الاثنين 04 ربيع الأول 1432 هـ الموافق لـ: 07 فيفري 2011 09:57

- الشيخ مبارك الميلي رحمه الله في سطور

الكاتب:  الشّيخ محمّد حاج عيسى
أرسل إلى صديق

بعد ستّ وستّين سنة من وفاته، نتذكّر قول الإمام ابن باديس رحمه الله فيه:

"فليس والله كفاء عملك أن تشكرك الأفراد، ولكنَّ كفاءه أن تشكرك الأجيال، وإذا كان هذا في الجيل المعاصر قليلا ، فسيكون في الأجيال الغابرة كثيرا، وتلك سنّة الله في عظماء الأمم ونوابغها، ولن تجد لسنة الله تبديلا " [" إدارة الموقع "].

1- هو الشّيخ مبارك بن محمّد بن رابح الميلي، نسبة إلى منطقة جبال " الميليّة "، الّتي كانت مدينة " ميلة " مركزها الإداري آنذاك، ولقبه ولقب أسرته " براهيمي ".

2-ولد في4 محرّم 1316هـ الموافق لـ 25 ماي سنة 1898م في قرية أَرمامن، التّابعة لدوار " أولاد امبارك " بجبال الميلية.

توفّي والده، ثمّ والدته، كلاهما في سنة 1902م، فكفله جدّه. وقد التحق بكُتّاب القرية، فحفظ القرآن، وتعلّم القراءة والكتابة.

وكان جدّه رجلا متديّنا، محبّا للعلم، فكان يُرَغِّبه في مواصلة التعلّم والرّحلة في سبيله، حتّى يصير عالما.

ولكن لمّا توفّي جدّه سنة 1908م وانتقلت كفالته إلى أحد أعمامه، سدَّ في وجهه باب العلم، فضلا عن الرحلة في طلبه، وألزمه بالبقاء في قريته، يعمل في الأرض فلاّحا وراعيا للأبقار.

3- لمّا بلغ سنّ الخامس عشْرة سافر هاربا إلى زاوية قريبة من قريته، فلمّا علم عمُّه بمكان وجوده سارع إليه، فأرجعه إلى قريته، وشدّد عليه الرّقابة، فانتظر حتّى حلّ فصل الشّتاء، وكست الثّلوج الجبال، ليفرّ مرّة أخرى قاصدا معهد " الزّاهر " بمدينة ميلة، الّذي كان يدرّس به الشّيخ محمّد بن معنصر الميلي، (وهو من قدماء الإصلاحيّين )، وقد قبله هذا الشيخ في معهده، وتوسّط له عند أحد أغنياء المدينة ليتكفّل بنفقته.

4- لازم الشّيخ محمّد بن معنصر الميلي مدّة 6 سنوات، فدرس عليه مختلف الفنون الشرعيّة.

5- وفي سنة 1918م توجّه إلى قسنطينة قصد ملازمة الشّيخ ابن باديس رحمه الله والأخذ عنه، فدرس عليه مدّة، وشجّعه وأعانه على الرّحلة إلى تونس، حيث حصل على شهادة التّطويع، وعاد إلى الجزائر سنة 1925م.

6- بدأ العمل الدّعوي في قسنطينة إلى جانب شيخه ابن باديس رحمه الله يشاركه في الجامع الأخضر، وفي مكتب التعليم العربي.

ولما أسّس ابن باديس رحمه الله " المنتقد "، ثمّ " الشّهاب "، تولّى عِبْء التّحرير فيهما، ونشر عدّة مقالات، وبسبب قوّة المقالات الّتي كان ينشرها بإمضاء مستعار (بيضاوي)، خطّط بعض الطّرقية لاغتيال ابن باديس رحمه الله، إذ رفض الكشف عن هوية كاتبها كما رفض إيقافه.

7- وفي سنة 1927م انتقل إلى الأغواط بإشارة من ابن باديس، فتولّى الخطابة والتّدريس في المسجد العتيق، ثمّ أسّس بها "مدرسة الشّبيبة" الّتي تولّى إدارتها.

وتعرّض هناك لمحاولة اغتيال فاشلة من قِبَل الطّرقيّين، كما توالت عليه ضغوط الإدارة الفرنسية، فاضطُرَّ سنة 1933للانتقال إلى " ميلة " ليتابع نشاطه بها.

8- وفي مدينة ميلة أسّس " مدرسة الحياة "، ومسجدا جامعا، تولّى الخطابة والتّدريس فيه، وأسّس أيضا ناديا للشباب، وكثَّف من جولاته الدّعوية في دائرتي " الميلية "، و" الطاهير ".

9- ولمّا تأسست " جمعيّة العلماء " عام 1931م، انتُخِب عضوا في إدارتها وأمينا لماليّتها، وبقي كذلك إلى عام 1937، حيث تولّى إدارة " البصائر " إلى غاية 1939عندما توقّفت بسبب الحرب.

10- من مؤلّفاته:

- " رسالة الشّرك ومظاهره "، وهي مطبوعة عدّة طبعات في الجزائر والحجاز.

- " تاريخ الجزائر في القديم والحديث "، وهو أوّل كتاب أُفرِد للتّاريخ الجزائري، وكان جامعا، وابتدأه رحمه الله من العصر الحجري، ووصل فيما كتب وأخرج للناس إلى القرن السّادس عشر ميلادي.

11- كان الشّيخ رحمه الله قد أصيب بداء السّكري، وقد عانى منه مدّة طويلة، ومع ذلك لم يُثْنِ ذلك من عزمه، ولا حدّ من نشاطه، وما تغلّب عليه المرض إلاّ وهو في ميدان العمل والتّضحية.

وقد شاهده الشيخ أحمد حمّاني رحمه الله يوم أسقطه المرض أرضا في إدارة مدرسة التربية والتعليم بتاريخ 24 صفر 1364/ 8فبراير 1945م، وتوفّي في اليوم التّالي في " ميلة "، ودفن بها رحمه الله.

من ثناء شيوخه وأقرانه عليه:

1- لمّا اطّلع العلاّمة ابن باديس رحمه الله على الجزء الأوّل من كتابه " تاريخ الجزائر " كتب له تقريظا جاء فيه :

" أخي مبارك، من أحيا نفسا واحدة فكأنّما أحيا النّاس جميعا، فكيف بمن أحيا أمّة كاملة ؟ أحيا ماضيَها وحاضرها، وحياتهما عند أبنائها حياة مستقبلها، فليس والله كفاء عملك أن تشكرك الأفراد، ولكن كفاؤه أن تشكرك الأجيال، وإذا كان هذا في الجيل المعاصر قليلا ، فسيكون في الأجيال الغابرة كثيرا، وتلك سنّة الله في عظماء الأمم ونوابغها، ولن تجد لسنة الله تبديلا ".

2- وقال الشّيخ البشير الإبراهيمي رحمه الله معرِّفا به في مقال طويل:

" مبارك الميلي: حياة كلّها جِدٌّ وعمل، وحَيٌّ كلّه فكر وعلم، وعمره كلّه درس وتحصيل، وشابّ كلّه تَلَقٍّ واستفادة، وكهولة كلّها إنتاج وإفادة، ونَفْسٌ كلّها ضمير وواجب، وروح كلّها ذكاء وعقل، وعقل كلّه رأي وبصيرة، وبصيرة كلّها نور وإشراق، ومجموعة خلال سديدة وأعمال مفيدة، قلَّ أن اجتمعت في رجل من رجال النهضات، فإذا اجتمعت هيَّأت لصاحبها مكانه في قيادة الجيل، ومهَّدت له مقعرة في زعامة النهضة ... وفقدته المحافل الإصلاحيّة، ففقدت عالما بالسّلفية الحقّة عاملا بها، صحيح الإدراك لفقه الكتاب والسنّة، واسع الاطّلاع على النّصوص والفهوم، دقيق الفهم لها والتمييز بينها والتطبيق لكلياتها، وفقدته دواوين الكتابة، ففقدت كاتبا فحلَ الأسلوب، جزل العبارة، لبقا في توزيع الألفاظ على المعاني ..."اهـ.

3- واطّلع أمير البيان شكيب أرسلان على كتابه " تاريخ الجزائر "، فقال في رسالة وجّهها إلى الشّيخ الطيب العقبي رحمه الله:

" وأمّا " تاريخ الجزائر "، فو الله ما كنت أظنّ في الجزائر من يفري هذا الفري، ولقد أعجبت به كثيرا، كما أنّي مُعْجَب بكتابة ابن باديس، فالميلي، وابن باديس، والعقبي، والزاهري، حملة عرش الأدب الجزائري الأربعة "اهـ.

4- وقال الشّيخ العربي التبسي رحمه الله في تقديمه لكتاب " الشّرك ومظاهره ":

" فنهض بهذا الفرض الكفائي الأستاذ المحقّق، مؤرّخ الجزائر، الشّيخ مبارك الميلي أمين مال " جمعيّة العلماء "، وجمع رسالة تحت عنوان: "رسالة الشّرك ومظاهره"، خدم بها الإسلام ونصر بها السنّة، وقاوم بها العوائد الضالّة، والخرافات المفسدة للعقول "اهـ.

5- وقال فيه أبو يعلى الزّواوي رحمه الله:" صديقنا العلاّمة المؤرّخ، ابن تيمية عصره، محارب الإشراك والبدع ".

6- وقال الأستاذ أحمد توفيق المدني رحمه الله:

" كنت أُكِنُّ لمبارك الميلي العلاّمة الجليل احتراما عظيما، وتقديرا كبيرا، وحبّا جمّا، إنّه الرّجل المثالي الحرّ الأبيّ، الّذي وضع حياته كلّها - منذ رجع من الزيتونة عالما جليلا - في خدمة دينه، وشعبه، مدرّسا ومحاضرا، ومفكّرا عميقا، ومرشدا نصوحا. كان نحلة منتجة لا تراها إلا ساعية وراء رحيق زهرة، أو واضعة مع جماعتها عسلا شهيا ".

7-قال أحمد حماني رحمه الله:" وكان قلمه شديدا في حرب الضّلالات والبدع والخرافات، ودجل بعض المنتسبين إلى التصوّف، وخصوصا دعاة الحلول ووحدة الوجود، لبُعدِهم عن الحقّ في القول، والاعتقاد، والسّلوك ".

من خصال الشيخ الميلي رحمه الله:

أولا : علو الهمة في الطلب العلم.

يقول البشير الإبراهيمي رحمه الله:" إنّ الّذي بلغ به تلك المكانة من العلم أربعة أشياء، ما اجتمعت في طالب علم إلاّ رفعته بالعلم إلى تلك المنزلة: استعدادٌ قويّ، وهمّة بعيدة، ونَفَس كبير، وانقطاع عن الشواغل الفكرية والجسمية يصل إلى حد التبتل. وهذه الأخيرة –لعمري- هي بيت القصيد ".

ثم يشرح هذه الأخيرة بقوله:" إنّ كلّ ما شاهدناه في أخينا مبارك، وشهدنا به، هو نتيجة لأسباب مترتّبة في نفسها وفي نفسه، وهي استعداده للعلم، وإيمانه به، واعتقاده لشرفه ومنزلته، واجتهاده في تلقّيه، وانقطاعه لتحصيله، وإخلاصه في طلبه، وحبس الدّقائق والأنفاس عليه وحده؛ حتّى ما يضارّه بشاغل، ولا يزاحمه بعائق، ثمّ صرف الهمّة كلّها إلى الاستزادة منه بالمطالعة والقراءة "اهـ.

ثانيا: الصبر على الأذى في سبيل الدعوة.

شأنه شأن كلّ داعٍ إلى الحقّ، حاملٍ لراية التّوحيد في التعرض للبلاء في سبيل الدعوة إلى الله، ولمّا كان الشّيخ مبارك الميلي رحمه الله من أكثر الرّجال نشاطا ودعوة وجهرا بالحقّ، فقد كان من أكثرهم تعرُّضا لذلك.

فقد تعرّض - كما سبق ذكره إلى محاولة اغتيال، لمّا كان في الأغواط، كما تعرّض للنيل من عرضه ودينه في جهات كثيرة من الوطن، وقد كتب مقالا سنة 1355هـ (1936م) يقول فيه:

" لم أر الطّرقية اشتدّت في حربي، وبثِّ الدّعايات الواسعة ضدّي، واختلاق الأقاويل المنفّرة منّي، كما رأيته في هذه السنة، ولكنّ الثّقة بالله أجدى من دعايات المفسدين، وقد قال الله تعالى واعدا من يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر:{لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى}، وكذا رأينا في هذه الغمرة صدق وعد الله، فهم لم يضرّونا بأراجيفهم، إلاّ أذى، ولم يزيدونا إلاّ إقداما ".

ثالثا: الاهتمام بأمر الإخوان.

يقول محمّد بن مبارك الميلي:

" وذات ليلة، بينما كان معنا والدُنا الشّيخ مبارك الميلي، فتوقّف فجأة عن الضّحك، وعَلَتْ وجهَه سحابةٌ من الكآبة والحزن، ولمحْتُ خلالَها دمعةً جاهد في إخفائها، فلم تظهر للآخرين، ثمّ أرسل زفرة حارّة لم نأبه لها أن تعكّر الجوّ، وقال: أنا بين أهلي وأولادي، والشّيخ البشير الإبراهيمي هناك منفيّ في أعماق الصّحراء ! بعيدا عن أهله وذويه ؟!

ولم نر منه ابتسامة بعد ذلك، وأكمل السّهرة معنا، وكأنّه غائب، لا يسمع لقول ولا يهمّ بسؤال "اهـ.

ويقول أيضا:" ولو أردت أن أسترسِل في هذا الموضوع لما أعجزني الحديث، فأنا أذكر جيّدا فرحته العظمى، حيث رآني ذات يوم قد دخلت الدّار حاملا برقية، كأنّه أدرك ما فيها قبل أن أخبره، فبادرني بالسّؤال: أليس قد أُطلِق سراح الشّيخ العربي التبسي ؟ ولما أجبته أن: نعم، مدَّ يده لي بنقود، كأنّي أنا السّبب في ذلك، ولا يزال ذلك اليوم مصحوبا في ذهني بصورة لأكلة شهية صنعت لنا احتفالا بهذه المناسبة ...

كما أذكر حيرتَه ذات يوم، وقد تملّكه الغضب، وصار يعاملنا بلونٍ من القسوة، ونوعٍ من الشدّة لم نعهدها منه، حتّى إذا لمحت علي جدتي شيئا من الدهشة لهذه الثورة المفاجئة، قالت لي في همس: لا تعجب، فقد صدر الأمر بنفي الشّيخ خير الدّين "اهـ.

رحمه الله رحمة واسعة.

أخر تعديل في الاثنين 04 ربيع الأول 1432 هـ الموافق لـ: 07 فيفري 2011 11:06
الذهاب للأعلي