الأربعاء 04 ذو الحجة 1431 هـ الموافق لـ: 10 نوفمبر 2010 10:51

- شـرح كتـاب الحـجّ (28) فضل استلام الحجر الأسود

الكاتب:  عبد الحليم توميات
أرسل إلى صديق

 

تـابـع البـاب السّـابع: ( التّرغيب في الطّواف، واستلام الحجر الأسود، والرّكن اليمانيّ،

وما جاء في فضلهما، وفضل المقام، ودخول البيت ).

· الحديث السّادس:

1144- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَجَرِ:

(( وَاللَّهِ لَيَبْعَثَنَّهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَهُ عَيْنَانِ يُبْصِرُ بِهِمَا، وَلِسَانٌ يَنْطِقُ بِهِ، يَشْهَدُ عَلَى مَنْ اسْتَلَمَهُ بِحَقٍّ )).

[رواه الترمذي وقال: "حديث حسن"، وابن خزيمة، وابن حبّان في "صحيحيهما"].

· الشّـرح:

- قوله: ( والله ليبعثنّه ): فيه جواز الحلِف من غير أن يُستحلَف، وفائدة ذلك تقرير الشّيء في الأذهان. وخاصّة أنّه صلّى الله عليه وسلّم سيُخبِر عن شيء خارق للعادة، وهو أن يكون للحجر ما للإنسان من العين واللّسان.

- قوله: ( يَشْهَدُ عَلَى مَنْ اسْتَلَمَهُ ): قد يتبادر إلى الذّهن من عدية الفعل ( شهد) بحرف ( على ) أنّه يشهد عليه بالسّوء والمذمّة، ولم يقل:" شهِد له "، أي: بالخير.

فالجواب : أنّ ( على ) قد تستعمل موضع ( اللاّم )، كما يقال: " فتح الله عليك أو لك " على حدّ سواء. لذلك قال الحافظ العراقيّ رحمه الله:" (على) هنا بمعنى (اللاّم) ".

ويؤيّد ذلك رواية أحمد والدّارمي وابن حبّان: (( يَشْهَدُ لِمَنْ اسْتَلَمَهُ )).

- قوله: ( بحَقٍّ ): قال الشّيخ الألباني رحمه الله في تعليقه:" الباء للملابسة، أي: متلبّسا بها بحقّ، وهو دين الإسلام، واستلامه بحقّ هو طاعة الله، واتّباع سنّة نبيّه صلّى الله عليه وسلّم، لا تعظيم الحجر نفسه، والشّهادة عليه هي الشّهادة على أدائه حقّ الله المتعلّق به، وليست (على) للضّرر " اهـ.

- قال في "تحفة الأحوذي":

" والحديث محمول على ظاهره، فإنّ الله تعالى قادر على إيجاد البصر والنّطق في الجمادات، فإنّ الأجسام متشابهة في الحقيقة، يقبل كلّ منها ما يقبل الآخر من الأعراض، ويؤوّله الّذين في قلوبهم زيغُ التّفلسف، ويقولون: إنّ ذلك كناية عن تحقيق ثواب المستلم، وإنّ سعيه لا يضيع.."اهـ.

ونظير إنطاق الحجر الأسود يوم القيامة، مجيء القرآن شفيعا يوم القيامة لقارئه، تقدمه سورة البقرة وآل عمران، نسأل الله من فضله.

وليس عجبا أن يُنطِق الله الحجر يوم القيامة، وقد سبّح في هذه الدّنيا الحصى في بد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وحنّ الجذع إليه حتّى سمعوا بكاءه، وأنطق الحيوان لبعض خلقه ..

· الحديث السّابع:

1145-وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( يَأْتِي الرُّكْنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْظَمَ مِنْ أَبِي قُبَيْسٍ لَهُ لِسَانٌ وَشَفَتَانِ )).

[رواه أحمد بإسناد حسن].

· الشّـرح:

قوله: ( الرّكن ): أي: الحجر الأسود، فهذا الحكم خاصّ به فحسب، ومن عمّم الحكم للرّكن اليماني فقد أخطأ، وإنّما اعتمد ما رواه الطّبراني في "الكبير": (( يَبعَثُ الله الحجرَ الأسود والرّكن اليماني يوم القيامة ولهما عينان ولسانان وشفتان يشهدان لمن استلمهما بالوفاء ))، وهو ضعيف لا يصحّ.

قوله: ( أبي قبيس ) هو جبل بمكّة سمِّي باسم رجل حدّاد من مذحج، لأنّه كان أوّل من بنى فيه.

وجبل ( أبي قبيس ) يقابله جبل ( قُعيقِعان )، وهما المرادان بقول الملك للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمْ الْأَخْشَبَيْنِ )).

· الحديث الثّامن:

1146- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( نَزَلَ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ مِنْ الْجَنَّةِ وَهُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنْ اللَّبَنِ، فَسَوَّدَتْهُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ )).

[رواه التّرمذي، وقال: "حديث حسن صحيح"، وابن خزيمة في "صحيحه"] إلاّ أنّه قال:

(( أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ الثَّلْجِ )).

[ورواه البيهقيّ مختصرا] قال:

(( الحَجَرُ الأَسْوَدُ مِنَ الجَنَّةِ، وَكَانَ أَشَدَّ بَيَاضًا مِنَ الثَّلْجِ حَتَّى سَوَّدَتْهُ خَطَايَا أَهْلِ الشِّرْكِ )).

· الشّـرح:

قوله: ( وَهُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنْ اللَّبَنِ ): المحفوظ هو الرّواية الأخرى بلفظ: (( أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ الثَّلْجِ )) - كما قال الشيخ الألباني رحمه الله-.

قوله: ( فَسَوَّدَتْهُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ ): قال الحافظ ابن حجر:" واعترض بعض الملحدين على هذا الحديث، فقال: كيف سوّدته خطايا المشركين، ولم تبيِّضْه طاعات أهل التّوحيد ؟

وأجيب بما قال ابن قتيبة:" لو شاء الله لكان ذلك، وإنّما أجرى الله العادة بأنّ السّواد يصبغ ولا ينصبغ، على العكس من البياض.

وقال المحبّ الطّبري رحمه الله: في بقائه أسود عبرةٌ لمن له بصيرة، فإنّ الخطايا إذا أثّرت في الحجر الصّلد، فتأثيرها في القلب أشدّ ". اهـ.

ونظير ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم: (( إِذَا أَذْنَبَ العَبْدُ نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةً سَوْدَاءَ، فَإِذَا أَذْنَبَ نُكِتَتْ فِيهِ نُكْتَةً أُخْرَى، وَهَكَذَا حَتَّى يَسْوَدَّ قَلْبُهُ جَمِيعُهُ )).

· الحديث التّاسع:

1147-وعنه [يعني عبدَ الله بنَ عمرو] قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُسنِدٌ ظَهْرَهُ إِلَى الكَعْبَةِ يَقُولُ:

(( الرُّكْنُ وَالْمَقَامُ يَاقُوتَتَانِ مِنْ يَاقُوتِ الْجَنَّةِ، وَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ طَمَسَ نُورَهُمَا لَأَضَاءَتَا مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ )).

[رواه التّرمذي، وابن حبّان في "صحيحه"، كلاهما من رواية رجاء بن صبيح، والحاكم، ومن طريقه البيهقيّ].

وفي رواية للبيهقيّ قال:

(( إِنَّ الرُّكْنَ وَالمَقَامَ مِنْ يَاقُوتِ الجَنَّةِ، وَلَوْلاَ مَا مَسَّهُ مِنْ خَطَايَا بَنِي آدَمَ لَأَضَاءَ مَا بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ، وَمَا مَسَّهُمَا مِنْ ذِي عَاهَةٍ وَلاَ سَقِيمٍ إِلاَّ شُفِيَ )).

[وفي أخرى له رضي الله عنه أيضا رفعه قَالَ:

(( لَوْلاَ مَا مَسَّهُ مِنْ أَنْجَاسِ الجَاهِلِيَّةِ مَا مَسَّهُ ذُو عَاهَةٍ إِلاَّ شُفِيَ، وَمَا عَلَى الأَرْضِ شَيْءٌ مِنَ الجَنَّةِ غَيْرُهُ )).

· الشّـرح:

- قوله صلّى الله عليه وسلّم في الحجر الأسود: ( وَمَا عَلَى الأَرْضِ شَيْءٌ مِنَ الجَنَّةِ غَيْرُهُ )، ظاهره أنّ هذه الفضيلة خاصّة بالحجر الأسود، لا يشاركه فيها غيره.

ويُشكِل على ذلك حديثان اثنان:

الحديث الأوّل: ما ذكره المصنّف: (( إِنَّ الرُّكْنَ وَالمَقَامَ مِنْ يَاقُوتِ الجَنَّةِ ))، فظاهر الحديث أنّ مقام إبراهيم أيضا من الجنّة.

الحديث الثّاني: وهو ما رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضِي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( سَيْحَانُ وَجَيْحَانُ وَالْفُرَاتُ وَالنِّيلُ كُلٌّ مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ )).

فالجواب عن الأوّل: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يُخبِر بحسَب علمه، فلم يخبر أوّلا إلاّ عن الحجر الأسود، ثمّ أعلمه الله بأنّ المقام أيضا من الجنّة.

ونظائر هذا كثيرة، فقد قال صلّى الله عليه وسلّم: (( لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي المَهْدِ إِلاَّ ثَلاَثَةٌ ))، فذكر عيسى عليه السّلام، وصاحب جريج، ورضيع الأمة المظلومة. مع أنّ ثمّة آخرين تكلّموا في المهد، كرضيع قصّة أصحاب الأخدود، ورضيع ماشطة بنت فرعون – وفيه كلام من حيث سنده -.

والجواب عن الثّاني:

وهو أنّ سيحان وجيحان من أنهار الجنّة، فهما ببلاد الأرمن، وجيحان هو: نهر المصيصة، وسيحان هو: نهر إذنة، وهما نهران عظيمان جدّا أكبرهما جيحان، كما قال الإمام النّوويّ رحمه الله. وكذلك الفرات ينبع من هضبة أرمينيا مارّا بالشّام.

فما معنى كونها من ماء الجنّة. ذكروا أقوالا، وأصحّها:

أنّ أصل مادّة هذه الأنهار من الجنّة، ولا يعني ذلك أنّها تنبُع من الجنّة، ونظيره: أنّ الإنسان أصله من تراب، ولا يعني ذلك أنّه الآن تراب.

إذا علمنا ذلك فإنّ هذه الأنهار على الحال الّتي هي عليها ليست من الجنّة، بخلاف الحجر الأسود، فهو من الجنّة. ولا تعارض حينئذ بين الأحاديث. والله أعلم.

 

أخر تعديل في السبت 14 ذو الحجة 1431 هـ الموافق لـ: 20 نوفمبر 2010 10:51
الذهاب للأعلي