شرح الحديث:
- قوله: ( تَابِعُوا بَيْنَ الحَجِّ وَالعُمْرَةِ ): أي قاربوا بينهما إمّا بالتمتّع، أو بفعل أحدهما إثر الآخر. قال الطّيبي رحمه الله:" أي إذا اعتمرتم فحُجُّوا، وإذا حججتم فاعتمروا ".
- قوله: ( فَإِنَّهُمًَا ): أي الحجّ والاعتمار.
- قوله: ( يَنْفِيَانِ الفَقْرَ ): أي: يزيلان الفقر إمّا:
حقيقةً، وذلك بالغنى الّذي يحصُل بسببهما.
وإمّا حكماً: بأن يبارك الله تعالى في رزق العبد، أو يرزقه غنى النّفس والقناعة، فيعيش في الظّاهر عيش الفقراء، وفي الباطن يستمتع استمتاع الأغنياء.
قد فسّر بعض السّلف قولَه تعالى:{ ووَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} بالقناعة وغنى النّفس، لأنّ الآية لا شكّ في أنّها مكّية، ولم يكن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يومها له شيء من المال.
- ( وَالذُّنوُبَ ): أي: جميعها صغائرها وكبائرها، كما قال في الحديث الآخر: (( عَادَ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ )).
ويؤيّد ذلك:
- قوله: ( كَمَا يَنْفِي الكِيرُ ):- بكسر الكاف -، وهو ما ينفخ فيه الحدّاد لإشعال النّار، وما يفعل ذلك إلاّ لتصفية صحيح المعادن من زائفها، فكذلك الحجّ والعمرة، يصفّيان العبدَ من الخطايا والذّنوب، ويهذّبان نفسه من المثالب والعيوب.
- ( خَبَثَ الحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالفِضَّةِ ): أي وسخها، وهو ما تلقيه النّار من وسخ الفضّة والنّحاس وغيرهما إذا أُذيبا. وبذلك يصير الذّهب خالصا، والفضّة خالصة، والحديد خالصا، كذلك العبد يعود من حجّه وعمرته خالصا من كلّ آفة.
- ( وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ الْمَبْرُورَةِ ثَوَابٌ إِلَّا الْجَنَّةُ ): سبق شرحه.
الفوائد المستنبطة:
- الفائدة الأولى: فيه حُجَّة لمن ذهب إلى تفضيل التمتّع، وبالأمر بالمتابعة استدلّ من قال يوجويه.
- الفائدة الثّانية: فيه أنّ الحجّ والعمرة من أسباب الرّزق الحلال، خلافا لمذهبِ ضِعافِ الإيمان، الّذين يرون أنّ الحجّ والعمرة مذهبةٌ للمال ومفسدة للحال ! فقلبوا الحقائق والموازين، وأضاعوا صحيح المفاهيم.
فتقوى الله تبارك وتعالى خير جالب للرّزق، قال تعالى:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96]، وقال:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) )وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِب (3)} [الطّلاق: من الآية3]، وقال:{وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً} [الجـنّ:16]
ونظير ضياع هذا المفهوم، أنّهم أضاعوا الصّلاة حرصا على الرّزق - زعموا !-
وجهِلوا - أو تجاهلوا - أنّ الصّلاة من أعظم أسباب الرّزق الحلال، قال تعالى مبيّنا سبب انصراف النّاس عن الصّلاة:{ وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى } [طـه:131]..
ثمّ قال:{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طـه:132]، فانظر كيف بيّن أنّ الرّزق الحلال لا طريق إليه إلاّ بإقام الصّلاة والصّبر عليها، وأمر الأهل بها..
وروى التّرمذي وأبو داود والنّسائي عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلّمَ يَقُولُ: (( ابْغُونِي ضُعَفَاءَكُمْ فَإِنَّمَا تُرْزَقُونَ وَتُنْصَرُونَ بِضُعَفَائِكُمْ )) زاد النّسائي في رواية سعد رضي الله عنه: (( بِدَعْوَتِهِمْ وَصَلَاتِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ )).
وآخرون انشغلوا بالتّجارة ليل نهار عن صلة الأرحام، وغفلوا أنّ صلة الأرحام من أوسع أبواب الرّزق، روى البخاري ومسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلّمَ يَقُولُ: (( مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ )).
ورابع: ألهاه طلب الرّزق عن طلب العلم، ونسي أنّ العلم من أسباب الرّزق، ومن عجيب تفسير ابن عبّاس رضي الله عنه لقوله تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الرعد: من الآية41] قال ابن عبّاس رضي الله عنه: " تنقص خيرات الأرض بموت علمائها ".
ويؤيّد ذلك ما رواه التّرمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ أَخَوَانِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلّمَ فَكَانَ أَحَدُهُمَا يَأْتِي النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلّمَ وَالْآخَرُ يَحْتَرِفُ، فَشَكَا الْمُحْتَرِفُ أَخَاهُ إِلَى النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلّمَ فَقَالَ صلَّى اللهُ عليه وسلّمَ: (( لَعَلَّكَ تُرْزَقُ بِهِ )).
وخامس ظنّ الزّواج في رحاب الله، وفي ظلال سنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أسباب الفقر !! وغفل عن قوله تعالى:{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور:32]، فهذا الحسن البصريّ رحمه الله شكى إليه رجل الفقرَ ؟ فأوصاه بالزّواج، ثمّ تلا عليه الآية.
ولكنّه الشّيطان يخوّف النّاس من الفقر والحاجة، ويفتح لهم أبواب الشّهوات والحرام، كما قال تعالى:{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:268]..
وأمّة بكاملها انشغلت بجمع حطام الدّنيا، فأضاعت الجهاد في سبيل الله، ونسيت أنّه من أسباب رزقها، ففي مسند الإمام أحمد بسند صحيح عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلّمَ: (( جُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي، وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ )).
وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:28].
والله الهادي إلى الصّواب.