وأما قول الشاعر:
فإنَّ كلاباً هذه عشرُ أبطن وأنت برئ من قبائلها العشر[2]
فإنّه عنى بالبطن القبيلة، فأنّثه على معنى تأنيثها، كما ورد في القرآن:{ مَنْ جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا }، فأنّث (المثل) وهو مذكّر لمّا كان بمعنى الحسنة ".اهـ
ويشهد لما ذكره رحمه الله: كلام الفصحاء في أحاديث وآثار كثيرة، منها:
- ما رواه البخاري عن البراء رضي الله عنه يصف حال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يوم الخندق، فقال: ( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْقُلُ التُّرَابَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ حَتَّى أَغْمَرَ بَطْنَهُ أَوْ اغْبَرَّ بَطْنُهُ )، ولم يقل: اغبرّت.
- وفي الصّحيحين أيضا عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم، فَقَالَ: إِنَّ أَخِي اسْتَطْلَقَ بَطْنُهُ ؟ فَقَالَ: (( اسْقِهِ عَسَلًا )). ولم يقل: استطلقت.
- وفي مسند أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه في وصف استشهاد حمزة قال: ( فَإِذَا حَمْزَةُ قَدْ بُقِرَ بَطْنُهُ )، ولم يقل: بقرت.
- وفي موت المبطون أنّه شهادة قال صلّى الله عليه وسلّم: (( مَنْ قَتَلَهُ بَطْنُهُ فَإِنَّهُ لَنْ يُعَذَّبَ فِي قَبْرِهِ )) [رواه أحمد والتّرمذي]، ولم يقل: من قتلته ...، وغير ذلك.
وقبل أن أختم مقالنا هذا، فأودّ أن أنقل بقيّة كلام الإمام الحريريّ رحمه الله، الّذي استطرد في بيان فائدة أخرى قائلا:
" ونظير تأنيثهم ( البطن ) وهو مذكّر: تأنيثهم الألف أيضاً في العدد، فيقولون: قبضت ألفاً تامّة !
والصّواب: أن يذكّر، فيقال: ألف تامّ، كما قالت العرب في معناه:" ألف صتم "، و" ألف أقرع ".
والدّليل على تذكير الألف قوله تعالى:{ يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ }، والهاء[3] في باب العدد تلحق بالمذكّر وتحذف من المؤنث.
وأمّا قولهم:" هذه ألف درهم "، فلا يشهد ذلك بتأنيث الألف، لأنّ الإشارة وقعت إلى الدّراهم، وهي مؤنثة، فكان تقدير الكلام: هذه الدّراهم ألف "اهـ.
ومعنى ما ذكره من قولهم: ألف صَتْمٌ، أي: تامّ، قال ابن منظور رحمه الله في " لسان العرب ":
( يقال أعطيته ألفا صتما أي: تاما كاملا ).
أمّا قولهم: ألف أقرع، فهو بمعناه، قال في " اللّسان ":" وقولهم ألف أقرع أي: تام، يقال: سقت إليك ألفا أقرع من الخيل وغيرها، أي: تاما، وهو نعت لكل ألف "اهـ
[1] البيت لحاتم الطّائي كما في " ديوانه "، ونسبه إليه كلّ من الجاحظ في " البيان والتبيّن " (1/531)، والقالي في " أماليه " (2/323)، وغيرهم.
[2] على كثرة ما ذكر أهل المعاجم والأدب والتّفسير هذا البيت، إلاّ أنّهم لم ينسبوه إلى قائل معيّن.
والتّوجيه الّذي ذكره الحريريّ متعيّن، وقد قال المبرّد قبله في " الكامل "(2/251):" فقال ( عشْرُ أبطُنٍ ) لأنّ البطن قبيلة، وأبان ذلك في قوله: ( من قبائلها العشر )".
وقال ابن جنّي في " الخصائص "(2/417):" ذهب بالبطن إلى القبيلة وأبان ذلك بقوله : من قبائلها "، وكذا قال ابن فارس في " الصّاحبي في فقه اللّغة "، والصّفديّ في " تصحيح التّصحيف "، والنحّاس في " إعراب القرآن ".
[3] يقصد ( تاء التّأنيث ) اللاّحقة للأسماء، فإنّ القاعدة في العدد أنّه يؤنّث إذا كان المعدود مذكّرا، ويذكّر إذا كان المعدود مؤنّثا.