الثلاثاء 18 شعبان 1432 هـ الموافق لـ: 19 جويلية 2011 08:16

- شرح كتاب الذّكر (12) منازل الذّاكرين عند ربّ العالمين

الكاتب:  عبد الحليم توميات
أرسل إلى صديق

تابع: الباب الثّاني: ( التّرغيب في حضور مجالس الذّكر، والاجتماع على ذكر الله تعالى ).

الحديث السّابع:

وعن عمْرِو بنِ عَبَسَةَ رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم يقول:

(( عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ - وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ - رِجَالٌ لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءِ، وَلاَ شُهَدَاءَ، يَغْشَى بَيَاضُ وُجُوهِهِمْ نَظَرَ النَّاظِرِينَ، يَغْبِطُهُمْ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ بِمَقْعَدِهِمْ وَقُرْبِهِمْ مِنَ اللهِ عزّ وجلّ )).

قيل: يَا رَسُولَ اللهِ ! مَنْ هُمْ ؟ قَالَ:

(( هُمْ جُمَّاعٌ مِنْ نَوَازِعِ القَبَائِلِ، يَجْتَمِعُونَ عَلَى ذِكْرِ اللهِ ...)).

[رواه الطّبراني، وإسناده مقارب لا بأس به].

شرح الحديث:

في الحديث فضيلة ظاهرة للذّكر والاجتماع عليه؛ حتّى إنّ الأنبياء وهم من هم ؟! والشّهداء وهم من هم ؟! يغبطون المجتمعين على ذكر الله تعالى، وذلك؛ لأنّ الله قرّبهم حتّى جعلهم عن يمينه، وكسا وجوههم النّور حتّى غشي كلّ ناظر.

( جُمَّاعُ ): قال الإمام المنذري رحمه الله:" أي أخلاط من قبائل شتّى، ومواضع مختلفة ".

و( نوازع ): قال رحمه الله:" جمع نازع، وهو الغريب، ومعناه: أنّهم لم يجتمعوا لقرابة بينهم ولا نسب ولا معرفة، وإنّما اجتمعوا لذكر الله لا غير".

وفي الحديث إثبات صفة اليمين لله تبارك وتعالى كما هو مذهب أهل السنّة، ومن الأدلّة على ذلك:

أ) قوله تعالى:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67].

ب) قوله تعالى:{ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46)} [الحاقّة].

ج) حديث الباب، إذ فيه: (( عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ - وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ - ...) الحديث.

د) ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( يَمَينُ اللهِ مَلْأَى لاَ يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ.. )).

هـ) ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (( مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا الطَّيِّبَ، وَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ )).

و) ما رواه مسلم عن عبدِ الله بنِ عمْرٍو رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: (( إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عزّ وجلّ -وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ- الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ، وَأَهْلِيهِمْ، وَمَا وَلُوا )).

(مسألة):

فقد روى مسلم عن عبد الله بنِ عمَرَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( يَطْوِي اللَّهُ عزّ وجلّ السَّمَاوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِيَدِهِ الْيُمْنَى، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَيْنَ الْجَبَّارُونَ ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ ؟ ثُمَّ يَطْوِي الْأَرَضِينَ بِشِمَالِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَيْنَ الْجَبَّارُونَ ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ ؟)).

فكيف نجمع بين هذا الحديث، وقولِه صلّى الله عليه وسلّم في حديث الباب ( وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ ).

مواقف علماء أهل السنّة من هذين الحديثين:

اختلف أهل السنّة قديما وحديثا في الجمع بين هذين الحديثين على قولين:

- القول الأوّل: إثبات الشّمال لله تعالى:

وهو قول الإمام عثمان بن سعيد الدّارمي في "الردّ على بشر المرّيسي"(ص 155)، وأبي يعلى في "إبطال التّأويلات" (ص 176)، والشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب في "كتاب التّوحيد"، وصدّيق حسن خان في "قطف الثّمر" (ص 66)، والشّيخ خليل هراس في تعليقه على "كتاب التّوحيد" لابن خزيمة (ص 66)، والشّيخ الغنيمان في "شرح كتاب التّوحيد من صحيح البخاري" (1/311).

واستدلّوا على ذلك:

أ) بالحديث أوّلا.

ب) وبوصف إحدى اليدين بأنّها يمين، فهو يفيد أنّ الأخرى ليست يمينا.

وحملوا حديث (( كِلْتَا يَدَيْ رَبِّي يَمِينٌ ))، على أنّه سبحانه منزّه عن النّقص والضّعف، كما في شمال المخلوق من النّقص وعدم البطش، فقال ذلك إجلالا لله تعالى، وتعظيما له سبحانه.

قال الشّيخ خليل هراس رحمه الله:" يظهر أنّ المنع من إطلاق اليسار على الله عزّ وجلّ؛ إنّما هو على جهة التّأديب فقط، فإنّ إثبات اليمين ... يدل على أنّ الأخرى ليست يمينا "اهـ.

والعرب تصف المخلوق بأنّ كلتي يديه يمين، إجلالا وتعظيما، ولا يدلّ على أنّ الأخرى ليست يسارا، وقد ذكر ابن قتيبة في " تأويل مختلف الحديث" (ص 247) أنّ المرّار قال:

وإنّ علـى الأمـانـة من عقـيـل *** فتـىً كـلتا اليـديـن له يمـيـن

وذكر الثّعالبي في "ثمار القلوب في المضاف والمنسوب" (ص 291) أنّ من العرب من لقّب بذي اليمينين، وهو أبو الطّيب طاهر بن الحسين بن مصعب، كتب له أحد أصحابه:

للأمـيـر الـمـهـذّب *** المـكـنّـى بطـيّـب

ذي اليمـينين، طاهـر بـ *** ـنِ الحسين بن مصعـب

القول الثّاني: إنّ الله تعالى كلتا يديه يمين، ولا يجوز إثبات الشّمال أو اليسار.

وهم أكثر العلماء، منهم: الإمام أحمد رحمه الله كما في "طبقات الحنابلة" لأبي يعلى (1/313)، وابن خزيمة رحمه الله في "كتاب التّوحيد"(1/195)، والبيهقي في "الأسماء والصّفات"(2/55)، ومن المعاصرين الشّيخ الألباني رحمه الله في "مجلّة الأصالة" (العدد الرّابع ص 68).

أدلّتهم:

أ) حديث الباب، وحديث مسلم السّابق ذكره وفيه: (( إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عزّ وجلّ - وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ - ...)).

ب) ما رواه ابن أبي عاصم في "السنّة"(106) والآجرّي في "الشّريعة"، وصحّحه الألباني عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه مرفوعا: (( أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ القَلَمُ، فَأَخَذَ بِيَمِينِهِ، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ ... )).

وقال الشّيخ الألباني رحمه الله في كيفية الجمع بين هذه الآثار:

" لا تعارض بادئَ ذي بدء، فقوله صلّى الله عليه وسلّم: ((.. وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ )) تأكيد لقوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، فهذا الوصف الّذي أخبر به رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم تأكيد للتّنزيه، فيدُ الله ليست كيد البشر: شمال ويمين، ولكن كلتا يديه يمين "اهـ.

أمّا حديث ابن عمر الّذي فيه ذكرُ الشّمال، فقالوا: تلك الزّيادة شاذّة، تفرّد بها عمر بن حمزة العمري، وهو ضعيف، وجميع طرق الحديث عن غيره لم تذكر الشّمال.

ذكر ذلك البيهقي رحمه الله (2/55)، والألباني رحمه الله في " تخريج المصطلحات الأربعة الواردة في القرآن" للمودودي (رقم 1).

التّرجيح: قال علويّ بن عبد القادر السّقّاف في " صفات الله عزّو جلّ الواردة في الكتاب والسنّة " (ص 273):

" إنّ تعليل القائلين بأنّ إحدى يدي الله عزّ وجلّ يمين، والأخرى شمال، وأنّنا نقول: كلتا يديه يمين، تأدّبا وتعظيما، إذ الشّمال من صفات النّقص والضّعف، قول قويّ، وله وجه من النّظر، إلاّ أنّنا نقول: إنّ صفات الله توقيفيّة، وما لم يأت دليل صحيح صريح في وصف إحدى يدي الله عزّ وجلّ بالشّمال أو اليسار، فإنّنا لا نتعدّى قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( كلتاهما يمين ))، والله أعلم "اهـ.

** *** **

الحديث الثّامن:

وعنْ أبي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم:

(( لَيَبْعَثَنَّ اللهُ أَقْوَامًا يَوْمَ القِيَامَةِ فِي وُجُوهِهِمُ النُّورُ، عَلَى مَنَابِرِ اللُّؤْلُؤِ، يَغْبِطُهُمُ النَّاسُ، لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ وَلاَ شُهَدَاءَ )).

قَالَ: فَجَثَا أَعْرَابِيٌّ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ ! حَلِّهِمْ لَنَا نَعْرِفْهُمْ ! قَالَ:

(( هُمُ المُتَحَابُّونَ فِي اللهِ مِنْ قَبَائِلَ شَتَّى، وَبِلاَدٍ شَتَّى، يَجْتَمِعُونَ عَلَى ذِكْرِ اللهِ يَذْكُرُونَهُ )).

[رواه الطّبراني بإسناد حسن].

شرح الحديث:

هذا الحديث فيه أيضا فضلُ الاجتماع على ذكر الله تعالى؛ حتّى إنّ لأهْلِه علاماتٍ يُعرَفون بها يوم البعث، كما يعرف الشّهداء بدمائهم، والحجّاج بتلبيتهم، فكذلك يعرف هؤلاء بنور يشعّ من وجوههم عل منابر من اللّؤلؤ، وما يراهم النبيّون والشّهداء حتّى يغبطوهم.

وقول الأعرابيّ:" حَلِّهِمْ لَنَا " أي: جلّهم لنا، والتّحلية في اللّغة تطلق على النّعت والوصف.

وذكر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم صفاتِ هؤلاء، وأهمّها: أنّهم المتحابّون في الله الّذين اجتمعوا على ذكر الله؛ لذلك جاء في مسند الإمام أحمد عن معاذِ بنِ جبلٍ رضي الله عنه قال: سمعْتُ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يقول:

(( قَالَ اللهُ عزّ وجلّ: وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ، وَالْمُتَجَالِسِينَ فِيَّ، وَالْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ، وَالْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ )).

والله الموفّق لا ربّ سواه.

أخر تعديل في الأربعاء 19 شعبان 1432 هـ الموافق لـ: 20 جويلية 2011 06:00
عبد الحليم توميات

آخر المواضيع:

الذهاب للأعلي