ثمّ ختم كتاب الذّكر بالاستغفار اتّباعا للأصل المقرّر: أنّ خير ما يُختم به العمل الصّالح هو الاستغفار، من باب قوله عزّ وجلّ:{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:199]، ومنه استغفارُ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عقِبَ صلاتِه.
وقد قدّم المصنّف رحمه الله الأذكار المطلقة؛ لأنّها هي الأصل، فمن ادّعى مشروعيّةَ ذكرٍ من الأذكار في وقت معيّن، فهو مطالبٌ بالحجّة والبيّنة على ذلك، وإلاّ فإنّه يكون قد ابتدع بدعةً ضلالةً.
ثمّ نراه رحمه الله قد قدّم كلمةَ التّوحيد؛ لأنّها الكلمة الّتي قامت عليها السّموات والأرض، وخلقت لأجلها الجنّة والنّار، وانقسم النّاس بسببها إلى أبرار وفجّار، ومؤمنين وكفّار، ثمّ إنّه لا تصحّ أيُّ عبادة إلاّ بعدَ النّطق بها بإخلاص وصدق، وكفاها فضلاً أنّها تُنْجي صاحبَها من النّار.
ومعنى ( لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ ) أي: لا يستحقّ العبادةَ إلاّ الله وحده؛ لأنّه وحده الّذي له صفات الكمال، ونعوت الجلال الّتي بها يستحقّ أن يُحبّ غاية الحبّ، ويُعظّم غاية التّعظيم.
والنّطق بها إمّا:
أ) واجب وشرط في الإسلام.
ب) وإمّا مندوب، يقولها العبد ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
فبدأ المصنّف بما هو أولى، وما شأنه أعلى، وهو أنّ النّطق بها شرط من شروط الإيمان ولا يصحّ إيمان أحد إذا ترك النّطق بها وإن اعتقدها.
- الأدلّة على أنّ النّطق بالشّهادة شرط في الإيمان والإسلام: من ذلك:
- قول الله تعالى:{قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} [البقرة: من الآية136]، وقال بعدها:{فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} [البقرة: من الآية137]، فدلّ ذلك على أنّه لا يتمّ إيمانٌ إلاّ بقولها.
- وروى البخاري ومسلم عن أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ )).
- وروى مسلم عن أبي هريْرةَ رضي الله عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ )). [انظر "المنهاج في شعب الإيمان" (1/26)].
وها هو أبو طالب، كان يعلم ويصدّق النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ولكنّه أبى النّطق بها، فكان من الكافرين بالله سبحانه.
- شروط لا إله إلاّ الله:
فإنّ كلمة ( لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ ) سببٌ لدخول الجنّة والنّجاة من النّار، ولكنّ وجودَ السّبب لا يكفي لذلك، بل ثمّة شروط لا بدّ من تحقيقها.
ونظائر ذلك أكثر من أن تُحصَى، فالبنوّة - مثلا - سببٌ من أسباب الميراث، ولكنّها لا تكفي لثبوته، حتّى تتوفّر الشّروط وتزول الموانع.
فكذلك الجنّة، فإنّه لا يرثُها أحدٌ حتّى تتوفّر الشّروط، وهي ما تتناوله بعض أحاديث الباب.
الشّرط الأول: الكفرُ بما يُعبد من دون الله عزّ وجلّ.
لما رواه مسلم عن طَارقِ بنِ أَشْيَمَ بنِ مسعودٍ رضي الله عنه قال: سمعْتُ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يقولُ: (( مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ، حَرُمَ مَالُهُ وَدَمُهُ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ ...)).
ومن أمعن النظر في الحديث وجد أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يجعل التلفّظ بها عاصماً للدّم والمال، ولكن لا بدّ أن يُضيف إلى ذلك الكفرَ بما يُعبد من دون الله، ومن ذلك دعاء الأموات، والذّبح لهم، والاستعانة بهم، وغير ذلك ممّا هو من مظاهر الشّرك.
لذلك قال تعالى:{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ} [البقرة من الأية: 256]، فقدّم الكفر بالطّاغوت على الإيمان بالله، فلا إيمان بالله إلاّ بعد الكفر بغيره، وهذا ما تشير إليه كلمة التّوحيد حيث بدأت بنفي الألوهيّة عن غير الله، ثمّ أثبتتها له وحده لا شريك له.
الشرط الثّاني: الإخلاص.
لما رواه البخاري عن عِتْبَانَ بن مالكٍ رضي الله عنه قال: قال النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم: ((... إِنَّ اللهَ قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ ...)).
وفي أوّل أحاديث الباب بيانٌ لذلك، كما سيأتي شرحه إن شاء الله.
فالإخلاص هو أن يدخل في الإسلام وهو راضٍ بأنّ الله تعالى ربّه، لا يُجارِي النّاس في ذلك ولا يُداري.
وبهذا الشّرط خرج المنافقون.
الشرط الثالث: العلم بمعناها.
لما رواه الإمام أحمد عن عُثمانَ بنِ عفَّانَ رضي الله عنه عنْ النّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قالَ: (( مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ )). [صحيح الجامع (6552)].
ولذلك تسمّى هذه الكلمة ( شهادة )، ولا يمكن أن تقبل شهادةُ أحدٍ لا يعلم ما يقول، قال تعالى:{إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86]، أي شهدوا أن (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) بقلوبهم وليس بألسنتهم فقط.
وقال سبحانه:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ} [محمّد 19]، وقال:{شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران 18]. ولمّا كان لفظ العلم يحتمل الظنّ، كان:
الشرط الرابع: اليقين.
لما رواه مسلم عن أبى هريرَةَ رضي الله عنه أنَّ النّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم قالَ لهُ: (( مَنْ لَقِيتَ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الحَائِطِ يَشْهَدُ أَنْ لاَ اِلَهَ إِلاَّ اللهُ مُسْتَيْقِناً بِهَا قَلْبُهُ فَبَشِّرْهُ بِالجَنَّةِ )).
فاشترط اليقين الّذي يُنافي الرّيب والشكّ؛ لذلك قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15].
أمّا من أسلم من باب الاحتياط فلا يقبل منه ذلك، كمن قال:
قال المنجّم والطّبيب كلاهـما *** لاَ تُبعث الأموات ! قلت إليكما
إن صحّ قولكما، فلست بخاسر *** أو صحّ قولـي فالخسار عليكما
الشرط الخامس: الصّـدق.
لما في الصّحيحين عن معَاذٍ رضي الله عنه - وهو الحديث الثّالث في الباب - أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم قالَ: (( مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ، إِلا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّار )).
فاشترط في نجاة قائلها من النّار أن يقولَها صِدقاً من قلبه، ومعلوم أنّ الصّدق هو بذل الجهد واستفراغ الوسع في تحقيقها، ومِصداق القول هو العمل.
وفى الصّحيحين من حديث أنسِ بنِ مالكٍ وطلحَةَ بنِ عُبَيْدِ اللهِ فِي قصّة الأعرابيّ - وهو ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه - لمّا سأل رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم عن شرائع الإسلام فأخبره فقال: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا ؟ قَال صلّى الله عليه وسلّم: (( لاَ إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ ))، فقالَ: وَاللهِ لا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلا أَنْقُصُ. فقال صلّى الله عليه وسلّم: (( أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ )). فاشترط الصّدق المنافي للكذب فيما أخبر به.
هذا إلى جانب أحاديث كثيرة تشترط العمل أيضا بشرائع الإسلام، منها:
- ما جاء في الصّحيحين عن أبي أيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ ؟ فقالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم: (( تَعْبُدُ اللَّهَ لا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ )).
- وفى المسند عن ابنِ الخَصَاصِيَّةِ رضي الله عنه قال: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم لأبَايِعَهُ، قالَ: فَاشْتَرَطَ عَلَيَّ شَهَادَةَ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنْ أُقِيمَ الصَّلاةَ، وَأَنْ أُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ، وَأَنْ أَحُجَّ حَجَّةَ الإِسْلامِ، وَأَنْ أَصُومَ شَهْرَ رَمَضَانَ، وَأَنْ أُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ.
فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَمَّا اثْنَتَانِ فَوَاللهِ مَا أُطِيقُهُمَا ! الْجِهَادُ وَالصَّدَقَةُ. فَقَبَضَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يَدَهُ، ثُمَّ حَرَّكَ يَدَهُ، ثُمَّ قَالَ: (( فَلا جِهَادَ وَلا صَدَقَةَ، فَلِمَ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِذًا ؟! ))قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنَا أُبَايِعُكَ، قَالَ: فَبَايَعْتُ عَلَيْهِنَّ كُلِّهِنَّ.
وقيل للحسن رحمه الله: من قال لا إله إلا الله دخل الجنّة، فقال: من قال لا اله إلا الله فأدّى حقّها، وفرْضَها، دخل الجنّة.
وقال الإمام البخاري فِي كتاب "الجنائز" من "صحيحه": ( باب: مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَقِيلَ لِوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ : أَلَيْسَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مِفْتَاحَ الْجَنَّةِ ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنْ لَيْسَ مِفْتَاحٌ إِلَّا لَهُ أَسْنَانٌ، فَإِنْ جِئْتَ بِمِفْتَاحٍ لَهُ أَسْنَانٌ فُتِحَ لَكَ، وَإِلَّا لَمْ يُفْتَحْ لَكَ ).
فلا يُعقَل أن يأتِي أحدٌ إلى أصل من الأصول - وهو التّوحيد - فيجعلَه مجرّد كلمة تقال، وحروفاً ينطقها اللّسان، مستدلاًّ بحديث واحد مجملٍ، غير عابئ بكلّ هذه الأحاديث المفصّلة.
ولو كان الأمر كما قيل، بلا مقتضيات ولا لوازم، ولا تبعات، فما الّذي دعا قريشاً إلى بذل الدّماء والأموال والأولاد في حربها ؟! وكان أسهل شيء عليهم قولها ؟
والله الموفّق لا ربّ سواه.