الجمعة 14 محرم 1433 هـ الموافق لـ: 09 ديسمبر 2011 17:18

- فصل الشّتاء ربيعُ المؤمن

الكاتب:  عبد الحليم توميات
أرسل إلى صديق

الخطبة الأولى:[بعد الحمد والثّناء] 

فيقول المولى تبارك وتعالى:{أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)}. 

يستفتح الله تعالى هذه الآية بأداة الاستفتاح والتّنبيه، وذلك لنُصغِي إليه الأسماع والآذان، ونفتح له الفؤاد والجنان، ليحدّثك عن وعده لأوليائه، وأنصاره وأحبّائه، أن: لا خوفٌ عليهم فيما هو آت، ولا حزن على ما قد مضى أو فات، ويبشّرهم بشارة ظاهرة، بالسّعادة في الدّنيا والآخرة، {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: من الآية111].

أمّا في الحياة الدّنيا: فقد كتب الله كتابا لا تبديل فيه أنّ أولياءه هم الغالبون فقال:{وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}[المائدة: 56].

أمّا في ساعة توديع الحياة الدّنيا: فقد كتب الله كتابا لا تبديل فيه أنّ أولياءه هم الآمنون، فقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31)} [فصّلت].

 

أمّا يوم القيامة: فقد كتب الله كتابا لا تبديل فيه أنّ أولياءه هم الفائزون:{يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70)} [الزّخرف].

فمن هم أولياء الله ؟

أهم الّذين تُبنى عليهم القِباب ؟ أهُم الذين تبنى عليهم الأضرحة ويُقصَدون دون العزيز الوهّاب ؟

هذا ما شاع لدى عامّة المسلمين قرونا وقرونا طويلة، ظنّوا ولاية الله لعباده إنّما هي لخاصّة النّاس ! وكيف لا وهم لا يتدبّرون كلام الله الّذي فسّر لنا معنى الوليّ فقال:{الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} ؟

أي: إنّ الّذين حقّقوا توحيده والإيمان به ولم يُشركوا به شيئا، {وَكَانُوا يَتَّقُونَ}، فما من شيء أمرهم به إلاّ فعلوه، وما من شيء نهاهم عنه إلاّ اجتنبوه، وإن زلّت بهم الأقدام وضلّت بهم الأفهام تابوا إليه واستغفروه:{إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف:196].

فالصّالحون من عباد الله هم أولياؤه، وأهله وأحبّاؤه.

ولمّا ابتعد أكثر النّاس عن صفات الصّالحين، أضاعوا ما وعدهم الله به أن:{لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} فصاروا من أشدّ النّاس هلعا، وأكثرهم فزعا، وأشدّهم في الحياة طمعا، يُفتنون في كلّ عام مرّة أو مرّتين ثمّ لا يتوبون ولا هم يذّكرون.

{وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} فصار كثير منهم مثالا للحزن والشّقاء، تحت حرّ البأساء والضرّاء.

فالأزمة أزمة أولياء لله، والأزمة أزمة أقوام صالحين:{يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: من الآية104].

ينقصنا عدد كبير من أولياء الله تعالى الّذين تنبعِث من وجوههم أنوار الطّاعة، وتباشير الصّلاح، قال ابن عبّاس رضي الله عنه:" أولياء الله تعالى الّذين إذا رُؤوا ذُكِر الله تعالى "[1].

أولياء الله الّذين إذا أقسموا على الله أبرّهم، وإذا استنصروه نصرهم.

أولياء الله الّذين قال فيهم المولى تبارك وتعالى في الحديث القدسي الّذي رواه البخاري: (( مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ )).

فكيف السّبيل إلى بلوغ ولاية الله عزّ وجلّ ؟

ألا فاعلموا أنّ الله تعالى قد فتح بابين لبلوغ ولايته، وقربه وكرامته:

الباب الأوّل: العلم بالله عزّ وجلّ وبما يقرّب إليه.

ففي مقدّمة أولياء الله بعد الأنبياء هم ورثتهم من العلماء الربّانيّين، أعلام الهدى ومصابيح الدُّجى، قال تعالى:{يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: من الآية11].

وروى التّرمذي عن أبي هريرَةَ رضي الله عنه قال: قال رسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( أَلَا إِنَّ الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ، مَلْعُونٌ مَا فِيهَا، إِلَّا ذِكْرَ اللهِ، وَمَا وَالَاهُ، وَعَالِمٌ، أَوْ مُتَعَلِّمٌ )). قال الإمام أحمد: إن لم يكن أهل العلم هم أولياءَ الله فليس لله وليّ !

ولكن، لو حصرنا ولاية الله تعالى في العلماء، لقلّ عدد الصّالحين في هذه الأمّة ؟ فمن فضل الله تعالى ومنّه وكرمه أنّه فتح بابا واسعا لمن قصرت بهم الهمم في تحصيل العلم، وأن يكونوا من أهل العلم، ذلكم الباب هو:

الباب الثّاني: العبادة.

العبادة والإكثار منها .. العبادة التي من أجلها خُلِق ابن آدم، وهو فيها مقصّر، ثمّ تراه مقصِّرا في إدراك وتدارك هذا التّقصير !

العبادة الّتي جعلها الله أجمل حلّة وأفضل وسام، وأشرف منزل وأعظم مقام، وكفى بها شرفا أنّها تُدخِلُك في زمرة من ناداهم المولى تعالى قائلا:{يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الزخرف:68]..

كفاها شرفا أنّك تدخل بها تحت من وصفهم بقوله:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: من الآية186]، {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر:42]، {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الحجر:49].

حتّى يأتيَ نصر الله وانتصاره:{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105].

وحتّى ينادى نداءً طال انتظاره:{فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} [الفجر:29]..

وممّا زادني شرفـا  وتَـْيهـاً *** وكِدْت بأَخْمُصَيَّ أطأ الثريّا 

دخولي تحت قولك: يا عبادي ***   وأن صيّرت أحمد لـي نبيّا 

وتأمّلوا حال الأوّلين وعزّهم وسيادتهم، ومجدهم وشرفهم، ما رُفعوا إلاّ لأنّهم رفعوا ألوية العبادة.

- هذا إمام العابدين، وحامل لواء المتّقيين، محمّد صلّى الله عليه وسلّم:

روى أبو داود والنّسائي - وأصل الحديث في صحيح مسلم - عن حذيفَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ، فَكَانَ يَقُولُ: (( اللَّهُ أَكْبَرُ ثَلَاثًا، ذُو الْمَلَكُوتِ وَالْجَبَرُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ )).

ثُمَّ اسْتَفْتَحَ، فَقَرَأَ الْبَقَرَةَ ثُمَّ رَكَعَ، فَكَانَ رُكُوعُهُ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِ، وَكَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ (( سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ ))، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ، فَكَانَ قِيَامُهُ نَحْوًا مِنْ رُكُوعِهِ يَقُولُ: (( لِرَبِّيَ الْحَمْدُ ))، ثُمَّ سَجَدَ فَكَانَ سُجُودُهُ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِ، فَكَانَ يَقُولُ في سُجُودِهِ: (( سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى ))، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ، وَكَانَ يَقْعُدُ فِيمَا بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ نَحْوًا مِنْ سُجُودِهِ، وَكَانَ يَقُولُ: (( رَبِّ اغْفِرْ لِي، رَبِّ اغْفِرْ لِي )) فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، فَقَرَأَ فِيهِنَّ الْبَقَرَةَ، وَآلَ عِمْرَانَ، وَالنِّسَاءَ، وَالْمَائِدَةَ، أَوْ الْأَنْعَامَ.

وروى الإمام أحمد عن عَلِيٍّ رضي الله عنه قال: مَا كَانَ فِينَا فَارِسٌ يَوْمَ بَدْرٍ غَيْرُ الْمِقْدَادِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا فِينَا إِلَّا نَائِمٌ، إِلَّا رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم تَحْتَ شَجَرَةٍ يُصَلِّي وَيَبْكِي حَتَّى أَصْبَحَ - وفي رواية: يناشد ربّه -.

وروى البخاري عن عائشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم كَانَ يَقُومُ مِنْ اللَّيْلِ حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لِمَ تَصْنَعُ هَذَا يَا رَسُولَ اللهِ، وَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ؟! قال: (( أَفَلَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا ! )).

وروى النّسائي وابن ماجه عن أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قالَ: ( قَامَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم حَتَّى إِذَا أَصْبَحَ بِآيَةٍ، وَالآيةُ:{إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.

{اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سـبأ: من الآية13].

وعلى هذا الصّراط السّويّ سار الصّحابة والتّابعون، وصاروا خير القرون، مع ما هم عليه من الجهاد في سبيل الله، والإنفاق ابتغاء مرضاة الله، حازوا قصبات السّباق، فلا طمع لأحد من الأمّة بعدهم في اللّحاق، ولكن المبرّز من اتّبع صراطهم المستقيم، واقتفى منهاجهم القويم.

- أبو بكر رضي الله عنه:

صدّيق هذه الأمّة، روى مسلم عنْ أبِي هريرةَ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ صَائِمًا ؟)) قال أبو بَكْرٍ رضي الله عنه: أَنَا ! قالَ: (( فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ جَنَازَةً ؟)) قالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: أَنَا ! قالَ: (( فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مِسْكِينًا ؟)) قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: أَنَا ! قالَ: (( فَمَنْ عَادَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مَرِيضًا ؟))  قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: أَنَا ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ )).

عجبا من سيرك المدلّل *** تمشي رويدا وتجي في الأوّل 

- عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: يقول العبّاس رضي الله عنه:" كنت جارا لعمر بن الخطّاب فما رأيت أحدا أفضل من عمر: إنّ ليله صلاة ونهاره صيام، وإنّه لفي حاجة النّاس".

وكان رضي الله عنه يقول: لولا ثلاث لما أحببت البقاء: أن أُحْمَل على جياد الخيل في سبيل الله، ومكابدة اللّيل، ومجالسة الصّالحين ينتقون أطايب الكلام كما ينتقون أطايب الثّمر ".

وعن هشام بن الحسن قال: كان عمر رضي الله عنه يمرّ بالآية في ورده، فتخنقه، فيبكي حتّى يسقط، ثمّ يلزم بيته حتّى يُعادَ يحسَبونَه مريضا ! وقرأ مرّة قول يعقوب عليه السّلام:{إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ} [يوسف: من الآية86] فسُمع نشيجه من آخر الصفّ.

فاللّهم أنت أصلحت الصّالحين، أصلح قلوبنا، واغفر ذنوبنا، واكشف همومنا وكروبنا، وصلّ اللهمّ على محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم.

الخطبة الثّانية:

الحمد لله على إحسانه، وعلى جزيل عطائه وعظيم امتنانه، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له تعظيما لشانه، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله الدّاعي إلى سبيله ورضوانه، اللهمّ صلّ عليه وسلّم وعلى أصحابه وآله، وعلى كلّ من اتّبع طريقه وسار على منواله، أمّا بعد:

فإنّ من مواسم العبادة الّتي يغفل عنها كثير من النّاس: هذه الأيّام الّتي تظّلنا، وعلى أرضها تقلّنا.

إنّنا نعيش أيّاما من موسم عظيم، ينادي المسلم بأعلى صوته، ويدعوه من قبل موته: اغتنم هذه الأيّام قبل انقضائها ! وتمسّك بهذه الفرص قبل فواتها ! ألا إنّه موسم فصل الشّتاء ..

النّاس جميعهم، والأجناس كلّهم لا يختلفون في النّظر إليه على أنّه فصل البرد والقرّ، فصل يُجبرك على أن تسارع إلى أن تتّخذ التّدابير لئلاّ تعاني من ألمه، ولتسلم من سقمه ..

فصل يستقبله الناس وكأنّه من الغزاة، فيُعِدّوا له ما استطاعوا من قوّة من أنواع المدافئ والمعاطف، والثّياب الثّقيلة والأغطية الكثيرة، صدًّا لهجوم رياحٍ باردة، وقرصات ليل لاذعة ..

وهنا يقف استعدادهم وتدبيرهم .. ويحُطّ رحاله تفكيرهم ..

إلاّ فئةً من النّاس يحيّرك موقفهم، وتلفت انتباهَك نظرتهم: إنّهم عبّاد هذه الأمّة.

لقد تأمّلوا آيات الله عزّ وجلّ القائل:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْل} [لقمان: من الآية29]، فرأوا أنّ الله يُدخل في فصل الشّتاء جزءا من النّهار في اللّيل، فيقصر النّهار ويطول اللّيل.

عندئذٍ أدرك سلف هذه الأمّة هذه الدّعوة إلى التأمّل، فعرفوا فضلَ هذا الموسم العظيم، وأنّه رحمة من العليّ الكريم، فراحوا يسارعون في الخيرات، واغتنام الأجر والثواب في الأعمال الصّالحات، ومن درر كلامهم رحمهم الله قولهم:" الشِّتَاءُ رَبِيعُ المُؤْمِنِ ".

وهذا كلام في غاية الجمال، وفي ذروة الجودة والكمال، قال ابن رجب رحمه الله في شرحه لهذا الأثر:

" وإنّما كان الشّتاء ربيعَ المؤمن لأنّه يرتع فيه في بساتين الطّاعات، ويسرح في ميادين العبادات ".

فمن الأعمال الجليلة هذه الأيّام: صيام النّهار، وقيام اللّيل. 

قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ( مَرْحبًا بِالشِّتَاءِ، تَنْزِلُ فِيهِ البَرَكَةُ، وَيَطُولُ فِيهِ اللَّيْلُ لِلْقِيَامِ، وَيَقْصُرُ فِيهِ النَّهَارُ لِلصِّيَامِ ).

وقال الحسن البصري رحمه الله: ( نِعْمَ زَمَانُ المُؤْمِنِ الشِّتَاءُ: لَيْلُهُ طَوِيلٌ فَيَقُومُهُ، وَنَهَارُهُ قَصِيرٌ فَيَصُومُهُ ).

وكان عبيد بن عمير رحمه الله إذا جاء الشّتاء قال: ( يا أهل القرآن ! طال ليلكم لقراءتكم فاقرؤوا، وقصُر النّهار لصيامكم فصوموا ).

وقال يحيى بن معاذ: ( اللّيل طويل فلا تقصّره بمنامك، والإسلام نقيّ فلا تدنّسه بآثامك ).

سينقضي هذا الفصل، ويعود النّاس من معركتهم معه بالسّلامة من برده وقرّه، ويعود المؤمن العامل بالغنيمة من أجره، ومن كلام السّلف: "الصّوْمُ في الشِّتَاءِ الغنِيمةُ البَارِدَةُ".

قال الخطّابي رحمه الله:" الغنيمة الباردة أي: السّهلة، ولأنّ حرّة العطش لا تنال الصّائم فيه ".

وقال ابن رجب:" غنيمة باردة: لأنّها حصلت بغير قتال ولا تعب ولا مشقّة، فصاحبها يحوز هذه الغنيمة عفواً صفواً بغير كلفة ".

وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقول:" أَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى الغَنِيمَةِ البَارِدَةِ ؟" قالوا بلى. قال:" الصِّيَامُ فِي الشِّتَاءِ، وَقِيَامُ لَيْلِ الشِّتَاءِ ".

فحريٌّ بنا أيّها المؤمنون اقتناص هذه الغنيمة لا سيّما في مثل هذا الشّهر العظيم شهر الله المحرّم، فيغتنم المؤمن أيّامه الفاضلة مثل الاثنين والخميس، أو ما تيسّر منه، وأن نسارع في الأسحار إلى الوقوف بين يدي الواحد القهّار، فوالله ما كانت الأمّة أحوج إلى ذلك مثل هذه الأيّام.

روى الحاكم أنّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قال لرجُلٍ وهو يَعِظُهُ: (( اِغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ )).

ألا فاحرصوا على الطيّب من الأقوال والأعمال: صلّوا باللّيل والنّاس نيام، وتقرّبوا إلى المولى بالصّيام، وأطعموا الطّعام، تدخلوا جنّة ربّكم بسلام. 


[1] [ورواه الطّبراني مرفوعا كما في "الصّحيحة" رقم 1732]

أخر تعديل في الثلاثاء 13 محرم 1434 هـ الموافق لـ: 27 نوفمبر 2012 06:57
عبد الحليم توميات

آخر المواضيع:

الذهاب للأعلي