بن عُمرَ رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم يقولُ: (( إِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ )).
ومعنى (غُمّ) اختفى بسبب غيمٍ، أو نحوه.
وفي رواية للبخاري عن أبي هريرةَ رضي الله عنه: (( صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُبِّيَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ )).
ومعنى (غُبِّيَ) اختفى واستتر، ومنه "الغباء" لخفاء واستتار عقله، و"الغابة" لاستتارها بالأشجار.
فدلّت هذه النّصوص على أمرين مُهمّين:
الأمر الأوّل: أنّ دخول شهر رمضان يثبت بأحد أمرين:
أ) برؤية الهلال، والمقصود بالرّؤية هنا: الرّؤية البصريّة، كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله.
ب) أو بإكمال عِدّة شعبان ثلاثين يوما، إذا تعذّرت الرّؤية.
الأمر الثّاني: معنى قوله: (( فَاقْدُرُوا لَهُ )):
معنى ذلك: اُحْسُبُوا وعُدُّوا إلى ثلاثين؛ لأنّ النّصوص يفسّر بعضُها بعضا، وقد فسّرت معنى ذلك روايةُ البخاري بقوله صلّى الله عليه وسلّم: ((فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ )).
وليس المعنى: ضيّقُوا واجعلوه تسعاً وعشرين، وصوموا ليلة الشكّ - كما ذهب إليه بعض الحنابلة -؛ فإنّ ذلك مخالف للرّواية الأخرى، ومخالف للنّصوص النّاهية عن صوم يوم الشكّ.
المسألة الثّانية: نصاب الشّهادة في الرّؤية.
فقد اختلف أهل العلم في العدد المجزئ في الشّهادة الّتي تثبت بها الرّؤية على خمسة أقوال، والصّواب - والله أعلم - أنّ شهادة الواحد العدل تُجزئ في رؤية هلال رمضان، وكذا في رؤية هلال شوّال.
وهو قول أبي ثور رحمه الله، واختاره ابن حزم، والشّوكاني ["المحلّى" (6/235)، و"نيل الأوطار" (4/259)].
واستدلّوا على ذلك بما يأتي:
أ) ما رواه أبو داود عن ابنِ عمرَ رضي الله عنهما قال: ( تَرَاءَى النَّاسُ الْهِلَالَ، فَأَخْبَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم أَنِّي رَأَيْتُهُ، فَصَامَهُ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ ).
ب) ما رواه ابن حزم عن البراءِ بنِ عازبٍ رضي الله عنه أنّ عُمرَ بنَ الخطّاب رضي الله عنه كان ينظُرُ إلى الهلال، فرآه رجلٌ، فقال عُمرُ:" يكفِي المسلمين أحدُهُم "، فأمرهم فصاموا، وأفطروا.
ويؤيّد ذلك النّظر، والقياس:
فإنّ باب رؤية الهلال ليس من باب الشّهادات المتعارَف عليها اصطلاحا والّتي تحتاج إلى نصاب معيّن، وإنّما هي من باب الإخبار، فيجزِئ فيها خبر الواحد العدل.
ثمّ إنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ )) [رواه البخاري]، فكما لا يُشترط لدخول وقت الصّلاة نصاب معيّن، فكذلك دخول شهر رمضان. والله أعلم.
المسالة الثّالثة: الذّكر عند رؤية الهلال.
من السنّة أن يذكر المسلم ربّه عزّ وجلّ عند رؤية كلّ هلال من السّنة، وإنّما ذكرناه ضمن مسائل الصّيام؛ لأنّ النّاس يترقّبون هلال رمضان أكثر من غيره من الشّهور.
روى التّرمذي عن طَلْحَةَ بنِ عُبَيْدِ الله رضي الله عنه أنّ النّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم كَانَ إِذَا رَأَى الْهِلَالَ قَالَ: (( اللَّهُمَّ أَهْلِلْهُ عَلَيْنَا بِالْيُمْنِ وَالْإِيمَانِ، وَالسَّلَامَةِ وَالْإِسْلَامِ، رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ )).
قوله:" كَانَ إِذَا رَأَى الْهِلَالَ ": الهلال هو ما يكون من اللّيلة الأولى والثّانية والثّالثة، ثمّ هو قمرٌ بعد ذلك؛ لذلك لا يُشرع الذّكر بعد اللّيلة الثّالثة.
وقوله: ( رَبِّي وَرَبُّك الله ): خطاب للهلال، فإنّه لمّا نظر إليه وطلب الأمن والإيمان، نزّه الخالق سبحانه من أن يظنّ أحدٌ أنّ الهلال له شأن في تدبير شيء من الكون.
وبقي علينا أن نبيّن:
حكم الاعتماد على الحساب الفلكيّ في معرفة دخول شهر رمضان.
وحكم اختلاف الأقاليم في رؤية الهلال.
وذلك يأتي لاحقا إن شاء الله تعالى.