الاثنين 08 رمضان 1432 هـ الموافق لـ: 08 أوت 2011 23:58

- شرح كتاب الذّكر (14) حال الغافل عن الذّكر، وحكم الصّلاة على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم

الكاتب:  عبد الحليم توميات
أرسل إلى صديق

قال الإمام المنذريّ رحمه الله:

باب: التّرهيبُ من أن يجلسَ الإنسانُ مجلسًا لا يُذكرُ اللهُ فيه، ولا يُصلَّى على نبيِّه محمّد صلّى الله عليه وسلّم

- شرح التّبويب:

بعدما ذكر المصنّف رحمه الله التّرغيبَ في ذكر الله، والاجتماعِ عليه، ذكر التّرهيبَ من الغفلةِ عن ذكر الله، وعن الصّلاة على رسوله صلّى الله عليه وسلّم.

وقد كثرت الآيات المرهّبة عن الغفلة عن ذكر الله تعالى

أ) فمنها ما يبيّن أنّ الغفلة عن ذكر الله كان دأبَ الّذين قست قلوبهم من أهل الكتاب، قال تعالى:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16].

وتأمّل الفرق بين خطابه إليهم:{اُذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ}، وخطابه لأمّة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}، فأمر هذه الأمّة أن يذكروه من غير وساطة، وأمر غيرهم أن يتوصّلوا إلى ذكره عن طريق نعمه.

ب) ومن الآيات ما فيه ترتيب العقاب الشّديد عن الغفلة عن ذكر الله فقال عزّ وجلّ:{فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الزمر: من الآية22].

ج) ومنها ما فيه أمر بالإعراض عن الغافلين، ووصفهم بأنّهم غير مهتدين، فقال سبحانه:{فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} [النّجم:30]، وقال: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف: من الآية28]، وقال:{وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف:205]. وغيرها من الآيات.

أمّا الأحاديث، فمن أعظمها وقعاً على النّفوس أحاديث الباب الّتي ذكرها المصنّف رحمه الله تعالى.

- الحديث الأوّل:

عن أبي هريرةَ رضي الله عنه عن النّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قال:

(( مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا لَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهِ، وَلَمْ يُصَلُّوا عَلَى نَبِيِّهِمْ، إِلَّا كَانَ عَلَيْهِمْ تِرَةً، فَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ )).

[رواه أبو داود، والتّرمذي - واللّفظ له -، وقال:" حديث حسن ". ورواه بهذا اللّفظ ابن أبي الدّنيا والبيهقيّ].

شرح الحديث:

- قوله: ( مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِساً ): لفظ يعمّ كلّ المجالس، قليلها وكثيرها، طويلها وقصيرها.

والذّكر المطلوب هو الذّكر الّذي يُقصَد به التقرّبُ إلى الله وليس الّذي يأتي اعتباطا.

وكلّ مجلسٍ بِحَسَبِه: فمجالس اللّقاء يُذكَر فيها الله بإلقاء السّلام وبحمده تعالى، أمّا مجالس المحادثة لفا بدّ أن يأخذ منها ذكرُ الله جانباً كبيرا منها.

وهذا التّرهيب ليس مختصا بالمجالس مع النّاس، وإنّما يشمل حالتين أخريين سيأتي ذكرهما في الحديث التّالي: حال النّوم، وحال المشي. لذلك ( كَانَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم يَذْكُرُ اللهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ ).

وفي سنن التّرمذي وابن ماجه عن ابنِ عمرَ رضي الله عنه قال: كَانَ يُعَدُّ لِرَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ مِائَةُ مَرَّةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَقُومَ: (( رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الْغَفُورُ )).

- قوله: ( وَلَمْ يُصَلُّوا عَلَى نَبِيِّهِمْ )، فمن العلماء من حمل الحديث على أنّه تخصيص بعد تعميم كما في " تحفة الأحوذي "؛ لأنّ الصّلاة على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من ذكر الله عزّ وجلّ، فهي خبرٌ عن الله وثنائِه على نبيّه صلّى الله عليه وسلّم.

ومنهم من رأى أنّهما متغايران، وأنّ الذّكر المأمور به هو: الذّكر المعهود كتلاوة القرآن، والتّسبيح، والتّكبير، ومذاكرة العلم بالله، ونحو ذلك.

وثمرة الخلاف: أنّه لو اكتفى أحدهم بالصّلاة على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يلحقه اللّوم والعتاب؛ لأنّه ذاكرٌ لله، ومن قال بالقول الآخر رأى أنّه عليه الإتيان بهما جميعا.

وهذا فيه تعظيم لقدر الصّلاة على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والنّصوص في الأمر بها والتّرهيب من تركها كثيرة.

( فصل ) في حكم الصّلاة على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.

فقد اختلف أهل العلم في ذلك على خمسة أقوال:

القول الأوّل: وجوبُها كلّما ذكر اسمُه صلّى الله عليه وسلّم، قاله أبو جعفر الطّحاوي، وأبو عبد الله الحليمي.

ويمكن أن يُستدلّ لهم بما يلي:

- قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].

- ما رواه أحمد والتّرمذي عن الحُسيْنِ بن عليٍّ رضي الله عنه أنّ النّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( الْبَخِيلُ مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ ثُمَّ لَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ )).

ووجه الدّلالة به من وجهين:

أحدهما: أنّ البخل اسم ذمّ، وتارك المستحبّ لا يستحقّ اسم الذمّ، فدلّ على وجولها.

الثّاني: أنّ البخيل هو مانع ما وجب عليه، فمن أدّى الواجب عليه كلّه لم يسمّ بخيلا.

- ما رواه أحمد والتّرمذي أيضا عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ، وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ، وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ أَدْرَكَ عِنْدَهُ أَبَوَاهُ الْكِبَرَ فَلَمْ يُدْخِلَاهُ الْجَنَّةَ )).

وفي رواية لابن حبّان أنّه صلّى الله عليه وسلّم صَعِدَ المنبر فقال: (( آمِينَ، آمِينَ، آمِينَ )) فذكر الحديث المتقدّم وقال فيه جبريل عليه السّلام: (( مَنْ ذُكِرْتَ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ فَمَاتَ، فَدَخَلَ النَّارَ، فَأَبْعَدَهُ اللهُ ! قُلْ آمِينَ، فَقُلْتُ: آمِينَ )).

- ما رواه البيهقيّ عن محمّد بن الحنفية - وله شواهد كما في "الصّحيحة" - أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ خَطِئَ طَرِيقَ الجَنَّةِ )).

القول الثّاني: تجب الصّلاة عليه في العمر مرّة واحدة؛ لأنّ الأمر المطلق لا يقتضي تكرارا.

وهذ محكيّ عن أبي حنيفة، ومالك، والثّوري، والأوزاعي، قال القاضي عياض وابن عبد البرّ رحمهما الله:" وهو قول جمهور الأمّة ".

القول الثّالث: تجب في كلّ صلاة عند التشهّد الأخير، وهو قول الشّافعي، وأحمد في آخر الرّوايتين عنه، وغيرهما.

القول الرّابع: الأمر بالصّلاة على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أمر استحباب، لا أمر إيجاب. وهذا قول الطّبريّ رحمه الله وطائفة، وادّعى الطّبريّ الإجماع عليه، وهذا على أصله؛ فإنّه إذا رأى الأكثرين على قول جعله إجماعا يجب اتّباعه.

القول الخامس: وهو أنّها تجب في المجلس مرّة واحدة، وتستحبّ باقي المجلس.

قال الإمام التّرمذي بعدما روى حديث: (( رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ ... )):" ويُروى عن بعضِ أهلِ العلمِ قال: إذا صلّى الرّجلُ على النّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم مرّةً في المجلسِ أجزأ عنه ما كان في ذلكَ المجلسِ "اهـ.

التّرجيح:

لا شكّ أنّ القول بالوجوب كلّما ذكر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ضعيف، لما فيه من المشقّة والحرج الشّديد، وأنّ القول بأنّها تجب في العمر مرّة واحدة أضعف من الأوّل، فإنّها قد تجب في مواضع.

والصّواب هو القول الّذي ذكره التّرمذي رحمه الله تعالى، أنّ الصّلاة على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم واجبة في المجلس ولو مرّة؛ لأجل التّرهيب الشّديد الوارد في الأحاديث السّابقة.

- قوله: ( إِلاَّ كَانَ ) أي ذلك المجلس.

- ( عَلَيْهِمْ تِرَةً ) بكسر التّاء وتخفيف الرّاء: والتِّرَة من الوَتْر، وهو النّقص كما قال الإمام المنذري، ومنه قوله تعالى:{لَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالُكُمْ}، وقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( مَنْ فَاتَتْه صَلاَةُ العصْرِ فَكَأنّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ ))، ومنه قول العرب: وتره حقّه، أي: نقصه وهو سبب الحسرة.

والمراد بها هنا: النّدامة والحسرة كما سيأتي في لفظ آخر، قال التّرمذي عقب روايته هذه:" ومعنى قوله: ( تِرَةً ) يعني: حسْرةً وندامةً ".

وهل هذه النّدامة تعتري العبد يوم القيامة في أرض الحشر، أو في عرصات يوم القيامة ؟

الجواب: أنّ هذا حال أهل الجنّة، كما سيأتي في حديث.

- ( فَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ ) أي بذنوبهم السّابقة. وليس المقصود أنّ الّذي يجلس مجلسا لا يذكر الله فيه يُعذّب، وإنّما يعذّب بما يقوله من فُحْشٍ ونحوه، وهذا مقابل الجالسين لذكر الله فإنّهم يقال لهم: (( قُومُوا مغفوراً لكُم )).

- ( وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ ): أي فضلا منه ورحمة، قال في "عون المعبود":" وفيه إيماء بأنّهم إذا ذكروا الله لم يعذّبهم حتما، بل يغفر لهم جزما".

***

الحديث الثّاني:

وعنه رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم:

(( مَا قَعَدَ قَوْمٌ مَقْعَدًا لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ عزّ وجلّ وَيُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم إِلَّا كَانَ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِنْ دَخَلُوا الْجَنَّةَ لِلثَّوَابِ )).

[رواه أحمد بإسناد صحيح، وابن حبّان في "صحيحه"، والحاكم، وقال: "صحيح على شرط البخاري"].

شرح الحديث:

في رواية: (( لِمَا يَرَوْنَهُ مِنَ الثَّوَابِ ))، والحسرة هنا بمعنى النّدامة واللّهفة، وقد ظنّ بعضهم أنّ هذا مخالف لقول الله تعالى:{لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}.

ولكنّ الصّواب أنّه لا تعارض، لأنّ الحزن المنفيّ هو الحزن الّذي يتألّم به العبد، وهذا حزن بمعنى أنّهم يتمنّون لو ألم يُضيّعوا مجلسا واحدا في غير الذّكر.

***

الحديث الثّالث:

وعنه رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم:

(( مَا مِنْ قَوْمٍ يَقُومُونَ مِنْ مَجْلِسٍ لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ فِيهِ، إِلَّا قَامُوا عَنْ مِثْلِ جِيفَةِ حِمَارٍ، وَكَانَ لَهُمْ حَسْرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ )).

[رواه أبو داود، والحاكم، وقال: " صحيح على شرط مسلم "].

شرح الحديث:

- الجيفة: جثّة الميّت إذا أنتن، يقال: جافت الميتة وجيّفت.

ومعنى قوله صلّى الله عليه وسلّم: (( إِلاَّ قَامُوا عَنْ مِثْلِ جِيفَةِ حِمَارٍ ): أي مثلها في النتن والقذارة، وذلك لما يخوضون من الكلام في أعراض الناس وغير ذلك، أي: إنّ المجلس الّذي يخلو من ذكر الله والصّلاة على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ينتن ويصير قذرا.

***

الحديث الرّابع:

وعن عبدِ اللهِ بنِ مُغَفَّلٍ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم:

(( مَا مِنْ قَوْمٍ اجْتَمَعُوا فِي مَجْلِسٍ فَتَفَرَّقُوا وَلَمْ يَذْكُرُوا اللهَ إِلاَّ كَانَ ذَلِكَ المَجْلِسُ حَسْرَةً عَلَيْهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ )).

[رواه الطّبراني في "الكبير" و"الأوسط"، والبيهقيّ، ورواة الطّبراني محتجّ بهم في "الصّحيح"].

والله تعالى الموفّق، لا ربّ سواه.

أخر تعديل في الثلاثاء 09 رمضان 1432 هـ الموافق لـ: 09 أوت 2011 00:00
عبد الحليم توميات

آخر المواضيع:

الذهاب للأعلي