الجمعة 13 ذو الحجة 1431 هـ الموافق لـ: 19 نوفمبر 2010 07:32

- توجيهات في تربية البنين والبنات (5)

الكاتب:  عبد الحليم توميات
أرسل إلى صديق

الخطبة الأولى: [بعد الحمد والثّناء]

فهذا لقاؤنا الخامس معكم أيّها المؤمنون، نحدّثكم فيه - والحديث ذو شجون -، عن برد الأفئدة وقرّة العيون، كيف نصل إلى دروبهم ؟ وكيف نستولي على قلوبهم ؟ كيف نكسب أولادنا ؟ وكيف نحفظ أكبادنا ؟

أوّل شيء تطرّقنا إليه، وركّزنا حديثنا عليه، هو: الدنوّ منهم، والتفرّغ لهم .. مصاحبتهم وملاطفتهم، فحينها تكسر أكبر حاجز بينك وبين قلب ولدك، وتتربّع على عرشه كسلطان بلدك.

وإنّ من أعظم مفاتيح قلب الولد، التي رتّب الله كلّ خير من ورائه، وباهى بها ملائكته في سمائه:

 

2- تعليم الولد وتزكيته.

عباد الله، إنّ الله تعالى يقول:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [التحريم:6]..

أي: مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر، ولا تدعوهم هملا فتأكلَهم النّار يوم القيامة.

قال عليّ رضي الله عنه في هذه الآية:" علّموا أهليكم الخير ".[1]

وقال مجاهد رحمه الله:" أوصوا أنفسكم وأهليكم بتقوى الله وأدّبوهم ".[2]

واعلموا أنّ الطّفل في سنواته الأولى يتعلّم أكثر بكثير ممّا يتصوّره الآباء، وقد أجمع أهل الاختصاص بعلم التّربية والاجتماع أنّ نسبة 90 % من التّربية تتمّ في السّنوات الخمس الأولى.

وفي هذه المرحلة يميل الطّفل كثيرا إلى إرضاء والده ووالدته، ويحبّ أن يستمع إلى عبارات المدح والثّناء من والديه، فيحاول أن يفعل كلّ ما يقال له .. وله استعداد في ترك كلّ ما ينهى عنه، فلم يبق إلاّ أن يصبّ في قلبه ماء الإحسان، ويغرس في صدره أصول الإيمان ..

وينشـأ ناشـئ الفتيـان فينـا *** علـى مـا كـان عـوّده أبـوه

مـا دان الفـتى بعقـل ولكـن *** يُـعَـوّدُه التـديّـنَ أقـربـوه

وقال محمد بن سيرين رحمه الله:" ( كانوا يقولون: أكرم ولدك، وأحسن أدبه ).

وكان يقال: ( من أدّب ولده أرغم أنف عدوّه ).

وقال الحسن رحمه الله: ( التعلّم في الصّغر كالنقش على الحجر ).

وكان يقال: الأدب من الآباء، والصّلاح من الله عزّ وجلّ.

وقالوا أيضا: من أدّب ابنه صغيراً قرّت به عينه كبيراً، وأنشدوا:

ويعدم عاقلٌ أدباً فيجفو *** وتنسبه إلى غلظ الطِّبـاع

ومنزلة التَّأدب من أديبٍ *** بمنزلة السِّلاح من الشُّجاع

وقال آخر:

خير ما ورَّث الرّجـال بنيـهـم *** أدبٌ صالـحٌ وحسـن الثّناء

هو خيـرٌ مـن الدََّنانيـر والأو *** راق فـي يوم شدَّةٍ أو رخـاء

تلك تفنـى والدِّين والأدب الصَّا *** لح لا تفنـيان حتَّى البـقـاء

إن تأدَّبـت يا بنـيّ صغـيـراً *** كنت يوماً تعدّ في الكـبـراء

وإذا ما أضعـت نفسـك ألفـ *** يت كبيراً في زمرة الغـوغـاء

ليس عطف القضيب إن كان رط *** باً وإذا كان يابـساً بسـواء

واحذر كلّ الحذر أيّها الأب من داء التّسويف وطول الأمل، وأن تترك الزّرع والعمل، فإنّ الولد إذا ترك على طبعٍ ينشأ عليه، وكم تجدنا نسمع من يدعو على والديه لأنّهما ما علّماه ولا ربّياه ! فهنالك يصعب ردّه:

قد ينفع الأدبُ الأحـداثَ فـي مهـل *** وليـس ينفع في ذي الشّيبـة الأدب

إنّ الغصـون إذا قوّمتهـا اعتـدلـت *** ولا يـليـن إذا قوّمتـه الخشـب

عباد الله .. مَنْ منكم لا يسمع بلقمان الحكيم ؟ الذي ذكره الله في القرآن العظيم .. وإنّي أجزم أنّ كثيرا منكم يظنّ أنّه نبيّ، وليس كذلك ..

وأجزم أنّه لا أحد منكم يعرف لقبه، أو بلده ونسبه .. لا أحد يعلم حياته .. ولا مراحله أو مماته .. لأنّ الله لم يذكر لنا ذلك، ولا نبيّه صلّى الله عليه وسلّم، فلماذا ذكره الله في القرآن ؟ بل سمّى باسمه سورة تُتلى مدى الأزمان.

ما ذكر الله لقمان إلاّ لأجل وصيّة، أوصى بها ثمّ ذهب، تكتب بماء الذّهب:{ وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)}.

فهذه الآيات الكريمات، تضمّنت دستورا كاملا للحياة، ومن منّا جلس مع ولده جلسة كهذه ؟!

في الوقت الذي تلاطفه، وتمازحه، وتحدّثه وتلاعبه، فإذا بك تنقلب إلى الجدّ، وتجعله يسمعك تحذّره .. فيقرع سمعه لأوّل مرّة كلمة:" الشّرك بالله ".. أتدري يا بُنيّ ما الشّرك بالله ؟

ثمّ تذكر له بعض صور ومظاهر الشّرك بالله: إنّه دعاء غير الله .. إنّه الرّجاء في غير الله .. إنّه الذّبح لغير الله .. إنّه الكفر بالله .. إنّه سبّ الله .. إنّه الاستهزاء بشيء من دين الله .. إنّه الذّنب الوحيد الذي حكم الله بأنّه لا يغفره ..

وهذا من أنفع وسائل التّربية .. التّعليم بعد الإلغاز..{ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }.. وستراه في حياته كلّها يكبر على التّوحيد الصّحيح، والإيمان الصّريح .. وينغرس فيه هذا الخوف من الله تعالى غرسا لا يزول، كما يغرس الجهّال في أبنائهم الخوف من الغول.

ثمّ اجلس معه مرّة أخرى .. وحدّثه عن برّ الوالدين، وأن يطرق هذا الباب بكلتا اليدين، وأرجو أن تنتبهوا إلى الالتفاتة في هذه الآية .. وأن تتّبعوا طريقة القرآن في التّعليم والهداية:

فإنّنا نلحظ هذه الآيات كلّها سيقت بصيغة واحدة: لا تشرك.. أَقِمِ الصَّلاةَ .. وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ .. وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ .. وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً .. وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ ..

إلاّ الأمر ببرّ الوالدين، فلم يقل له يا بُنيّ برّ بي، وأطعني .. لا .. بل نسب الكلام إلى الله: {وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ}.

قال العلماء: يحسن بالوالد والوالدة أن لا يأمرا الطّفل بطاعتهما مباشرة، بل يعلّمه حقوق الوالدين في سياق بديع جميل، فيقولان له: يا بنيّ، اعلم أن الله قال كذا، وأمر بكذا ..

ذلك ليشعر أنّ طاعتهما من طاعته سبحانه وتعالى .. وأنّه لا طاعة لهما في معصية الله، فيكبر معه أمران: طاعة الوالدين، وأنّ طاعة الله أكبر من طاعتهما.

وتأتي له بقصص الصّالحين الّذين يُضرب بهم المثل في طاعة الوالدين، وتذكّره بأهل العقوق، ومآلهم بتضييعهم لهذه الحقوق.

ثمّ اجلس معه يوما آخر، وانتقل إلى أن تبيّن له أنّه مُراقَب مراقبة صارمة في جميع حركاته، وأنفاسه وسكناته .. وأنّ الله مطّلع على ما أظهر وأخفى، وأنّه يعلم السرّ وأخفى {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ}..

ثمّ جلسة أخرى تعلّمه فيها المحافظة على الصّلاة، وإن لم تجب عليه، ولا تأمره بها قبل سبع سنوات، بل اكتف بالتّعليم والإرشاد إلى فضائلها.

تعلّمه الصّلاة من الصّغر، وذلك بأن تصلّي أمامه في البيت ما شاء الله من النّوافل، وهذه حكمة من الحكم في استحباب الصّلاة في البيوت، إذ يشاهد الأولاد أباهم يمرّغ وجهه في الأرض ساجدا لله خاشعا، فيشاهدون ذلك يوميا، ممّا يغرس في نفوسهم عظمة الخالق جلّ وعلا، ويحبّب إليهم الصّلاة، ويتعرّفون على أعمالها.

ثمّ جلسة أخرى .. تخبره برسالته المقدّسة في هذه الحياة .. بالدّعوة إلى الله تعالى، والصّبر عليها {وَأْمُرْ بِالمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنْكَرِ وَاصْبِر عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}..

وهكذا تتوالى الجلسات، وتتوالى الوقفات، حتّى تعلّمه مكارم الأخلاق، فتعلّمه التّواضع للنّاس، وحسن معاملتهم، وتفتح عينيه على الآداب الشّرعيّة، والأخلاق الإسلاميّة {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ}.

عَوِّد بنيك على الآداب في الصِّغَر *** كيما تَقَرَّ بهـم عينـاك في الكِبـَرِ

فإنمـا مَثَـل الآداب تـجمعها *** في عنفوان الصبا كالنقش في الحَجَر

ويُفسد هذا الخير كلّه: ذهابُ هيبة الوالدين أو أحدهما من صدور الأولاد، وذلك متى كانا يُظهِران الشّجار أمامهم، فإنّه حينئذ يكون التّعليم كالنّقش على الماء.

الخطبة الثّانية:

الحمد لله حمدا لا يبيد، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له وعده من شكره بالمزيد، وأوعد من كفره بالعذاب الشّديد، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله سيّد الأحرار والعبيد، اللهمّ صلّ عليه وسلّم وبارك وزد وعلى آله الطيّبين وأصحابه الغرّ الميامين، وعلى كلّ من تبعهم بإحسان إلى يوم الوعد والوعيد، أمّا بعد:

فقد ذكر العلماء أساليب كثيرةً للتّربية، ومنهم من حصرها في ستّة: هي التّعليم، والتّعويد والتكرار، والقصص الهادف، والتّرغيب والتّرهيب، والقدوة الحسنة، والتأديب والعقوبة.

- أمّا التّعليم فقد رأيناه، وهو أمر لا ينقطع.

- أمّا التّكرار، فإنّه إذا بلغ الولد سبع سنين، فإنّك تعقِد معه جلسة أخرى، تذكّره فيها بالشّرك الّذي حذّرته منه في أوّل دربه، وأنّه أعظم حقوق ربّه، فحينئذ يسمعك تخبره: إنّه ليس بين العبد والشّرك إلاّ الصّلاة، وأنّ تركها من أعظم الموبقات ..

هناك يأتي الأمر بها، والتّركيز عليها، وتراقبه في أدائها كما تراقبه في غيرها، قال الله تعالى:{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا}..

اصطبر .. ولم يقل: اصبر .. لأنّ الأمر يحتاج إلى تكلّف الصّبر والمواظبة، ومداومة التّذكير بها والمراقبة، وقال تعالى:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً}.

وروى أبو داود عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم:

(( مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ )).

وقد حرص النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على تربية الأبناء على الصّلاة، حتّى كان يقول- فيما رواه البخاري -: (( إِنِّي لَأَقُومُ إِلَى الصَّلَاةِ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلَاتِي كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ )).

فكان بإمكانه صلّى الله عليه وسلّم أن يأمر أمّه بالمكوث في البيت، ولكنّها حكمة لأولي الأبصار، لبيان ضرورة المسجد للصّغار ..

بل روى البخاري عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ أيضا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم:

(( كَانَ يُصَلِّي وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ بِنْتَ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم وَلِأَبِي الْعَاصِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا، وَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا )).

يقول عبد الله بن مسعود صلّى الله عليه وسلّم: ( حافظوا على صلاة أبنائكم، وعلّموهم الخير، فإنّ الخير عادة ).

وإِنْ تعجب فعجب لمن تراهم يحرصون كلّ الحرص على تسجيل أبنائهم في قائمة المتعلّمين، فأين الحرص على أن يأمروهم بالصّلاة ليكونوا في قائمة المصلّين ؟

تراهم يحرصون كلّ الحرص على إيقاظ الأولاد لدروسهم بالبكور، والويل لهم إن تأخّروا والثّبور، ولا يبالون بإيقاظهم للصّلاة في وقتها، وتداركها قبل فوتها !

فليعلم الوالدان أنّ العلماء اتّفقوا على أنّ الوالدين عاصيان في ذلك، وأنّ عليهما أن يأمرا الولد بأداء الصّلاة والحفاظ عليها، دون الضّرب، وإنّما يلجآن إلى الضّرب إذا بلغ العاشرة من عمره:{يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاَةَ}..

- كما أنّه من السنّة تعويد الأطفال على الصّيام من الصّغر، فقد روى البخاري ومسلم عَنْ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ قَالَتْ: أَرْسَلَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِلَى قُرَى الْأَنْصَارِ:

(( مَنْ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ أَصْبَحَ صَائِمًا فَليَصُمْ )) قَالَتْ: فَكُنَّا نَصُومُهُ بَعْدُ، وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا، وَنَجْعَلُ لَهُمْ اللُّعْبَةَ مِنْ الْعِهْنِ، فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهُ ذَاكَ حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ الْإِفْطَارِ.

وروى البخاري عن عُمَر رضي الله عنه قال لِنَشْوَانٍ – أي: سكران – فِي رَمَضَانَ: (( وَيْلَكَ وَصِبْيَانُنَا صِيَامٌ ! فَضَرَبَهُ )).

- ويجب على الآباء أن ينهوا الأولاد عن اقتراف بعض المخالفات الشّرعيّة ولو كانوا صغارا، روى البخاري ومسلم عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: ( أَخَذَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم: (( كِخْ كِخْ )) لِيَطْرَحَهَا، ثُمَّ قَالَ: (( أَمَا شَعَرْتَ أَنَّا لَا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ )).

فهذا الحديث يقضي على من يتساهل مع الصّغار في بعض المخالفات، بحجّة أنّهم صغار لا يعرفون.

ويؤيّد لك ما رواه أبو داود وغيره عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم وَمَعَهَا ابْنَةٌ لَهَا، وَفِي يَدِ ابْنَتِهَا مَسَكَتَانِ غَلِيظَتَانِ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ لَهَا: (( أَتُعْطِينَ زَكَاةَ هَذَا ؟ )) قَالَتْ: لَا. قَالَ: (( أَيَسُرُّكِ أَنْ يُسَوِّرَكِ اللَّهُ بِهِمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سِوَارَيْنِ مِنْ نَارٍ ؟)). قَالَ: فَخَلَعَتْهُمَا فَأَلْقَتْهُمَا إِلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم وَقَالَتْ: هُمَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلِرَسُولِهِ ".

فانظروا كيف خاطب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الأمّ بذلك، وجعلها عاصية في ترك الزّكاة.

- وجاء في القرآن الكريم أنّه يجب على الأولياء تعليم أولادهم بعض الآداب كالاستئذان، وكيف يُعَوَّدُ الأطفال ويُرشدون إلى ذلك، فقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور:58].

وقال تعالى أيضاً:{وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [النور:59].

ثمّ عليك بأنواع التّربية الأخرى، وذلك ما سنراه إن شاء الله في خطبة لاحقة، ونكتفي بهذا القدر.

وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرّحيم.


[1] أخرجه الحاكم، وصحّحه الألباني في " صحيح الترغيب " (119).

[2] أخرجه البخاري معلّقا.

أخر تعديل في السبت 14 ذو الحجة 1431 هـ الموافق لـ: 20 نوفمبر 2010 22:15
عبد الحليم توميات

آخر المواضيع:

الذهاب للأعلي