لهذا الذّكر فضائل عدّة:
أ) أنّه ثقيل في الميزان ب) وأنّه أحبّ الكلام إلى الرّحمان ج) وأنّه من أسباب غراس الجنان د) وأنّه يسدّ كثيرا من النّوافل هـ) وأنّه من أسباب زيادة الإيمان و) وأنّه مكفّر للذّنوب ولو كثرت ز) وأنّهما صلاة الخلق ح) وأنّهما من أسباب الّرّزق.
- قوله: ( كلمتان ): أي جملتان مفيدتان، وفيه إطلاق الكلمة على الكلام، وهو مثل قولنا عن ( لا إله إلاّ الله ) كلمة الإخلاص وكلمة الشهادة.
- قوله: ( خفيفتان على اللّسان ) قال الطّيبي رحمه الله: الخفّة مستعارة للسّهولة، شبّه سهولة جريان هذا الكلام على اللسان بما يخفّ على الحامل من بعض المحمولات فلا يشقّ عليه.
- قوله: ( ثقيلتان في الميزان ): فأهل السنّة مجْمِعُون على الإيمان بالميزان؛ لقوله تعالى:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئا} [الأنبياء: من الآية47]، وقوله:{وَالوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [الأعراف:8].
وأهل السنّة أيضا على أنّ له كفّتين على الحقيقة.
واختلفوا في الشّيء الموزون على أقوال:
فقيل: إنّ الأعمال نفسها تتجسّم عند الميزان، أخذا بالظّاهر.
وقيل: ثواب العمل يتجسّد ويوزن، كما يتجسّد ثواب القراءة وغير ذلك.
وقيل: توزن صحائف الأعمال، ويدلّ عليه حديث البطاقة والسجلاّت.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:" الصّحيح أنّ الأعمال هي الّتي توزن، وقد أخرج أبو داود والتّرمذي وصحّحه ابن حبّان عن أبي الدّرداء رضي الله عنه مرفوعا: (( مَا يُوضَعُ فِي المِيزَانِ يَوْمَ القِيَامَةِ أَثْقَلُ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ )).
والصّواب أن يقال بما دلّت عليه الأحاديث كلّها:
فالأعمال توزن لظاهر الأحاديث، والصّحائف توزن لحديث البطاقة، وإنّما تثقل بثوابها، فكان الثّواب هو الثّقيل.
وهناك وزن آخر للعباد دلّ عليه ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريْرَةَ رضي الله عنه عن رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قال:
(( إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ العَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ القِيَامَةِ، لَا يَزِنُ عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ ))، وقال: اقرَءُوا:{فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا}.
وما رواه أحمد بسند حسن - كما في حاشية الشّيخ الألباني على "الطّحاويّة" رقم (571)- عن ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه:
أنّهُ كَانَ يَجْتَنِي سِوَاكًا مِنْ الْأَرَاكِ، وَكَانَ دَقِيقَ السَّاقَيْنِ، فَجَعَلَتْ الرِّيحُ تَكْفَؤُهُ، فَضَحِكَ القَوْمُ مِنْهُ، فقالَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( مِمَّ تَضْحَكُونَ ؟)) قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللهِ، مِنْ دِقَّةِ سَاقَيْهِ. فقالَ: (( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُمَا أَثْقَلُ فِي المِيزَانِ مِنْ أُحُدٍ )).
قال الحافظ رحمه الله:" وقد سئل بعض السلف عن سبب ثقل الحسنة وخفّة السيّئة ؟ فقال: لأنّ الحسنة حضرت مرارتها، وغابت حلاوتها، فثقلت، فلا يحملنّك ثقلها على تركها، والسيّئة حضرت حلاوتها وغابت مرارتها فلذلك خفّت فلا يحملنك خفّتها على ارتكابها" اهـ.
- قوله: ( حبيبتان إلى الرّحمن ): حبيبة أي: محبوبة، بل سيأتي أنّهما أحبّ الكلام إلى الله.
فهي محبوبة لله تعالى لما تضمّنته من التّنزيه مع الحمد والتّعظيم، فالتّنزيه فيه نفي صفات النّقص يقابل قوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}.
والحمد والتّعظيم فيه إثبات صفات الكمال فيقابل قوله تعالى:{وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}.
قال ابن تيمية رحمه الله في "الفتاوى الكبرى" (2/312):" وقرن بين الحمد والتّعظيم كما قرن بين الجلال والإكرام، إذ ليس كلّ معظّم محبوبا محمودا، ولا كلّ محبوب محمودا معظّما، وقد تقدّم أنّ العبادة تتضمّن كمال الحبّ المتضمّن معنى الحمد، وتتضمّن كمال الذلّ المتضمّن معنى التّعظيم ". اهـ.
وبذلك فهو تعالى يحبّ قائلها.
وخصّ الرّحمن من الأسماء الحسنى للتّنبيه على سعة رحمة الله، حيث يجازى على العمل القليل بالثّواب الجزيل.
ويمكن أن يقال إنّ من وفّقه الله إلى ذكره فهو المرحوم، ومن لم يوفّق فهو المحروم.
وقد سبق شرح معنى التّسبيح ومعنى ( وَبِحَمْدِهِ ).
- وفي الحديث حثّ على المواظبة على هذا الذّكر، وتحريض على ملازمته، لأنّ جميع التّكاليف شاقّة على النّفس، وهذا سهل، ومع ذلك يثقل في الميزان كما تثقل الأفعال الشاقّة، فلا ينبغي التفريط فيه.
- وفي الحديث جواز السّجع إذا وقع بغير كلفة.
الحديث الثّاني:
عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم:
(( أَلَا أُخْبِرُكَ بِأَحَبِّ الْكَلَامِ إِلَى اللهِ ؟ )). قلتُ: يا رسولَ اللهِ، أَخْبِرْنِي بِأَحَبِّ الكَلَامِ إِلَى اللهِ ؟ فقالَ:
(( إِنَّ أَحَبَّ الْكَلَامِ إِلَى اللهِ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ )).
رواه مسلم، والنّسائي، والتّرمذي، إلاّ أنّه قال: (( سُبْحَانَ رَبِّي وَبِحَمْدِهِ )).
وقال: " حديث حسن صحيح "، وفي رواية لمسلم:
أنَّ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم سُئِلَ: أَيُّ الكَلَامِ أَفْضَلُ ؟ قالَ:
(( مَا اصْطَفَى اللهُ لِمَلَائِكَتِهِ أَوْ لِعِبَادِهِ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ )).
الشّرح:
في هذا الحديث وصفٌ لهذه الكلمات بأنّها أحبّ الكلام إلى الله وأفضلها عنده، وفي هذا مسألتان:
المسألة الأولى: قد يقول قائل: إنّ القرآن الكريم هو أفضل الكلام، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: (( فَإِنَّ خَيْرَ الكَلاَمِ كَلاَمُ اللهِ )) فكيف يقال إنّ هذه الكلمات هي أفضل ؟
والجواب من وجهين:
الأوّل: أنّ المقصود من الكلام هنا كلام العباد، لا مطلق الكلام، وهذا يُفهم من المقام، فهو يتحدّث عن ذكر الله تعالى، فيكون المقصود: أفضل الكلام بعد القرآن.
الثّاني: أنّ هذه الكلمات من القرآن، كما لا يخفى، ففضُلت لمعانيها ولأنّها من القرآن.
وهذان الجوابان شمِلهما ما رواه الإمام أحمد عن سَمُرَةَ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( أَفْضَلُ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ أَرْبَعٌ، وَهِيَ مِنْ الْقُرْآنِ، لَا يَضُرُّكَ بِأَيِّهِنَّ بَدَأْتَ: سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ للهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ )).
المسألة الثّانية: هل تلاوة القرآن أفضل أو الإتيان بهذه الأذكار أفضل ؟
فاعلم أنّ الذّكر إمّا مطلق أو مقيّد، فإذا قارنت القرآن بالذّكر المطلق فلا شكّ أنّ القرآن أفضل؛ وذلك لأنّ فيه جميع فضائل الذّكر.
وأمّا إذا كان الذّكر مقيّدا بحال أو وقت فالذّكر أفضل، ألا ترى كيف نهانا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن قراءة القرآن في الرّكوع، والسّجود، وشرع لنا فيهما ذكرَ الله تعالى.
قال الإمام النّووي رحمه الله:" قراءة القرآن أفضل من التّسبيح والتّهليل المطلق، فأما المأثور في وقت أو حال ونحو ذلك فالاشتغال به أفضل، والله أعلم "اهـ.
- قوله صلّى الله عليه وسلّم: (( مَا اصْطَفَى اللهُ لِمَلاَئِكَتِه أَوْ لِعِبَادِه )): أي ما ذكره الله في عدد من آي القرآن الكريم كقولهم:{وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَك} [البقرة: من الآية30]، وقوله تعالى:{يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:20]، وقوله تعالى:{وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [الزّمر: من الآية75]، وقوله:{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [غافر: من الآية7]، وقوله:{فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصّلت:38]، وقوله تعالى:{تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الشورى:5].
فكأنّ الحريص على هذا الذّكر متشبّه بالملائكة، والله كثيرا ما يباهي ملائكتَه بعباده.