قال ابن خزيمة: (وَيُرْفَعُ فِي الثَّالِثَةِ):" يريد بعد الثّالثة ".
الفوائد المستنبطة من الحديث:
في هذا الحديث مسائل عدّة:
- الأولى: التّرغيب الشّديد في الإكثار من الحجّ والعمرة، والاستمتاع بالبيت، والمراد من الاستمتاع به الطّواف به، والصّلاة والدّعاء عنده، واستلام ركنيه، والصّلاة عند مقام إبراهيم، وغير ذلك من المناسك المشروعة.
- الثّانية: والحديث يدلّ أنّ اقتصاره صلّى الله عليه وسلّم على حجّة واحدة، وأربع عمرات إنّما كان عرضا ولعذر مانع، أو خوفا منه أن يشقّ على أمّته، والعبرة بما استحبّه لأمّته، شأن ذلك شأن كثير من العبادات التي لم يفعلها ولكنّه حضّ عليها كالتمتّع بالعمرة إلى الحجّ.
- الثّالثة: قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: (( ويُرفع في الثّالثة )) يعني به هدم الأحباش للبيت، روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قَالَ: (( يُخَرِّبُ الْكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنْ الْحَبَشَةِ )).
ومعنى ( ذو السّويقتين ): تثنية سُوَيْقة، وهي تصغير ساق، أي له ساقان دقيقان.
ووقع في حديث عليّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عند أبي عبيد في "غريب الحديث" قال: (( اِسْتَكْثِرُوا مِنَ الطَّوَافِ بِهَذَا البَيْتِ قَبْلَ أَنْ يُحَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ، فَكَأَنِّي بِرَجُلٍ مِنَ الحَبَشَةِ أَصْلَعَ أَفْحَجَ السَّاقَيْنِ قَاعِدٌ عَلَيْهَا وَهِيَ تُهْدَمُ )) والفحج تباعد ما بين الساقين.
وهذه الحادثة تحدث بعد نزول عيسى بن مريم عليه السَّلام، وبعد خروج يأجوج ومأجوج، ويدلّ على الأمر الأوّل ما رواه الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: (( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُهِلَّنَّ ابْنُ مَرْيَمَ عليه السَّلام مِنْ فَجِّ الرَّوْحَاءِ بِالْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ )).
ويدلّ على الأمر الثّاني ما رواه البخاري ومسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قَالَ: (( لَيُحَجَّنَّ الْبَيْتُ وَلَيُعْتَمَرَنَّ بَعْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ )).
- الفائدة الرّابعة: إنّ بيت الله الحرام أمارة دالّة وعلامة قائمة على شعائر الله وعلى بقاء دين الله تعالى.
وهذا ما فسّر به السّلف قوله عزَّ وَجَلَّ:{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ} [المائدة من:97] فالمراد بقوله: ( قياما ) أنّه ما دامت الكعبة موجودة فالدّين قائم.
وقد روى ابن أبي حاتم بإسناد صحيح عن الحسن البصري رحمه الله أنّه تلا هذه الآية فقال:" لاَ يَزَالُ النَّاسُ عَلَى دِينٍ مَا حَجُّوا البَيْتَ وَاسْتَقْبَلُوا القِبْلَةَ "، وعن عطاء رحمه الله قال:" قِيَامًا لِلنَّاسِ: لو تركوه عاما لم ينظروا أن يهلكوا ".
والأخبار تؤيّد هذا المعنى، فقد قال النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: (( لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُحَجَّ الْبَيْتُ )).
- الفائدة الخامسة: قيل: هذا الحديث يخالف قوله تعالى:{أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [القصص: من الآية57] !
ولأنّ الله حبس عن مكّة الفيل، ولم يمكِّن أصحابه من تخريب الكعبة، ولم تكن إذ ذاك قبلة، فكيف يسلّط عليها الحبشة بعد أن صارت قبلة للمسلمين !؟
والجواب عن ذلك من ثلاثة أوجه:
1- بأنّ ذلك محمول على أنّه يقع في آخر الزّمان قرب قيام السّاعة، حيث لا يبقى في الأرض أحدٌ يقول " الله الله "-كما ثبت في صحيح مسلم -: (( لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لاَ يُقَالَ فِي الأَرْضِ اللهُ اللهُ )). ولهذا جاء في رواية الإمام أحمد: (( لاَ يُعَمَّرُ بَعْدَهُ أَبَدًا ))، هذا جواب الحافظ ابن حجر.
ويؤيّد هذا أنّ الله يدفع عنه من يريد هدمه قبل ذلك، ففي البخاري ومسلم عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: (( يَغْزُو جَيْشٌ الْكَعْبَةَ، فَإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنْ الْأَرْضِ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ ))، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! كَيْفَ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ وَفِيهِمْ أَسْوَاقُهُمْ وَمَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ ؟
قالَ: (( يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ ثُمَّ يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ )).
2- قالوا: قوله تعالى:{أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} أي آمنا من العدوّ، وإنّ ما يتخلّله من الرّعب إنّما وقع بأيدي المسلمين، فهو مطابق لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: (( وَلَنْ يَسْتَحِلَّ هَذَا البَيْتَ إِلاَّ أَهْلُهُ )).
وقد وقع فيه من القتال وغزو أهل الشّام له في زمن يزيد بن معاوية ثمّ من بعده في وقائع كثيرة، من أعظمها وقعة القرامطة بعد الثّلاثمائة، فقتلوا من المسلمين في المطاف من لا يُحصى كثرة، وقلعوا الحجر الأسود فحوّلوه إلى بلادهم، ثمّ أعادوه بعد مدّة طويلة، ثمّ غُزِيَ مرارا بعد ذلك.
فوقع ما أخبر به النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، وهو من علامات نبوّته، ثمّ إذا قربت السّاعة مُكِّن للأحباش.
3- ثمّ إنّه ليس في الآية أنّ ذلك مستمرّ.
الفائدة السّادسة: قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: (( فإنّه قد هدم مرّتين.. )).
نصّ في أنّ البيت قد هُدم مرّتين، الأولى أنّه هُدِم بعد إبراهيم عليه السَّلام، فبناه قوم من العرب من جرهم.
ثمّ هُدِم فبنته قريش وشارك النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم في بنائه، على ما هو ثابت في السّيرة.
وهذا يردّ كلّ ما يذكره بعضهم أنّه هُدِم أربع مرّات، أو أنّه هُدِم عشر مرّات.
ومن الأحاديث الضّعيفة جدّا التي انتشرت عند المصنّفين، والّتي بنوا عليها قولهم ببناء آدم للكعبة، ما رواه الطبراني في " الكبير " موقوفا عن عبد الله بن عمرو رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: " لماّ أهبط الله آدم عليه السَّلام من الجنّة قال: إنّي مهبط معك بيتا أو منزلا يطاف حوله كما يطاف حول عرشي، ويصلّى عنده كما يصلّى عند عرشي، فلمّا كان زمن الطّوفان رفع، وكان الأنبياء يحجّونه ولا يعلمون مكانه، فبوّأه لإبراهيم عليه السَّلام فبناه من خمسة أجبل حراء، وثبير، ولبنان، وجبل الطور، وجبل الخير، فتمتّعوا منه ما استطعتم ".
الفائدة السّابعة: قوله: (( ثمّ يرفع في الثّالثة )).
استشكل أهل العلم ذلك لأنّه قد ثبت أنّه بقي بعد الثّالثة، وكانت الثّالثة في عهد بني أميّة، يوم أصابوه بالمنجنيق فهدِم بعضه، فأعاد بناءه عبد الله بن الزّبير رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، روى البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قَالَ لَهَا: (( يَا عَائِشَةُ ! لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ لَأَمَرْتُ بِالْبَيْتِ فَهُدِمَ، فَأَدْخَلْتُ فِيهِ مَا أُخْرِجَ مِنْهُ، وَأَلْزَقْتُهُ بِالْأَرْضِ، وَجَعَلْتُ لَهُ بَابَيْنِ: بَابًا شَرْقِيًّا، وَبَابًا غَرْبِيًّا، فَبَلَغْتُ بِهِ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ )) قال عُروةُ: فَذَلِكَ الَّذِي حَمَلَ ابْنَ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَلَى هَدْمِهِ. قَالَ يَزِيدُ: وَشَهِدْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ حِينَ هَدَمَهُ وَبَنَاهُ، وَأَدْخَلَ فِيهِ مِنْ الْحِجْرِ، وَقَدْ رَأَيْتُ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ حِجَارَةً كَأَسْنِمَةِ الْإِبِلِ.
* فإمّا أن يقال: إنّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم لم يعدّ ذلك هدما، وهذا بعيد.
* أو أنّه كما قال ابن خزيمة رحمه الله:" قوله: يُرفع في الثّالثة أي بعد الثّالثة "، أي: إن هُدم في المرّة الثّالثة فإنّه سيُرفع ورفعه يكون بهدمه بنصّ حديث ذي السّويقتين.
والله تعالى أعلم.