الأحد 09 ذو القعدة 1431 هـ الموافق لـ: 17 أكتوبر 2010 19:55

- توقـيـر العـلـمـــاء من توقـيـر الله عزّ وجلّ

الكاتب:  عبد الحليم توميات
أرسل إلى صديق

الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وعلى كلّ من اقتفى أثره واتّبع هداه، أمّا بعد:

فإنّ الله تعالى قد أولى العلم منزلة تفوق كلّ المنازل، ومرتبة تعلو على كلّ المراتب، وخصّ أهله بالانتقاء والاصطفاء، ورفع ذكرَهم في الأرض والسّماء، وإنّي على يقين تامّ أنّه ما من مسلم ولا مسلمة إلاّ وهو يقرّ بكلّ ذلك، لا ينكره ولا يجحده إلاّ زائغ هالك ..

ولكنّ هذه الكلمات إنّما هي من أجل الغفلة الّتي سكنت كثيرا من القلوب، ولا عاصم منها إلاّ علاّم الغيوب ..

هذه الكلمات ما هي إلاّ تذكرة للغافل، وتثبيتا للمجدّ العاقل، وقطعا لحجّة كلّ متكاسل ..

فالمفرّط في العلم وأهله صنفان:

- صنف تقلّد رمحه وسلّ سيفه، ونذر غزوهم شتاءهَ وصيفَه، فآذنهم بالطّعن والحرب، ورماهم بالنّقيصة والثّلب.. فإليه كلمات تنبع من القلب ..

ففي كتاب الله الميمون، { سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ }[1].

- وصنف معرض عن مجالسهم، لا تعرف قدماه الطّريق إلى محافلهم، ونادوا: لا لوم فاعذرونا، فقد: { شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا}[2].

فإليهم وصيّة من أخٍ مشفق رحيم {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}[3]

فاستمع لحظات إليّ، وأقبل بقلبك عليّ، فـ{ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ }[4]..

اعلم أنّ حملة العلم:

1- هم خير النّاس: قال الله تعالى:{ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ }[5].

أي: لن يتفطّن إلى ما يذكّر الله تعالى به عباده إلاّ أولو الألباب، وهم: أصحاب العقول الرّاشدة، لا أصحاب الآراء الكاسدة، والأفكار الفاسدة.

قال الأوزاعيّ: ( النّاس عندنا: أهل العلم، ومن سواهم فلا شيء ). ومن بديع النّظم ما قاله أحدهم:

النّاس من جهة التّمثــال أكــفـاء    أبـوهــم آدم، وأمّــهــــم حـــوّاء

فإن يكن لهم في أصلهم نسـب    يُفـاخـرون به:فالطّــيــن والمـــاء

ما الفضل إلاّ لأهـل العلــم إنّهم    على الهُدى لمن استهدى أدِلاّء

وقدر كلّ امرئ ما كان يُحسنـــه    النّاس موتى وأهل العــلـم أحياء

فإذا كانوا لا يستوون، فأين هم ؟

2- إنّهم في المراتب العالية: قال تعالى:{ يَرْفَعِ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَذِينَ أوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ } [6]. درجاتٍ في الدّنيا لا ينكرها عاقل، ولا يجحدها إلاّ متغافل ..

ولقد قصّ الله علينا اصطفاءه طالوتَ ليكون على رأس الملأ من بني إسرائيل، فقال:{ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }[7].

وفي صحيح مسلم أَنَّ نَافِعَ بْنَ عَبْدِ الْحَارِثِ لَقِيَ عُمَرَ رضي الله عنه بِعُسْفَانَ وَكَانَ عُمَرُ يَسْتَعْمِلُهُ عَلَى مَكَّةَ، فَقَالَ:

مَنْ اسْتَعْمَلْتَ عَلَى أَهْلِ الْوَادِي ؟ فَقَالَ: ابْنَ أَبْزَى.

قَالَ: وَمَنْ ابْنُ أَبْزَى ؟ قَالَ: مَوْلًى مِنْ مَوَالِينَا.

قَالَ: فَاسْتَخْلَفْتَ عَلَيْهِمْ مَوْلًى ؟ قَالَ: إِنَّهُ قَارِئٌ لِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَالِمٌ بِالْفَرَائِضِ.

قَالَ عُمَرُ: أَمَا إِنَّ نَبِيَّكُمْ صلى الله عليه وسلّم قَدْ قَالَ: (( إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ )).

هذه الدّرجة في الدّنيا أمّا في الآخرة فقد قال تعالى: { وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً }[8] وفي الحديث: (( مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ))[9]..

فمن أراد أن يستزيد، فليستزد علما وفهما، لذلك قال تعالى في سورة طه: { وَقُلْ رَبّ زِدْنِي عِلْماً }[10].

قال العلماء: لم يأمر الله نبيّه صلّى الله عليه وسلّم بطلب الزّيادة من شيء إلاّ العلم.

3- أنّهم أتقى النّاس لله: وكلّ شيء زاد عن حدّه انقلب إلى ضدّه إلاّ العلمَ.

ذلك لأنّه طريقٌ إلى الخشية من الله تعالى، وخشية الله الواحد الأحد، ليس لها غاية أو حدّ: قال تعالى: { إنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}[11].

فالعالم يعلم الواجبات والمستحبّات فيتّخذها إلى الله من أجلّ القربات، ويعلم المكروه والحرام، والمعاصي والآثام، فيجتنب سبلها، ويعرِض عن طرقها.

4- أنّهم حاملو ميراث النبوّة: عَنْ أَبي الدَّرْداءِ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلّم قَالَ:

(( ..إنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَهُ الأنْبِيَاءِ، وَإنَّ الأنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَاراً وَلا دِرْهَماً وَإنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظ وَافِرٍ ))[12].

فأسباب ميراث النبيّ صلى الله عليه وسلّم ليست ثلاثة، ولكن:

أسبـاب ميراث النبيّ المصطفى         علم يزيل عنك الغــيّ، وكفــى

وبحسب قرابة القريب، يكون الحظّ والنّصيب .. إلاّ أنّه لا فرْضَ، فالقسمة تعصيب.

فالمتعلّم غنيّ مرحوم، والجاهل خليّ محروم: { أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمْ مَنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }[13].

5- وإنّهم أئمّة الهدى ومصابيح الدّجى:

ففي حديث أبي الدّرداء رضي الله عنه السّابق: (( وَفَضْلُ الْعالِمِ عَلى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ ))..

فمتّبعهم على بيّنة من ربّه، لا يعثر ولا يضلّ في دربه، فأبصر النّاس في الظّلماء، أشدّهم تبعا وتعظيما للعلماء.

6- وإنّهم مناهل للواردين: فبها يروى الظّمآن، ويطّهر أهل الأدران، والعجب أنّ ماءها أعظم من الخلجان، على كثرة قاصديها لا يعتريها النّقصان .. وإليك قولَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلّم:

((مَثَلُ مَا بَعَثَنِي الله بِهِ مِنَ الهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثِ أَصَابَ أَرْضاً فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ قَبِلَتِ المَاءَ، فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ، وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ )) وتتمّته: (( فَذلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ في دِينِ الله، وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي الله بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ ..))[14].

7وإنّهم رحمة من الله تعالى: رحمة حيثما حلُّوا وارتحلوا ..

الرّحمة تغشاهم، والبركة في ممشاهم، فالله رفع مدارسَهم، والملائكة تترقّب مجالسَهم، السّكينة بمحلّهم نازلة، والقلوب بنورهم حافلة، فنِعْمَ الأنيسُ أنيسُهم: (( هُمُ القَوْمُ لاَ يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ ))[15].

8وإنّهم صمام الأمان: هم الحصن الحصين، والحرز المتين أمام كلّ فتنة، وتجاه كلّ محنة.

ألا ترى إلى ما قبل بعثة النبيّ صلى الله عليه وسلّم ؟ فإنّه ما عجّل الله على هذه الأرض بالعذاب، وألوان العقاب، إلاّ من أجل أهل العلم الأوَل من أهل الكتاب، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم: (( إِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ))[16].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلّم قال: (( الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ، مَلْعُونٌ ما فِيهَا، إلاَّ ذِكرَ الله تَعَالى، وَمَا والاهُ، وَعَالِماً، أوْ مُتَعَلماً ))[17].

لذلك يذكر عن ابن المبارك رحمه الله أنّه قال:" كن عالما أو متعلّما، أو محبّا لهما، ولا تكن الرّابع فتهلك " وصدق رحمه الله تعالى.

نصوص كثيرة، وأقوال ثرّة غزيرة، ثبتت في بيان مكانة العلماء العالية، ومنزلتهم الغالية، لذلك وجب لهم كلّ التّقدير والاحترام، والإجلال والإعظام، فحبّهم من أعظم القُرُبات، وحرمتهم من أعظم الحرمات: { وَمَن يُعَظِّم حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيرٌ لَهُ عِندَ رَبِّهِ }[18].

والحمد لله أوّلا وآخرا، باطنا وظاهرا.


[1]/ الزّخرف من الآية: 19.

[2]/ الفتح من الآية: 11

[3]/ التّغابن الآية: 15

[4]/ الأنعام من الآية: 36

[5]/ الزّمر من الآية: 9

[6]/ المجادلة من الآية: 11

[7]/ البقرةمن الآية: 247

[8]/ الإسراء من الآية: 21

[9]/ رواه البخاري.

[10]/ طــه من الآية: 114

[11]/ فاطر من الآية: 28

[12]/ رواه التّرمذي وغيره.

[13]/ الملك: 22

[14]/ ما رواه الشّيخان عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه.

[15]/ متّفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[16]/ ففي صحيح مسلم عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ المُجَاشِعِيِّ رضي الله عنه.

[17]/ رواه التّرمذي بسند حسن.

[18]/ الحجّ: من الآية: 30

أخر تعديل في السبت 14 ذو الحجة 1431 هـ الموافق لـ: 20 نوفمبر 2010 22:51
الذهاب للأعلي