الاثنين 16 ذو الحجة 1431 هـ الموافق لـ: 22 نوفمبر 2010 20:43

- أصول النّحو العربيّ (3) الأدلّة الإجماليّة: القرآن الكريم

الكاتب:  عبد الحليم توميات
أرسل إلى صديق

الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:

فإنّ أهمّ مصادر الأحكام النّحويّة على التّفصيل خمسة هي: الكتاب، والسنّة الصّحيحة، وكلام العرب، والإجماع، والقياس، والاستصحاب.

وبعضهم يذكرها على سبيل الإجمال فيقول أدلّة النّحو: سماع وقياس، ثمّ يفصّل ذلك كلّه.

الدّليل الأوّل: القـرآن الكـريـم.

القرآن الكريم: هو أفصح الكلام على الإطلاق، والمعجزة الخالدة بلا نزاع أو شقاق، لذلك كان هو المنهلَ الأوّل، وعليه الاعتماد والمعوّل في استنباط الأحكام اللّغويّة.

قال أبو الفرج المعافَى بن زكريّا[1] في " الأنيس الصّالح ":

" علم العربيّة حاكم على الكلام، والقرآن حاكم عليه، فإذا خالفه رجع إليه، ولم يُتمكّن من الحكم على بطئه، لأنّه حاكم ".

لذلك قال السّيوطيّ رحمه الله في " الاقتراح ":" فكلُّ ما ورد أنّه قرئ به جاز الاحتجاج به في العربيّة "اهـ.

ومراده بقوله: " كلّ ما قرئ به " القراءة المتواترة، والآحاد، والشاذّة.

لذلك كان لزاما بيان مواقف العلماء ممّن ردّ بعض القراءات المتواترة، والقراءة الشّاذّة.

* الردّ على الطّاعنين في القراءات المتواترة.

قال السّيوطيّ رحمه الله في " الاقتراح ":

" كان قوم من النّحاة المتقدّمين يَعيبون على عاصم، وحمزة، وابن عامر، قراءاتٍ بعيدةً في العربيّة، وينسبونهم إلى اللّحن، وهم مخطِئون في ذلك، فإنّ قراءاتهم ثابتة بالأسانيد المتواترة الصّحيحة الّتي لا مطعن فيها، وثبوت ذلك دليل على جوازه في العربيّة.

وقد ردّ المتأخّرون منهم ابن مالك على من عاب عليهم ذلك بأبلغ ردّ، واختار جوازَ ما وردت به قراءاتهم في العربيّة "اهـ.

ويقصد رحمه الله المبرّد، ومن تبعه كالزّمخشريّ، فقد أكثرا من الطّعن في القراءات المشهورة.

بل إنّ من المفسّرين الّذين يُعَدُّون من أئمّة السّنة زلّت أقدام بعضهم فردّوا بعض القراءات، كما سيأتي ذكره.

الأمثلة:

- جواز العطف على الضّمير المجرور من غير إعادة الجارّ.

استدلّ المجيزون بقوله تعالى:{وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامِ} [النساء: من الآية1] - بجرّ ميم الأرحام-.

وقرأ الجمهور ( وَالأَرْحَامَ )- بفتح الميم -، أي:" اتّقوا الله أن تعصوه، واتّقوا الأرحامَ أن تقطعوها "، قاله ابن عبّاس رضي الله عنه، ومجاهد، وعكرمة، والسّدي، وابن زيد.

أمّا على قراءة حمزة رحمه الله ( والأرْحَامِ ) فالمعنى حينئذ: ما يقوله المرء لأخيه: أسألك بالرّحم أن تفعل كذا.

وقد ثبتت هذه القراءة عن ابن عبّاس رضي الله عنه، والحسن، ومجاهد، وقتادة، والنّخعيّ، والأعمش، وغيرهم.

فاستشكلها بعض أئمّة اللّغة، لما فيها من عطف الاسم الظّاهر على الضّمير المجرور دون إعادة حرف الجرّ، وهو قليل.

وليس هذا موضعَ بسط الكلام فيه، ولكنّ الّذي لا بدّ أن يَعْقد المؤمنُ قلبَه عليه أنّه إذا صحّ السّند في القراءة فيجب قبولها، فإنّها سنّة متّبعة، ولا يجوز أن تخضع القراءة للقواعد النّحويّة، بل يخضع علم النّحو لها.

فلا يُلتَفَت إلى قول الزجّاج رحمه الله:" الخفض في (الأرحام) خطأ في العربيّة لا يجوز إلاّ في اضطرار الشّعر..".

وقول المبرّد رحمه الله:" لو صلّيت خلف إمام يقرأ:{وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامِ} لأخذت نعلي ومضيت " !!.

وقد زلّت هنا قدم الإمام ابن عطيّة رحمه الله فقال: تُردّ هذه القراءة عندي لوجهين ..

قال أبو حيّان رحمه الله في " البحر المحيط " (3/159): " وهي جسارة قبيحة لا تليق بحاله، ولا بطهارة لسانه، إنّما ذلك شأن الزّمخشريّ "اهـ.

ونقل القرطبيّ في تفسيره (5/3) عن القشيري رحمه الله أنّه قال:

" ومثل هذا الكلام مردود عند أئمّة الدّين، لأنّ القراءات الّتي قرأ بها أئمّة القرّاء ثبتت عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم تواترا يعرفه أهل الصّنعة، وإذا ثبت شيء عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فمن ردّ ذلك فقد ردّ على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ، واستقبح ما قرأ به، وهذا مقام محذور.

ولا يقلّد فيه أئمّة اللّغة والنّحو، فإنّ العربيّة تُتلقّى من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ولا يشكّ أحد في فصاحته ... "اهـ.

لذلك قال ابن مالك رحمه الله تعالىفي "الخلاصة":

( وعود خافض لدى عطف على *** ضمير خفض لازما قد جُعِلا

وليس عندي لازمـا فقد أتـى *** في النّثر والنّظم الصّحيح مثبتا )

والقول بجواز هذه المسألة هو مذهب الكوفيّين قاطبةً، والأخفش، ويونس، واختاره الشّلوبين رحمهم الله جميعا.

- جواز الفصل بين المتضايفين بالمفعول:

قرأ الجمهور:{وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} [الأنعام: من الآية137].

وقرأ ابن عامر رحمه الله: ( زُيِّنَ .. قَتْلُ أَوْلاَدَهمْ شُرَكَائِهِمْ ) - بنصب أولاد وجرّ شركائهم - ففصل بين المتضايفين بالمفعول به.

وقد طعن الزّمخشريّ في قراءته، وردّ عليه السّعد التّفتازاني في " حاشيته على الكشّاف "، وأبو حيّان في " البحر المحيط " بأبلغ ردّ، وانتصرا للقراءة بأنّها فصيحة.

- جواز سكون لام الأمر بعد ثمّ:

إسكان اللاّم بعد الواو والفاء أكثر من تحريكها، نحو:{وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: من الآية29]، و{فَلْيَسْتَجِيبُوا}.

وكذلك تسكّن بعد ( ثمّ ) وهو قليل لكنّه فصيح، وعليه قراءة حمزة:{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ}، و{ثُمَّ لْيَقْطَعْ}، وقد بسط ذلك ابن مالك رحمه الله في " التّسهيل "، فلا يُلتفت إلى من ردّ القراءة الثّابتة، وقال لا يجوز تسكين اللاّم بعد ( ثمّ ).

والله الموفّق لا ربّ سواه.



[1] (تـ: 390 هـ) قالوا: إذا حضر القاضي أبو الفرج فقد حضرت العلوم كلّها، [" غاية النّهاية "(2/302)، و" الأعلام " (7/260)].

عبد الحليم توميات

آخر المواضيع:

الذهاب للأعلي