الجمعة 28 ذو الحجة 1434 هـ الموافق لـ: 01 نوفمبر 2013 06:06

- اذكُروا هاذِمَ اللّذَّاتِ.

الكاتب:  عبد الحليم توميات
أرسل إلى صديق

الخطبة الأولى: [بعد الحمد والثّناء] 

فقد أجمع العلماء، واتّفق العقلاء، على أنّ أعظم عقاب ينزل بالأمم ليس هو طوفانا يُغرِق، أو نارا تُحرق، أو زلزالا طاغيا، أو ريحا صرصرا عاتية؛ فإنّ ذلك كلّه من الآيات الّتي قال عنها ربّ الأرض والسّموات:{وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً} [الإسراء: من الآية59].

إنّما هناك ما هو أشدّ من ذلك، عقاب هو سبيل كلّ المهالك: أن يغفل العبد عن ربّه، ولا يتخلّص من قسوة قلبه ! أن يُصلّي العبد ولا يجد حلاوة الصّلاة ! أن يقرأ القرآن ولا يذوق طعم المناجاة ! أن يرى الجنائز أمامه ممدّدة، ويبقى كأنّه خشب مسنّدة ! فيصدق فيه حال من هم في غمرة ساهون:{وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُون} [سـبأ: من الآية54].

ولو مسّ الدّاء والمرض عضوا من أعضائنا لسارعنا إلى الطّبيب، والاستعانة بكلّ بعيد وقريب، وبكلّ عدوّ وحبيب، فَلِمَ التّواني والتّغافل، ولِمَ التريّث والتّكاسل إذا تعلّق الدّاء بالقلوب، والبعد عن علاّم الغيوب ؟!

{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16].

الخطبُ خطبٌ فادح *** والعيبُ عيبٌ فاضح 

وعـارنا في النّاس لا *** تـحمله النّواضِـح 


وإن تعجب، فعجب أنّك لو سألت أيّ أحد أجنبيّا كان أو صديقا، لأقرّ بهذه الحقيقة، ولسمعته يقول: إنّي أرى للقلب قساوة، وإنّ عليه لغِشاوة، ولم أعد أجد للإيمان حلاوة ! فما الّذي أصابنا ؟ أمسحورون نحن حتّى كُبِّلَتْ أيدينا ؟ أنحن بحاجة إلى راق يرقينا ؟!فالجواب: نعم، إنّه السّحر .. وأيّ سحر ؟ إنّه العشق الكامل للدّنيا.

لقد أخبر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أصحابه أنّ هذه الأمّة سوف تُصاب بشلل في معظم أجزائها، حتّى يحلّ العدوّ بفِنائها، فلا تستطيع أن تحرّك ساكنا.

روى الإمام أحمد وأبو داود عنْ ثَوبانَ رضي الله عنه أنّ رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم قال:

(( يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا )).

فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ ؟! قَالَ صلّى الله عليه وسلّم:

(( بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزَعَنَّ اللهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ )).

فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ ؟ قَالَ:

(( حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ )).

وصدق صلّى الله عليه وسلّم، فما من بليّة ولا رزيّة إلاّ وسببها حبّ الدّنيا اللّعينة، والاغترار بما تبديه لنا من زينة. فاسألوا تارك الصّلاة لم تركها ؟ واسألوا مانع الزّكاة لم منعها ؟ واسألوا السّارق لم سرق، والزّانِيَ لم زنى، والمغتصب لم اغتصب، والرّاشي لم رشى، وآكل الرّبا لم أكل ؟ والجهادَ لم عطل ؟ إنّه (( حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ )).

لقد استوينا مع بني إسرائيل في كلّ قديم وجديد، فحقّ علينا كلّ عقاب ووعيد؛ فمن أبرز صفات اليهود والنّصارى البغاة: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ}.

ولن نجد - عباد الله - رُقيةً أنفع، ولا دواءً أنجع، لإيقاظ القلب من سكرته، وتنبيهه من غفلته مثل: ( ذكر الموت ).

فذكر الموت جاء في فضله وأهمّيته نصوص كثيرة، تدلّ على فضائله الكبيرة، منها:

1- أنّ ذكر الموت يدفع للعمل، ويقطع الأمل:

روى التّرمذي والنّسائيّ عنْ أبِي هُريْرَةَ رضي الله عنه قال: قالَ رسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ )) يَعْنِي الْمَوْتَ.

زاد غيرهما: (( فَإِنَّهُ مَا ذَكَرَهُ أَحَدٌ فِي ضِيقٍ إِلاَّ وَسَّعَهُ، وَلاَ ذَكَرَهُ فِي سَعَةٍ إِلاَّ ضَيَّقَهَا عَلَيْهِ )).

2- أنّه دليلٌ على عقل المرء وفطنتِه:

روى ابن ماجه عن ابنِ عُمَرَ رضي الله عنه أنّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم سُئِل: أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَفْضَلُ ؟ قَالَ: (( أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا ))، قَالَ: فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْيَسُ ؟ قَالَ: (( أَكْثَرُهُمْ لِلْمَوْتِ ذِكْرًا، وَأَحْسَنُهُمْ لِمَا بَعْدَهُ اسْتِعْدَادًا، أُولَئِكَ الْأَكْيَاسُ )).

3- ذكر الموت من أعظم مظاهر الحياء من المولى تبارك وتعالى:

روى التّرمذي وأحمد عنْ ابنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( اسْتَحْيُوا مِنْ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ )).

قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا نَسْتَحْيِي، وَالْحَمْدُ لِلّهِ. قالَ: (( لَيْسَ ذَاكَ، وَلَكِنَّ الِاسْتِحْيَاءَ مِنْ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ: أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَلْتَذْكُرْ الْمَوْتَ وَالْبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ اسْتَحْيَا مِنْ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ )).

4- نسيانُ الموت من أسباب الهلاك:

فقد روى الطّبرانيّ وابن أبي الدّنيا بسند حسن عنْ عبدِ الله بنِ عمرَ رضي الله عنه عَنِ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم قالَ: (( نَجَا أَوَّلُ هَذِهِ الأُمَّةِ بِاليَقِينِ وَالزُّهْدِ، وَيَهْلِكُ آخِرُ هَذِهِ الأُمَّةِ بِالبُخْلِ وَالأَمَلِ )).

5- ذكر الموت من أعظم وصايا الرّسول صلّى الله عليه وسلّم:

فما كان صلّى الله عليه وسلّم يجد شيئا أنفع لأصحابه من أن يوصيهم بذكر الموت، وهم من هم ؟ إنّهم الّذين بلغوا القمّة في العبادة، وكانوا في الزّهد سادة وقادة، ومع ذلك يُوصِيهم بالإكثار من ذكر الموت.

روى البخاري والتّرمذي عن عبدِ الله بنِ عمر رضي الله عنه قال: أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمنكِبي، فقال: (( كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ، وَعُدَّ نَفْسَكَ فِي أَصْحَابِ القُبُورِ. إِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تُحَدِّثْ نَفْسَكَ بِالمَسَاءِ، وَإِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تُحَدِّثْ نَفْسَكَ بِالصَّبَاحِ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ قَبْلَ مَوْتِكَ، فَإِنَّكَ لاَ تَدْرِي يَا عَبْدَ اللهِ مَا اسْمُكَ غَداً ؟)).

وروى الطّبراني عن معاذ رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله ! أوصني ! قال: (( اُعْبُدِ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، وَاعْدُدْ نَفْسَكَ فِي المَوْتَى، وَاذْكُرِ اللهَ عِنْدَ كُلِّ حَجَرٍ وَعِنْدَ كُلِّ شَجَرٍ، وَإِذَا عَمِلْتَ سَيِّئَةً فَاعْمَلْ بِجَنْبِهَا حَسَنَةً )).

6- الموت يسابقنا:

فكان صلّى الله عليه وسلّم يُصوّر الموت على أنّه يسابق أحدنا، فعلينا أن نسبقه بالإكثار من العمل الصّالح، فقد روى مسلم عنْ أبِي هرَيْرَةَ رضي الله عنه أنّ رسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قالَ: (( بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سِتًّا: طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، أَوْ الدُّخَانَ، أَوْ الدَّجَّالَ، أَوْ الدَّابَّةَ، أَوْ خَاصَّةَ أَحَدِكُمْ، أَوْ أَمْرَ الْعَامَّةِ )).

7- وكان صلّى الله عليه وسلّم يأمر بزيارة القبور: 

فالموتى خير جليس يعظك بالخير، ففي صحيح مسلم عنْ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا ))، زاد غيره: (( وَلْتَزِدْكُمْ زِيَارَتُهَا خَيْراً ))، (( فَإِنَّ فِي زِيَارَتِهَا تَذْكِرَةً )).

وفي سنن ابن ماجه عن ابنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أنَّ رسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قالَ: (( كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، فَزُورُوهَا، فَإِنَّهَا تُزَهِّدُ فِي الدُّنْيَا، وَتُذَكِّرُ الْآخِرَةَ )).

لذلك أردنا اليوم أن ننتقل إلى هذا العالم: إنّه عالَم الحقائق .. عالَمٌ حال بيننا وبينه أعظم عائق .. ننتقل بكم إلى مدينة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبالتّحديد إلى بقيع الغرقد.

فقد جاء عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال:

" خَرَجْنَا مَع النّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم في جِنَازَةِ رَجُلٍ مِنَ الأنْصَارِ، فَانْتَهَيْنَا إِلى القَبْرِ وَلَمَّا يُلْحَدْ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ، كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرَ، وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ فِي الْأَرْضِ ...".

كأنّما على رؤوسهم الطّير لصمتهم وسكونهم، فالموقف خطير .. والهول مستطير .. إنّه القبر - عباد الله - إنّه القبر: روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار .. كأنّه ينادي علينا كلّ يوم: يا ابن آدم .. يا ابن آدم .. أمّا تعرفني ؟ أنسِيتَنِي ؟ فإنّي لا أنساك .. أنا بيت الدود .. أنا بيت الوحشة .. هذا ما أعددت لك .. فماذا أعددت لي ؟!

روى التّرمذي بسند حسن أنّ عثمان رضي الله عنه كَانَ إِذَا وَقَفَ عَلَى قَبْرٍ بَكَى حَتَّى يَبُلَّ لِحْيَتَهُ، فَقِيلَ لَهُ: تُذْكَرُ الجَنَّةُ وَالنَّارُ فَلَا تَبْكِي وَتَبْكِي مِنْ هَذَا ؟ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( إِنَّ القَبْرَ أَوَّلُ مَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ الآخِرَةِ، فَإِنْ نَجَا مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَيْسَرُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ )).

يُكمل البراء قائلا: فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ:

(( اسْتَعِيذُوا بِاللهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ - مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا -)).

أي: قولوا: أعوذ بالله من عذاب القبر؛ لذلك شرع الله لنا أن نقول في آخر الصّلاة قبل التّسليم: (( اللّهم إنّي أعوذ بك من عذاب جهنّم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدّجّال ))، نتعوّذ بالله تعالى منه في كلّ صلاة فريضة أو نافلة، عسى الله أن يجيب دعاءنا فيجيرنا منه بفضله ورحمته.

وفي رواية لابن ماجه عنْ الْبَرَاءِ رضي الله عنه قالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم فِي جِنَازَةٍ، فَجَلَسَ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ، فَبَكَى حَتَّى بَلَّ الثَّرَى، ثُمَّ قَالَ: (( يَا إِخْوَانِي، لِمِثْلِ هَذَا فَأَعِدُّوا ))..

يُكمل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قائلا:

(( إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنَ الْآخِرَةِ، نَزَلَ إِلَيْهِ مَلَائِكَةٌ مِنَ السَّمَاءِ بِيضُ الْوُجُوهِ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الشَّمْسُ، مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ، وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ، حَتَّى يَجْلِسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ عليه السّلام، حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ، اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ )).

ما أعظمها من بشارة ! وما أعظمها من تحيّة ! قال تعالى في حقّ هؤلاء:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)}.

ولدتك أمّـك باكيا مستـصرخا *** والنّاس حولك ضاحكين سرورا

فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا *** في يوم موتك ضاحكا مسـرورا

ولمثل هذا فليعمل العاملون.

يُكملُ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قائلا:

(( فَتَخْرُجُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فِي السِّقَاءِ، فَيَأْخُذُهَا، فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَأْخُذُوهَا، فَيَجْعَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ، وَفِي ذَلِكَ الْحَنُوطِ، وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ.

قالَ: فَيَصْعَدُونَ بِهَا، فَلَا يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلَإٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، إِلَّا قَالُوا: مَا هَذَا الرُّوحُ الطَّيِّبُ ؟ فَيَقُولُونَ: فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانُوا يُسَمُّونَهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا، حَتَّى يَنْتَهُوا بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَسْتَفْتِحُونَ لَهُ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ فَيُشَيِّعُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي تَلِيهَا، حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَيَقُولُ اللهُ عزّ وجلّ: اكْتُبُوا كِتَابَ عَبْدِي فِي عِلِّيِّينَ، وَأَعِيدُوهُ إِلَى الْأَرْضِ، فَإِنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ، وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ، وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى.

فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ، فَيُجْلِسَانِهِ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللهُ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ ؟ فَيَقُولُ: دِينِيَ الْإِسْلَامُ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ ؟ فَيَقُولُ: هُوَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم، فَيَقُولَانِ لَهُ: وَمَا عِلْمُكَ ؟ فَيَقُولُ: قَرَأْتُ كِتَابَ اللهِ، فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ، فَيُنَادِي مُنَادٍ فِي السَّمَاءِ: أَنْ صَدَقَ عَبْدِي )).

{يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].

(( صَدَقَ عَبْدِي، فَأَفْرِشُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ. قَالَ: فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا، وَطِيبِهَا، وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ.

قالَ: وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ، حَسَنُ الثِّيَابِ، طَيِّبُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ، هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ، فَيَقُولُ لَهُ: مَنْ أَنْتَ ؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالْخَيْرِ، فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ، فَيَقُولُ: رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي وَمَالِي )).

وجاء في رواية: (( فَيَنَامُ نَوْمَ العَرُوسِ، لاَ يَشْعُرُ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَنَائِمٍ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالعَصْرِ )).

الخطبة الثّانية:

الحمد لله باعثِ الأرواح وقابضِها، واهبِ الحياة وسالبِها، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلقنا من التّراب وإليه يُرجعنا، ثمّ إذا شاء منه يُنشرنا، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله، أطال الحديث عن الموت وكربته، وعن الحساب وشدّته، فنبّه النّاس من غفلتهم، وخلّصهم من حيرتهم، صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله الأطهار، وصحابته الأبرار، الّذين تعلّقت قلوبهم بدار القرار، فكانوا لها عاملين، وللموت ذاكرين، حتّى لقوا الله ربّ العالمين، أمّا بعد:

فيُكمل لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حديثه قائلا:

(( وإِنَّ الْعَبْدَ الْكَافِرَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنَ الْآخِرَةِ، نَزَلَ إِلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ مَلَائِكَةٌ سُودُ الْوُجُوهِ، مَعَهُمُ الْمُسُوحُ، فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ ...)).

ثمّ ماذا ؟

قال: (( ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ )) ! {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} ! ذلك ما كنت منه تهرب ! ولكن إلى أين ؟

{وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام: من الآية93].

يقول الله جلّ جلاله:{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ}، فينزل عليه الجواب كالصّاعقة:{كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}.

يكمل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حديثه قائلا:

((ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ، اخْرُجِي إِلَى سَخَطٍ مِنَ اللهِ وَغَضَبٍ. قَالَ: فَتُفَرَّقُ فِي جَسَدِهِ، فَيَنْتَزِعُهَا كَمَا يُنْتَزَعُ السَّفُّودُ مِنَ الصُّوفِ الْمَبْلُولِ ...)).

السّفّود: حديدة بها شُعَب في أطرافها ! وتصوّروا - عباد الله - وهي تُسلّ من الصّوف ! وأيّ صوف ؟ صوف مبلول !

هذا مقام الشدّة؛ فاعرف اللهَ في الرّخاء يعرفْك في الشدّة .. هذا مقام الضّرّاء؛ فاعرف الله في السرّاء يعرفك في الضرّاء.

قالَ: (( فَيَأْخُذُهَا، فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَجْعَلُوهَا فِي تِلْكَ الْمُسُوحِ، وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَيَصْعَدُونَ بِهَا، فَلَا يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلَأٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، إِلَّا قَالُوا: مَا هَذَا الرُّوحُ الْخَبِيثُ ؟ فَيَقُولُونَ: فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ بِأَقْبَحِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانَ يُسَمَّى بِهَا فِي الدُّنْيَا، حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيُسْتَفْتَحُ لَهُ، فَلَا يُفْتَحُ لَهُ.

ثُمَّ قَرَأَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم:{لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40]، فَيَقُولُ اللهُ عزّ وجلّ: اكْتُبُوا كِتَابَهُ فِي سِجِّينٍ فِي الْأَرْضِ السُّفْلَى، فَتُطْرَحُ رُوحُهُ طَرْحًا.

فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ، فَيُجْلِسَانِهِ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي، فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ أَنْ كَذَبَ، فَافْرِشُوا لَهُ مِنَ النَّارِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى النَّارِ، فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا، وَسَمُومِهَا، وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلَاعُهُ، وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ، قَبِيحُ الثِّيَابِ، مُنْتِنُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُوءُكَ، هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ، فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ ؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالشَّرِّ، فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ، فَيَقُولُ: رَبِّ لَا تُقِمِ السَّاعَةَ )).

يقول ذلك - عباد الله - لأنّه يعلم أنّ ما بعد القبر أشدّ فظاعة، وأكبر ألما وشناعة !

يا غافلا عمّـا خُلقـت لـه  انتبه *** جـدّ الرحيل ولست باليقظان

سـار الرفاق وخلفوك مع  الألـى *** قَنِعُوا بذا الحظّ  الخسيس  الفاني

ورأيت أكثـر من تـرى متخلّـفا *** فـتبعتـهم، ورضيت  بالحرمان

ولسوف تعلم حين ينكشـف الغطا *** ماذا صنعت وكنت ذا حـرمان

قال الحسن البصري رحمه الله:" ما رأيت يقينا لا شك فيه أشبه بشك لا ريب فيه من الموت " ! فكلّ الناس على يقينٍ أنهم ميتون لا محالة، فإذا بك تراهم يعملون أعمال المخلّدين !

كلّهم على يقينٍ أنّه عبد، فإذا بك تراه يعمل أعمال الأحرار !

ورحم الله الفضيل بنَ عياض اّلذي رأى رجلا فسأله: كم مضى من عمرك ؟ فقال الرجل: ستّون سنة، قال الفضيل: إذن فأنت منذ ستين سنة تسير إلى الله، فيوشك أن تصل !

ورحم الله الخليفة الصّالح هارونَ الرّشيدَ قال وهو على فراش الموت: أريد أن أرى القبر الذي سأدفن فيه. فحملوه إلى قبره، ونظر إليه فبكى، والتفت إلى أحبابه فقال: ما أغنى عنّي ماليه، هلك عنّي سلطانيه !

نعم، أين المال ؟ أين الجاه ؟ أين الإمارة ؟ أين الوزارة ؟ أين التّجارة ؟ أين البناء والعمارة ؟ أين الدّرهم ؟ وأين الدّينار ؟ أين الجند ؟ وأين الأولاد ؟

( ما أغنى عنّي ماليه، هلك عنّي سلطانيه )، ثمّ رفع رأسه إلى السّماء وقال وهو يبكي: يا من لا يزول ملكه، ارحم من قد زال ملكه.

فسبحان من أخضع بالموت رؤوس القياصرة، وأذلّ أعناق الأكاسرة ! سبحان من ينقل العباد بالموت من القصور إلى القبور، ومن ضياء المهود إلى ظلمة اللّحود، ومن ملاعبة الجوارِي الحسان إلى مقاساة الهوام والدّيدان، ومن التلذّذ بالطّعام والشّراب إلى التمرّغ في الوحل والتراب !

فيا عبد الله، وأنت تستمع إلى هذا الحديث فما تنوي فعلَه من الخير وتركَه من الشرّ فسارع إليه، ولا تتوان في ذلك، فإنّ القلب الطيّب تُحِييه الموعظة البليغة:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133].

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه؛ إنّه هو الغفور الرّحيم.

أخر تعديل في الجمعة 28 ذو الحجة 1434 هـ الموافق لـ: 01 نوفمبر 2013 06:13
عبد الحليم توميات

آخر المواضيع:

الذهاب للأعلي