فالاعتكاف يجوز ويستحبّ في كلّ مسجد جامع على الصّحيح من أقوال أهل العلم.
[" الإفصاح " لابن هبيرة (1/256)، و" المدوّنة الكبرى " (1/231)، و" الأمّ " للشّافعيّ (2/107)، و" الإنصاف " للمرداوي (3/368)].
ولكنّ أفضل وأحسن أنواع الاعتكاف هو ما كان في أحد المساجد الثّلاثة، لما رواه سعيد بن منصور في " سننه " عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ اليَمَانِ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( لاَ اعْتِكَافَ إِلاَّ فِي المَسَاجِدِ الثَّلاَثَةِ )).
فإن صحّ الحديث – وفيه نزاع مشهور - فالمقصود به: نفي الكمال المستحبّ، أي: إنّ الاعتكاف الكامل هو ما كان في مسجد من مساجد الأنبياء.
وبعض أهل العلم رجّح وقف الحديث على حذيفة رضي الله عنه، ومع ذلك فإنّه يحتجّ به لأنّه لا يقال من قِبل الرّأي.
وممّا تشترك فيه المساجد الثّلاثة أيضا:
3-شدّ الرّحال إليها:
روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهم عَنْ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ:
(( لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ صلّى الله عليه وسلّم، وَمَسْجِدِ الْأَقْصَى )).
وعلّل البغويّ رحمه الله في " شرح السنّة " (2/337) أنّ اختصاصها بهذا لكونها مساجد الأنبياء، ونحن مأمورون بالاقتداء بهم.
لذلك لم يختلف العلماء في استحباب قصد هذه المساجد للصّلاة فيها، كما في " مجموع فتاوى ابن تيمية رحمه الله " (27/26-351-417)، و"المجموع" (8/210) للنّوويّ رحمه الله.
معنى الحديث:
والقصر في الحديث إضافيّ، بمعنى: أنّه لا تشدّ الرّحال إلى بقعة لتعظيمها إلاّ إلى هذه المساجد.
هذا هو الصّحيح، كما قال ابن تيمية رحمه الله، وخالف هذا المعنى طائفتان:
أ) طائفة قدّرت الاستثناء من المساجد فقط، فقالوا: أي لا تشدّ الرحال إلى مسجد إلاّ المساجد الثّلاثة - كما فعل ابن حزم رحمه الله في "المحلّى" (4/54)-.
من أجل ذلك فهم يُبيحون شدّ الرّحال إلى كل بقعة مقدّسة معظّمة. وسيأتي في آثار الصّحابة رضي الله عنهم ما يردّ هذا المعنى.
ب) وطائفة جعلت القصر حقيقيّا، كابن عبد الهادي رحمه الله في " الصّارم المنكي "(ص20-147)، وعلى قوله لا يشرع السّفر إلى أيّ بقعة إلاّ إلى المساجد الثّلاثة !
لكنّه – ولله الحمد – قال:" وإنّما خرج من هذا العموم السّفر إلى التّجارة، وطلب العلم، وصلة الأرحام بأدلّة أخرى "اهـ.
حكم شدّ الرّحال إلى غير هذه المساجد:
النّهي في هذا الحديث هو للتّحريم، وهو مذهب الإمام مالك رحمه الله كما في " التّمهيد " (2/62)، و" جواهر الإكليل " (1/185)، وبه قال أكثر أصحاب الإمام أحمد كما في " الفروع " (3/523)، و" الإنصاف " للمرداوي (3/367).
ومنهم من قال إنّ النّهي للكراهة كالسّبكي في " شفاء السّقام " (ص3-40)، وابن حجر في " الفتح " (3/63-71) وغيرهما، ورأوا أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يقصد مسجد قباء للصّلاة فيه.
والصّواب – إن شاء الله – ما ذهب إليه الإمام مالك ومن وافقه، لما يلي:
· أنّ الأصل في النّهي هو التّحريم كما هو معلوم، ولا صارف إلى الكراهة.
· أنّ الإنكار على من شدّ رحله إلى غيرها ثبت عن بعض الصّحابة، ولا يعلم لهم مخالف كما في " المغني " (3/215-556)، وفي ذلك آثار:
- فقد روى الإمام أحمد والنّسائي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ:
لَقِيتُ أَبَا بَصْرَةَ الْغِفَارِيَّ رضي الله عنه، قَالَ: مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ ؟ فَقُلْتُ: مِنْ الطُّورِ. فَقَالَ: أَمَا لَوْ أَدْرَكْتُكَ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ إِلَيْهِ مَا خَرَجْتَ إِلَيْهِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ: (( لَا تُعْمَلُ الْمَطِيُّ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَإِلَى مَسْجِدِي، وَإِلَى مَسْجِدِ إِيلِيَاءَ أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ )).
- وروى الأزرقيّ في " أخبار مكّة " (ص304)، والفاكهيّ في " أخبار مكّة " (1207) بإسناد صحيح كما في " أحكام الجنائز " (ص226) عن قَزْعة قال:
أردت الخروج إلى الطّور، فسألت ابن عمر رضي الله عنه ؟ فقال: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ النَّبِيَ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ: المَسْجِدِ الحَرَامِ، وَمَسْجِدِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم، وَالمَسْجِدِ الأَقْصَى ))، دَعْ عَنْكَ الطُّورَ فَلاَ تَأْتِهِ.
- ومثله جاء عن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه أنّه نهى أبا ذرّ الغفاريّ رضي الله عنه عن السّفر إلى الطّور، وقَبِلَ أبو ذرّ رضي الله عنه إنكارَ أبي موسى رضي الله عنه، كما ذكره الشّوكاني في " نيل الأوطار ".
ففهمُ الصّحابة رضي الله عنهم مقدّمٌ على فهم غيرهم كما هو معلوم.
أمّا معارضتهم هذا النّهي بذهابه صلّى الله عليه وسلّم إلى مسجد قباء للصّلاة فيه، فإنّه لا تعارض، وبيان ذلك من وجوه:
- الوجه الأوّل: أنّ المنهيّ عنه هو الزّيارة بسفر، والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم ما كان يسافر، فقباء من المدينة، فهو كما لو أراد أحدهم وهو بالمدينة زيارة البقيع، أو شهداء أحد.
- الوجه الثّاني: إنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يفعل ذلك لمواصلة الأنصار، وتفقّد من تخلّف منهم عن الجمعة، ولذلك خصّ مجيئه إليهم بالسّبت، وسيأتي الحديث في ذلك إن شاء الله.
- الوجه الثّالث: لو سلّمنا أنّ الذّهاب إلى قباء يدخل في شدّ الرّحال – وهو ليس كذلك –، فيقال: إنّ الّذي نهى عن شدّ الرّحال إلاّ إلى المساجد الثّلاثة، هو من ذهب إلى قباء، فيضاف مسجد قباء وحده إليها، فلا وجه للتّعميم.
والله تعالى أعلم وأعزّ وأكرم، وهو الهادي للّتي هي أقوم.