ذلك الصّحابيّ هو حذيفة بن اليمان رضي الله عنه مع أبيه حُسَيْل ..
فلماذا يرفض النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مشاركتهما ؟!
سؤال بحجم المعركة .. والإجابة بحجم محمّد صلّى الله عليه وسلّم.
ليس المسألة مسألة ثقة، فحذيفة بن اليمان رضي الله عنه فوق كلّ الشّبهات، كيف لا وقد سلّمه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مفاتيح سرّه ؟!
إنّ المسألة مسألة مبادئ وقِيم .. تؤكّد ما ذكرناه قبل، أنّ شعار النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان:" لا تنازل، ولا تحايل ".. إنّه لم يتنازل لأنّه صادق، ولم يتحايل لأنّه أمين.
واستمع إلى السّبب يذكره لنا حذيفة رضي الله عنه، فقد روى مسلم عن حُذَيْفَةَ بنِ اليمَانِ رضي الله عنه قال:
" مَا مَنَعَنِي أَنْ أَشْهَدَ بَدْرًا إِلَّا أَنِّي خَرَجْتُ أَنَا وَأَبِي حُسَيْلٌ، فَأَخَذَنَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ، قَالُوا: إِنَّكُمْ تُرِيدُونَ مُحَمَّدًا. فَقُلْنَا: مَا نُرِيدُهُ، مَا نُرِيدُ إِلَّا الْمَدِينَةَ. فَأَخَذُوا مِنَّا عَهْدَ اللهِ وَمِيثَاقَهُ لَنَنْصَرِفَنَّ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلَا نُقَاتِلُ مَعَهُ، فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم فَأَخْبَرْنَاهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ: (( انْصَرِفَا ! نَفِي لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَنَسْتَعِينُ اللهَ عَلَيْهِمْ )).[1]
جواب بحجم النبوّة .. جواب أعيا كلّ زعيم وداعية بعده .. جواب يلقم حجرا من ينظرون إلى أرنبة أنوفهم مستعجلين الثّمرات..
(( نَفِي لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ )) وهم المشركون الّذين يعبدون الأوثان، ويحاربون الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم .. الّذين خرجوا من ديارهم لطمس معالم التّوحيد وسفك دماء الموحّدين .. الّذين خرجوا لذبح نبيّ الإسلام وتدمير دولته .. ولم يكن شعاره أبدا ما قاله اليهود:{لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران: من الآية75].
ثمّ إذا كان هذا هو تعامله مع الكافرين والمشركين المعاندين .. فما هو حجم معاملته لأخيه المسلم ؟
وتصوّر كيف تغلغل هذا الدّرس في الوفاء بالعهد في صدور المؤمنين ؟
فودّع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حذيفة وأباه رضي الله عنهما، والتفت إلى الجيش، وعاد إلى العمل من جديد.
فسمعوه يقول: (( إِنَّ جَمْعَ قُرَيْشٍ عِنْدَ هَذَا الضِّلَعِ الحمراء من الجبل ))[2].
عندئذ بدأ المشركون في النّهوض مثقَلين، وصداع الخمر يرنّ في رؤوسهم، نهضوا ولا صلاة .. ولا بُشرى من الله .. ولا دعاء .. قلوبهم شتّى وأفكارهم شاردة .. فلا يزال بعضهم لا يرى قتال أبناء العمّ والعشيرة .. وأكثرهم خرج بطرا ورئاء النّاس .. فأغراه قلّة عدد المؤمنين.
روى ابن إسحاق رحمه الله عن أشياخ من الأنصار قالوا:
" لماّ اطمأنّ القوم، بعثوا عمير بن وهب الجمحيّ، فقالوا: احرزوا لنا أصحاب محمّد ! قال: فاستجال بفرسه حول العسكر، ثمّ رجع إليهم فقال: ثلاث مئة رجل، يزيدون قليلا أو ينقصون، ولكن أمهلوني حتّى أنظر أللقوم كمين أو مدد ؟ قال: فضرب في الوادي حتّى أبعد، فلم ير شيئا، فرجع إليهم فقال: ما وجدت شيئا، ولكن قد رأيت يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا ! نواضح يثرب تحمل الموت النّاقع[3] ! قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ إلاّ سيوفهم، والله ما أرى أن يُقتَل رجل منهم حتّى يقتل رجلا منكم، فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك ؟ فِرُوا رأيَكم ".
سكت الجميع، وهم يستمعون إلى هذا الوصف المرعب .. وتسلّل من هذا الحشد الصّامت رجل حكيم ذو حزم، وهو حكيم بن حزام، قال ابن إسحاق:
" فلمّا سمع حكيم بن حزام ذلك، مشى في النّاس، فأتى عتبة بنَ ربيعةَ، فقال: يا أبا الوليد، إنّك كبير قريش وسيّدها، والمطاع فيها، هل لك إلى أن تذهب بشرف هذا اليوم ما بقيت ؟ هل لك أن لا تزال تذكر فيها بخير إلى آخر الدّهر ؟
قال: وما ذاك يا حكيم ؟!
قال: إنّكم لا تطلبون من محمّد إلاّ دم ابن الحضرميّ ترجع بالنّاس، وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرميّ.
قال عُتبة: قد فعلت، إنّما هو حليفي، فعليّ عقله، وما أصيب من ماله.. فأتِ ابنَ الخنظلية - والحنظلية أمّ أبي جهل -، فإنّي لا أخشى أن يشجر أمر النّاس غيره.
ثمّ قام عتبة بن ربيعة خطيبا، فقال:
" يا معشر قريش، إنّكم - والله - ما تصنعون بأن تلقوا محمّدا وأصحابه شيئا، والله لئن أصبتموه لا يزال الرّجل ينظر في وجه رجل يكره النّظر إليه: قتل ابن عمّه وابن خاله أو رجالا من عشيرته، فارجعوا أو خلّوا بين محمّد وبين سائر العرب، فإن أصابوا، فذاك الّذي أردتم، وإن كان غير ذلك ألفاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون ".
كان عُتبة حكيما بعيد النّظر .. وكان خائفا على مصير قومه الأسود الّذي يقودهم إليه رجل طائش حاقد كأبي جهل .. إنّه يرى الموتَ سهاما في نظرات النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه رضي الله عنهم.. ويرى العار في قتل أبناء العمّ والعشيرة.. كان يدور بحديثه ذلك على جمله الأحمر يكرّره على من لم يسمعه.
ولا ريب أنّ أسعد النّاس بهذا النّداء كان أميّة بن خلف، ولسان حاله يقول: لله درّك من خطيب مسقع.. لا فُضّ فوك يا ابن عُتبة..
ولم يكن من حول عُتبة هم المثنين على حديثه فحسب، فهذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يرقبه من الجهة الأخرى من بعيد .. لم يعرف من هو ؟ لكنّه أدرك من حركاته أنّها حركات رجل نصوحٍ مشفقٍ على قومه.
قال عليّ رضي الله عنه في تتمّة حديثه في "مسند الإمام أحمد":
" لَمَّا دَنَا الْقَوْمُ مِنَّا وَصَافَفْنَاهُمْ، إِذَا رَجُلٌ مِنْهُمْ عَلَى جَمَلٍ لَهُ أَحْمَرَ يَسِيرُ فِي الْقَوْمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم:
(( يَا عَلِيُّ، نَادِ لِي حَمْزَةَ )) - وَكَانَ أَقْرَبَهُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ -: (( مَنْ صَاحِبُ الْجَمَلِ الْأَحْمَرِ ؟ وَمَاذَا يَقُولُ لَهُمْ ؟ إِنْ يَكُنْ فِي الْقَوْمِ أَحَدٌ يَأْمُرُ بِخَيْرٍ فَعَسَى أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ الْجَمَلِ الْأَحْمَرِ [ إِنْ يُطِيعُوهُ يَرْشُدُوا ]))[4].
فَجَاءَ حَمْزَةُ رضي الله عنه، فَقَالَ: هُوَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَهُوَ يَنْهَى عَنْ الْقِتَالِ، وَيَقُولُ لَهُمْ: يَا قَوْمُ ! إِنِّي أَرَى قَوْمًا مُسْتَمِيتِينَ لَا تَصِلُونَ إِلَيْهِمْ، وَفِيكُمْ خَيْرٌ، يَا قَوْمُ، اعْصِبُوهَا الْيَوْمَ بِرَأْسِي، وَقُولُوا جَبُنَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي لَسْتُ بِأَجْبَنِكُمْ.
كان عتبة خائفا أشدّ الخوف على مجد قريش أن يُدفن في هذا الصّباح الممطر.. كان يرى الموت يُطلّ عليه من رؤوس الجبال.
وقد توجّه في الوقت نفسه حكيم بن حزام إلى أبي جهل ليُثنيه عن الحرب، ولئلاّ يُفسد كلام عُتبة في النّاس، فقال - وهو تتمّة الحديث السّابق -:" فانطلقت، حتّى جئت أبا جهل، فوجدته قد نثل درعا له من جرابها، فهو يهنئها - أي: يهيّئها - فقلت له:
يا أبا الحكم، إنّ عتبة أرسلني إليك بكذا وكذا .. فقال: انتفخ - والله - سَحَرُه[5] حين رأى محمّدا وأصحابه ! كلاّ - والله - لا نرجع حتّى يحكم الله بيننا وبين محمّد، وما بعتبة ما قال، ولكنّه قد رأى أنّ محمّدا وأصحابه أَكْلَةَ جزور وفيهم ابنه، فقد تخوّفكم عليه ".
كان أبو جهل يُحسن استغلال العواطف، وتلبيس الأمور على النّاس .. المهمّ أن يصل إلى غرضه .. وهو تقليب الحقائق، فيحوّل رأي عتبة العاقل إلى جبن وتخاذل .. ويرى - لعنه الله - أنّ جيش المسلمين لن يستغرق الوقت للقضاء عليهم أكثر من وجبة ناقة.
هكذا يرى المسلمين جزورا شهيا على مائدة بدر. ولم يكتف بذلك، بل راح يدغدغ العواطف من جديد.
قال ابن إسحاق:
" ثمّ بعث إلى عامر بن الحضرمي، فقال: هذا حليفك يريد أن يرجع بالنّاس، وقد رأيت ثأرك بعينك، فقم فانشد خفرتك ومقتل أخيك..".
فقام عامر بن الحضرميّ، فصرخ: ( واعمراه .. واعمراه ..)
فحميت الحرب، وحقُب النّاس، واستوثقوا على ما هم عليه من الشرّ، وأفسد على النّاس الرّأي الّذي دعاهم إليه عتبة ".
وهنا يفقد أميّة بن خلف آخر أمل له في الحياة..لن يتركه ابن الحنظليّة حتّى يهلك .. فلم يبق له إلاّ حبل عتبة، فلا بدّ أن يُصرّ على الرّجوع..
" فلمّا بلغ عتبةَ قولُ أبي جهل: ( انتفخ - والله - سحره ) قال: سيعلم مصفرّ استِه[6] من انتفخ سحره، أنا أم هو ؟ ".
وفي رواية عليّ رضي الله عنه عند أحمد:
" فَسَمِعَ ذَلِكَ أَبُو جَهْلٍ، فَقَالَ: أَنْتَ تَقُولُ هَذَا ؟ وَاللَّهِ لَوْ غَيْرُكَ يَقُولُ هَذَا لَأَعْضَضْتُهُ، قَدْ مَلَأَتْ رِئَتُكَ جَوْفَكَ رُعْبًا !
فَقَالَ عُتْبَةُ: إِيَّايَ تُعَيِّرُ يَا مُصَفِّرَ اسْتِهِ ؟ سَتَعْلَمُ الْيَوْمَ أَيُّنَا الْجَبَانُ..
وهكذا استطاع أبو جهل أن يُضرم النّار في قلب عُتبة، وأن يحوّل ذلك القلب الهادئ إلى بركان ثائر.
وبدأت المعركة بعد ذلك.
[1] قال الإمام النّووي رحمه الله:" أمّا قضية حذيفة وأبيه، فإنّ الكفّار استحلفوهما لا يقاتلان مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في غزاة بدر، فأمرهما النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالوفاء، وهذا ليس للإيجاب، فإنّه لا يجب الوفاء بترك الجهاد مع الإمام ونائبه، ولكن أراد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن لا يشيع عن أصحابه نقض العهد، وإن كان لا يلزمهم ذلك؛ لأنّ المُشيع عليهم لا يذكر تأويلا ".اهـ
[2] الضّلع من الجبل: هو الجبل الصّغير المستطيل.
[3] النّاقع: يطلق على معان ومنها-كما في "اللّسان"-: الدّائم، من " النّقع ".
[4] ما بين المعقوفتين للبزّار (2/313-زوائد) بإسناد جيّد.
[5] السَّحر: الرّئة وما حولها ممّا يعلق بالحلقوم من فوق السرّة، و: انتفخ سحَرُه كناية عن الخوف.
[6] قولهم في الشّتم: فلان مصفرّ استه: هو من الصّفير، لا من الصّفرة، أي ضَرَّاط، وهو كناية عن الجبن والخور.