السبت 14 ذو الحجة 1431 هـ الموافق لـ: 20 نوفمبر 2010 10:41

- السّيرة النّبويّة (19) الدّعـوة سـرّا

الكاتب:  عبد الحليم توميات
أرسل إلى صديق

الحمد لله وكفى، والصّلاة والسّلام على النبيّ المصطفى، وعلى آله وصحبه الكرام الشّرفا، أمّا بعد:

فقد تناولنا في الحلقة السّابقة الأيّامَ الأولى من بعثة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وتحدّثنا عن فترة الوحي والحِكَمِ البليغةِ منها.

واليوم نعيش الأيّام الأولى للدّعوة الإسلاميّة ..

- فقد كانت خديجة بنت خويلد رضي الله عنها أوّل من صدّقت بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم وبما جاء من عند الله، وآزرته على أمره.

- ثم كان أوّل ذكرٍ من الفتيان آمن برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وصدّق بما جاءه من عند الله تعالى عليَّ بن أبي طالب.

روى النّسائي في " خصائص عليّ رضي الله عنه " بسند صحيح عن زيد بن أرقم، والإمام أحمد عن ابن عبّاس رضي الله عنه، أنّهما قالا: ( أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ عَلِيٌّ رضي الله عنه ) - يعني في الفتيان كما قال التّرمذي -.

وكان عليّ يومئذ ابن عشر سنين على الصّحيح كما في "الإصابة" (4/564).

أمّا ما رواه التّرمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: ( بُعِثَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَصَلَّى عَلِيٌّ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ ) فهو ضعيف لم يصحّ [انظر:" سلسلة الأحاديث الضّعيفة " (1/ص779)].

ومن أسباب سبقِه إلى الإسلام ما أنعم الله به على عليٍّ رضي الله عنه، أنّه كان في حِجْر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل الإسلام، وسبب هذه النّشأة أنّ قريشا أصابتهم أزمة شديدة، وكان أبو طالب ذا عيال كثير، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للعبّاس عمّه وكان من أيسر بني هاشم:

(( يَا عَبَّاسُ، إِنَّ أَخَاكَ أَبَا طَالِبٍ كَثِيرُ العِيَالِ، وَقَدْ أَصَابَ النَّاسَ مَا تَرَى، فَانْطَلِقْ بِنَا إِلَيْهِ فَلْنُخَفِّفْ عَنْهُ مِنْ عِيَالِهِ، آخُذُ مِنْ بَنِيهِ رَجُلاً وَتَأْخُذُ أَنْتَ رَجُلاً )). فَقالَ العَبَّاسُ: نَعَم.

فانطلقا، حتّى أتيا أبا طالب، فقالا له: إنَّا نريدُ أن نُخفّفَ عنك مِنْ عِيالِك حتَّى يَنْكَشفَ عَن النَّاسِ مَا هُمْ فِيه.

فقال لهما أبو طالب: إذا تركتما لي عَقِيلاً فاصنعَا ما شِئْتُما.

فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عَلِيًّا فضمّه إليه، وأخذ العبّاس جعفرا فضمّه إليه، فلم يزل عليٌّ مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى بعثه الله تبارك وتعالى.

[رواه الإمام أحمد في " فضائل الصّحابة " عن عليّ رضي الله عنه]..

- وكان أوّل من أسلم من الموالي زيدَ بن حارثة رضي الله عنه.

- وأوّلُ من أسلم من الرّجال أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه، قال الحافظ رحمه الله:

" قد اتّفق الجمهور على أنّ أبا بكر أوّل من أسلم من الرّجال، وذكر ابن إسحاق أنّه كان تحقّق أنّه سيُبعَث لِمَا كان يسمعُه ويراه من أدلّة ذلك، فلمّا دعاه بادر إلى تصديقه من أوّل وهلة ".

واسمه رضي الله عنه: عبد الله بن عثمان بن أبي قُحافة، صديق الطّفولة والشّباب، جعله الله أكبرَ مستودَعٍ بعد خديجة يوضع فيه مثلُ هذا السرّ الّذي تنوء بحمله الجبال، وهو الّذي لم يُجرّب على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كذبا قطّ، ولم يره ساجدا لصنم قط، فحين أخبره بمبعثه لم ينبس ببنت شفة، إلاّ أن قال له: صدقت. فلقّب من أجل ذلك بالصدّيق.

وقد ظلّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يحفظ له ذلك، فلم يزل يردّد: (( إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ، فَقُلْتُمْ كَذَبْتَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ صَدَقَ، وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صَاحِبِي ؟ ))- مَرَّتَيْنِ -.

وشاعت وذاعت هذه الأوّلية حتّى قال حسّان بن ثابت رضي الله عنه أبياتا تشهد بأسبقيّته للإسلام:

إذا تذكّـرت شجـوا من أخي ثقـة *** فاذكـر أخـاك أبـا بـكر بما فـعـلا

خـير البـريّـة أتقـاها وأعدلـهـا *** بعد النبـيّ وأوفـاهـا بـمـا حـمـلا

الثّـانـي التّـالي المحمـود مشهـده *** وأوّل النّـاس منـهـم صـدّق الرّسـلا

هذه المكانة أنْسَتْ أمَّةً بكاملها اسمَ أبي بكر، حتّى صار لا يُعرف إلاّ بـ( الصدّيق )..

وكان رضي الله عنه داعية لا يفتر، يدعو إلى الله سرّا، فأسلم بدعوته مَن أصبح مِن خيار خلق الله القائلِ فيهم:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100]..

فكان ممّن أسلم على يديه أربعةٌ من المبشّرين بالجنّة: عثمانُ بنُ عفّان، وعبدُ الرّحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقّاص، وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهم.

قال ابن إسحاق رحمه الله:" فكان هؤلاء النّفر الثّمانية هم الّذين سبقوا النّاس بالإسلام، فصلّوا، وصدّقوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بما جاءه من عند الله ".

وكان لا بدّ أن تبقى الدّعوة سرّا، حتّى مع أمر الله تعالى:{قُمْ فَأَنْذِرْ}، فإنّ الإنذار لا بدّ أن يكون أوّلا سرّا.

فأصنام قريش لها جنود من الغضب، مستعدّة لنحر كلّ من يقترب منها، أو يمسّ بسوء جنابها.

وعلى جدار التّاريخ الطّويل قد علِّقت رؤوس كثير من الأنبياء والمصلحين والدّعاة، وأعواد المشانق لا تزال رطبة بدمائهم ..

وهذا ما فعله النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقد أسلمت خديجة وورقة وكتم كلّ منهما إسلامه، وأسلم أبو بكر وعليّ، ومات ورقة فبات السرّ مدفونا في أربعة أنفس.. حتّى أسلم من ذكرنا على يدي أبي بكر رضي الله عنه.

ثمّ أسلم أبو عبيدة بن الجرّاح [عاشر العشرة] - وأبو سلمة - والأرقم بن أبي الأرقم.

وعثمان بن مظعون، وأخواه قدامه وعبد الله ابنا مظعون - وعبيدة بن الحارث بن المطّلب.

وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل [سادس العشرة] وامرأته فاطمة بنت الخطّاب أخت عمر بن الخطّاب رضي الله عنهم.

وأسماء بنت أبي بكر - وخبّاب بن الأرت - وعمير بن أبي وقّاص أخو سعد بن أبي وقّاص - وعبد الله بن مسعود.

وسليط بن عمرو، وأخوه حاطب بن عمرو - وعيّاش بن ربيعة، وامرأته أسماء بنت سلامة - وخنيس بن حذافة.

وعامر بن ربيعة - وعبد الله بن جحش - وجعفر بن أبي طالب وامراته أسماء بنت عميس.

وعمّار بن ياسر - وصهيب بن سنان. حتّى بلغوا الأربعين رجلا، وبِضع نسوة.

قال ابن اسحاق:" ثمّ دخل النّاس في الإسلام أرسالا من الرّجال والنّساء، حتّى فشا ذكرُ الإسلام بمكّة، وتُحُدِّثَ به ".

فكانوا يلتقون النبيّ صلّى الله عليه وسلّم سرّا، وكان أحدهم إذا أراد ممارسة عبادته مارسها سرّا، حتّى الصّلاة كانت تتمّ في سرّية تامّة.

فقد روى البخاري ومسلم عن ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} قَالَ: نَزَلَتْ وَرَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم مُخْتَفٍ بِمَكَّةَ، كَانَ إِذَا صَلَّى بِأَصْحَابِهِ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ، فَإِذَا سَمِعَهُ الْمُشْرِكُونَ سَبُّوا الْقُرْآنَ وَمَنْ أَنْزَلَهُ وَمَنْ جَاءَ بِهِ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صلّى الله عليه وسلّم:{وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ} أَيْ بِقِرَاءَتِكَ فَيَسْمَعَ الْمُشْرِكُونَ فَيَسُبُّوا الْقُرْآنَ {وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} عَنْ أَصْحَابِكَ فَلَا تُسْمِعُهُمْ {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا}.

ومن أراد أن يتصوّر حجم هذه السرّية، فليرجع إلى دواوين السنّة، فإنّه سيخرج بنتيجة وهي: أنّه لفرط هذه السرّية كان لا يَعْلَمُ بعضُهم بإسلام بعض، حتّى تنافس كثير منهم في الأسبقيّة إلى الإسلام..

- فهذا أبو بكر رضي الله عنه يقول عندما أرغموه: (( أَلَسْتُ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ؟ أَلَسْتُ صَاحِبَ كَذَا ؟)) [رواه التّرمذي عن أبي سعيد].

- أمّا عليّ رضي الله عنه، فقد مضى قول زيد بن أرقم: إنّه أوّل من أسلم، فبلغ ذلك إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيَّ فَأَنْكَرَهُ، وَقَالَ: أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه.

- وهذا سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه، روى البخاري عن سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه يَقُولُ: ( مَا أَسْلَمَ أَحَدٌ إِلَّا فِي الْيَوْمِ الَّذِي أَسْلَمْتُ فِيهِ، وَلَقَدْ مَكَثْتُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَإِنِّي لَثُلُثُ الْإِسْلَامِ ). ولا شكّ أنّه يقصد أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وخديجة هما بقيّة أضلاع مثلّث الإسلام يومئذ..

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:" قال ذلك بحسب اطِّلاعه، والسّبب فيه أنّ من كان أسلم في ابتداء الأمر كان يُخفي إسلامه، ولعلّه أراد بالاثنين الآخرين خديجة وأبا بكر، أو النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأبا بكر، وقد كانت خديجة أسلمت قطعا فلعلّه خصّ الرّجال ".

- حتّى أبو ذرّ الغفاري رضي الله عنه الغريب عن ديار مكّة، القادم من بعيد يطوي الأرض بحثا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، عُدَّ من السّابقين، فقد روى البيهقيّ (2/212) والحاكم (3/341) عنه أنّه قال:

" كُنْتُ رُبُعَ الإِسْلاَمِ، أَسْلَمَ قَبْلِي ثَلاَثَةَ نَفَرٍ، وَأَنَا الرَّابِعُ "..

- وهذا عمرو بن عبسة رضي الله عنه سابق آخر، روى أحمد عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ قَالَ: (( أَنَا رُبُعُ الْإِسْلَامِ )).

- وزاحم بلالٌ رضي الله عنه الجميعَ، فعُدّ أيضا من السّابقين:

ففي صحيح مسلم عن عَمْرو بْنِ عَبَسَةَ السُّلَمِيُّ قال: كُنْتُ وَأَنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَظُنُّ أَنَّ النَّاسَ عَلَى ضَلَالَةٍ، وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ، فَسَمِعْتُ بِرَجُلٍ بِمَكَّةَ يُخْبِرُ أَخْبَارًا فَقَعَدْتُ عَلَى رَاحِلَتِي فَقَدِمْتُ عَلَيْهِ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم مُسْتَخْفِيًا جُرَءَاءُ عَلَيْهِ قَوْمُهُ، فَتَلَطَّفْتُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَيْهِ بِمَكَّةَ، فَقُلْتُ لَهُ: مَا أَنْتَ ؟

فقالَ صلّى الله عليه وسلّم: (( أَنَا نَبِيٌّ )). فَقُلْتُ: وَمَا نَبِيٌّ ؟

قَالَ: (( أَرْسَلَنِي اللَّهُ )). فَقُلْتُ: وَبِأَيِّ شَيْءٍ أَرْسَلَكَ ؟

قَالَ: (( أَرْسَلَنِي بِصِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَكَسْرِ الْأَوْثَانِ، وَأَنْ يُوَحَّدَ اللَّهُ لَا يُشْرَكُ بِهِ شَيْءٌ )). قُلْتُ لَهُ: فَمَنْ مَعَكَ عَلَى هَذَا ؟

قَالَ: (( حُرٌّ وَعَبْدٌ )).

فعاد ولم يظْفر باسمهما، ولكنّه قال في نفسه أو لمن نقل إليه الخبر:" وَمَعَهُ يَوْمَئِذٍ أَبُو بَكْرٍ وَبِلَالٌ مِمَّنْ آمَنَ ".

كلّ هذه التّصريحات حقّ، فلماذا يلوح لنا منها التناقض ؟ الجواب: أنّ للدّعوة أسرارها..

إنّ الّذين أشعلوا أربعين عاما بلهيب الحروب، وتركوا جماجمهم تمتصّها الشّمس والرّمضاء، وخلفوا من ورائهم من يبكيهم من النّساء من أجل بعير أو حصان لعلى استعداد تامّ لارتكاب أفظع من ذلك من أجل عقيدتهم وأصنامهم وميراث أجدادهم {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [ص:6]..

ولمّا رَبَى عددُ المسلمين اختار النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لهم مَقَرًّا يتدارسون فيه الإسلام، فكانت دار الأرقم بن أبي الأرقم هي التي حظِيت بهذا الشّرف المبين..

ودامت الدّعوة مدّة لا يُمكِنُ تحديدها، وقد شاع في كتب السّيرة أنّها ظلّت ثلاث سنوات اعتمادا على رواية ابن إسحاق، ولكنّها دون إسناد[1]، فلا يمكن الجزم بذلك.

والله أعلم.



[1] ورواها ابن سعد في " الطّبقات " (1/199) من طريق الواقدي، وهو متّهم بالكذب كما هو معلوم.

أخر تعديل في الخميس 29 صفر 1432 هـ الموافق لـ: 03 فيفري 2011 09:29
عبد الحليم توميات

آخر المواضيع:

الذهاب للأعلي