-
لماذا أصول الاعتقاد ؟
-
لقد ظلّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مكّة ثلاث عشرة سنة وبالمدينة عشرا أخرى يدعو إلى توحيد الله، ويغرس جذوره في أعماق النّفوس، ويبني أسسه ودعائمه في سويداء القلوب، ولم يفتُر عن ذلك لحظة واحدةً.
-
قال الشّيخ مبارك الميلي رحمه الله في " الشّرك ومظاهره " (ص 19):
-
" فلا ترك النبيّ صلّى الله عليه وسلّم التّنديد بالأصنام وهو وحيد، ولا ذهل عنه وهو محصور بالشِّعب ثلاث سنوات شديدات، ولا نَسِيه وهو مختفٍ في هجرته والعدوّ مشتدّ في طلبه، ولا قطع الحديث عنه وهو ظاهر بمدينته بين أنصاره، ولا أغلق باب الخوض فيه بعد فتح مكّة، ولا شُغِل عنه وهو يُجاهد وينتصر ويكرّ ولا يفرّ، ولا اكتفى بطلب البيعة على القتال عن تكرير عرض البيعة على التّوحيد ونَبذ الشّرك.
-
وهذه سيرته المدوّنة وأحاديثه المصحّحة، فتتبّعها تجِد تصديق ما ادّعيناه، وتفصيل ما أجملناه "اهـ.
-
وفي أواخر حياته صلّى الله عليه وسلّم أيّام قوّة الإسلام ترى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يرسل جريرا رضي الله عنه لهدم ذي الخلصة -كما في الصّحيحين عَنْ جَرِيرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( أَلَا تُرِيحُنِي مِنْ ذِي الْخَلَصَةِ ؟))[2] -وَكَانَ بَيْتًا فِي خَثْعَمَ يُسَمَّى كَعْبَةَ الْيَمَانِيَةِ -.
-
قَالَ: فَانْطَلَقْنَا إِلَيْهَا فَكَسَرْنَاهَا، وَحَرَّقْنَاهَا، وَقَتَلْنَا مَنْ وَجَدْنَا عِنْدَهُ، ثُمَّ بَعَثَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم يُخْبِرُهُ، فَقَالَ رَسُولُ جَرِيرٍ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا جِئْتُكَ حَتَّى تَرَكْتُهَا كَأَنَّهَا جَمَلٌ أَجْوَفُ أَوْ أَجْرَبُ، قَالَ صلّى الله عليه وسلّم: (( فَبَارَكَ فِي خَيْلِ أَحْمَسَ وَرِجَالِهَا - خَمْسَ مَرَّاتٍ -)).
-
وفي هذه القصّة ما يلفت انتباهنا إلى أمر غير معهود يفعله النبيّ صلّى الله عليه وسلّم:
-
فقد أخبرنا جرير رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم دعا لرجال أحمس وخيلها خمس مرات، وكان من شأنه صلّى الله عليه وسلّم وعادته أنّه إذا دعا دعا ثلاثا - كما في صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه-، وها هو هنا يدعو خمسا لمعنى اقتضى ذلك، وليس ذلك إلاّ لأنّ جناب التّوحيد أعظم ما يُدعى له.
-
وبقيت العقيدة على صفائها حتّى دخل في دين الله من لم يربط قلبَه على الاستغناء بالوحي الخالص، فأحدث في دين الله ما ليس منه، فراجت المذاهب المنحرفة، وذاعت الأفكار الهدّامة، وبعد أن كان الخلاف بين المسلمين والمشركين، صار بين المسلمين أنفسهم !
-
فافترقوا في مسائل الاعتقاد في الله تعالى، وبرزت جماعات وفرقٌ متباينة في مقاصدها، مختلفة في توجّهاتها، كلّما خرجت جماعة أو فرقة لعنت أختها، فزرعوا في الأمّة افتن والشّرور، والويل والثّبور.
-
وقد نهى الله تعالى عن الإفساد في الأرض، وأعظم الفساد أن تفسد عقائد النّاس، وتصوّراتهم، وأفكارهم.
-
ومن ثمّ كان لزاما على المسلم دراسة أصول اعتقاد سلف هذه الأمّة، لأنّ المرء إذا أتقن الأصول أتقن كلّ ما ينبنِي عليها من فروع، ولقد قرّر العلماء أنّ ( الاختلاف في الدّلائل أصعب وأعظم من الاختلاف في المسائل ) وقالوا: ( ما بُنِي على فاسد فهو فاسد )، وقالوا: (من حُرِم الأصول حُرِم الوصول).
-
- التّعريف بأصول اعتقاد السّلف.
-
* أوّلا: الأصول:
-
في اللّغة هي: جمع أصل، وهو: ما ينبني عليه غيره.
-
وفي الاصطلاح: هي القواعد والضّوابط والقوانين الّتي تُبنى عليها الأحكام.
-
وأصول الاعتقاد نوعان:
-
1- أصول في التلقّي والاستدلال وهي ستّة، ويأتي تفصيلها إن شاء الله.
-
2- أصول الإيمان وهي ستّة أيضا: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر.
-
* ثانيا: ( الاعتقاد ):
-
في اللّغة: لفظ الاعتقاد أو العقيدة مأخوذة من العَقْدِ وهو الرّبط بإحكام، ومنه عقد اليمين والنكاح، قال اللّه تبارك وتعالى:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ}، وقال:{وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَه} [البقرة: من الآية235].
-
في الاصطلاح: الاعتقاد: هو ما يؤمن به الإنسان ويعقد عليه قلبَه جازما به.
-
* ثالثا: السَّلف:
-
في الّلغة: هو كلّ ما مضى وتقدم، ويقال: كن خير خلف لخير سلف، فالسّلف: هم من تقدَّمك من آبائك الذين هم فوقك في السنِّ والفضل، ولهذا سُمي الصدر الأَول من الصحابة والتابعين: السلف الصَّالح.
-
وفي اصطلاح أهل العلم: السّلف هم الصّحابة، والتّابعون، وأتباع التابعين من القرون المفضّلة المشهودِ لهم بالإِمامةِ والفضلِ واتّباعِ السنة.
-
فهناك تحديدان:
-
تحديد زمنيّ: وهم أهل القرون المفضّلة.
-
وتحديد منهجيّ، وهو موافقة الكتاب والسنَّة في العقيدة والأَحكام والسلوك.
-
فكلّ من وافق الكتاب والسُّنَة فهو من أتباع السَّلف، وإن باعد بينه وبينهم المكان والزّمان.
-
ومن خالفهم فليس منهم وإن عاش بين ظهرانيهم.
-
فمعنى " أصول اعتقاد السّلف ": هي القواعد الّتي بُنِيت عليها عقيدة الصّحابة والتّابعين ومن تبعهم بإحسان في باب الإيمان بالله تعالى وأسمائه وصفاته، والملائكة، والكتب، والنبيّين، واليوم الآخر، والقدر.
[1]- " أعلام الموقّعين " (1/5).
[2]- وتأمّل قوله صلّى الله عليه وسلّم: (( أَلاَ تُرْيحُنِي ؟!) .. فالمراد بالراحة راحة القلب، وما كان شيءٌ أتعبَ لقلب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من بقاء ما يشرك به من دون الله تعالى.