الاثنين 11 ربيع الأول 1432 هـ الموافق لـ: 14 فيفري 2011 12:16

- النَّمِيمَةُ: الدّاء والدّواء

الكاتب:  عبد الحليم توميات
أرسل إلى صديق

الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:

فالنّميمة من أخطر الأدواء الّتي تنخر في جسد الأفراد والمجتمعات، وتفرّق بين الأمم والجماعات، وقد جاءت الشّريعة الغرّاء بسدّ منافذها وأبوابها، وتُحجّر على روّادها وطلاّبها، في زمن كان الخبر يستغرق أيّاما ليصِل إلى الآذان، وشهورا كي يذيع من مكان إلى مكان.

فكيف بزمن تيسّرت فيه سبل الاتّصال ونقل الأخبار، وينتشر فيه الخبر في ثوانٍ بسائر الأقطار ؟

بل وكيف بزمن ظهر فيه صنفان من أهل النّميمة:

صنفٌ يتقرّب بها إلى الله ! فلا يسمع بشيء إلاّ نقله.

وصنف سمّاها إعلاما ! وحرّية تعبير ! ويأخذ عليها الأجر الوفير، وينال ثناء الجماهير !

لذلك كان أهل هذا الزّمان أحرى بتذكّر مضارّها، وبيان أخطارها، والتّحذير منها، والتّنفير عنها.

معنى النّميمة:

 

النّميمة - ويقال لها أيضا: النمّ، والقتّ - هي: رفع الحديث على وجه الإشاعة والإفساد.

وأصل الكلمة: أنّها تطلق على الشّيء الّذي لا يحفظ ما يُودَعُ فيه، قال المبرّد رحمه الله:" النمّام معناه في كلام العرب: الّذي لا يُمسك الأحاديث ولا يحفظها، من قولهم: جلود نِمَّة، إذا كانت لا تمسك الماء، يقال: نمّ فلان ينمّ نَمًّا إذا ضيّع الأحاديث ولم يحفظها، ويقال للنمّام: القتّات، مأخوذ من: قتّ الأثر، وهو: تتبّعُه.

حكم النّميمة:

إنّ تحريم النّميمة معلوم بالضّرورة من دين الإسلام، بل إنّ تحريمها من مقتضيات المروءة لدى أولي النّهى والأحلام، وقد تعلّمنا تحريمها منذ الصِّغر، ولكنّنا كبرنا ولم ينل تعظيمها حظّه من الكبر.

وممّا يدلّ على تحريمها وتعظيم ضررها وجوه كثيرة، منها:

1- أنّها من الكبائر بإجماع العلماء: وذلك للوعيد الشّديد الثّابت في حقّ مرتكبها، كما سيأتي بيانه.

2- وقد نهى الله تعالى عن اتّباع النمّام في أمره وسيرته: فقال تعالى:{وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13)} [القلم]. 

مشّاء بنميم، أي: يمشي بالنّميمة بين النّاس ليُفسِد بينهم.

والزّنيم: هو الدّعي في القوم ليس منهم، مأخوذ من الزّنمة، وهو الشّيء المقطوع.

وكان ابن المبارك رحمه الله يبالغ ويشدّد في النّميمة، حتّى استنبط من ذكر الزّنيم بعد النّمّام أنّ ولد الزّنا لا يكتم الحديث، فمشيه بالنّميمة دليل على أنّ فاعل ذلك ولد زنا ! [ذكر ذلك الهيتمي في " الزّواجر "].

3- النّميمة محبطة الأعمال:

ففي قوله تعالى عن امرأة أبي لهبٍ:{حَمَّالَةَ الحَطَبِ} قيل: كانت نمّامة حمّالة للحديث إفسادا بين الناس، قاله ابن عبّاس رضي الله عنه، ومجاهد، وقتادة، والسدّي.

وإنّما سمّيت النّميمة حطبا؛ لأنّها تنشر العداوة بين النّاس كما أنّ الحطب ينشر النار. تقول العرب: فلان يحطب على فلان: إذا ورش عليه، قال الشّاعر:

إنّ بني الأدرم حمّالو الحطبْ *** هم الوشاة في الرّضا وفي الغضبْ

عليهم اللّعنة تترى والحرَبْ

ومنه قول أكثم بن صيفي لبنيه: " إيّاكم والنّميمة، فإنّها نار محرقة ...".

وقال الفضيل بن عياض: ثلاث تهدّ العمل الصالح: الغيبة، والنميمة، والكذب.

4- النّميمة تحرُم العبد من دخول الجنّة:

فقد أخرج الشّيخان عن حذيفة رضي الله عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ نَمَّامٌ ))، وفي رواية: ( قَتَّاتٌ ).

وقال عطاء بن السائب: ذكرت للشّعبي قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( لا يدخل الجنّة سافك دم، ولا مشاء بنميمة، ولا تاجر يربي ))[1]، فقلت: يا أبا عمرو، قرن النمّام بالقاتل وآكل الرّبا ؟ فقال:" وهل تُسْفَك الدّماء، وتُنتَهب الأموال، وتُهيَّج الأمور العظام، إلاّ من أجل النميمة ؟!".

5- النّميمة من أسباب عذاب القبر:

روى الشيخان عن ابن عبّاس رضي الله عنه قال: مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَبْرَيْنِ يُعَذَّبَانِ، فقال:

(( إِنَّهُمَا يُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ )) ثمّ قال: (( بَلَى، كَانَ أَحَدُهُمَا لَا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ، وَكَانَ الْآخَرُ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ ...)) الحديث.

- النّميمة من صفات شرار الخلق:

فقد روى الإمام أحمد عن عبدِ الرّحمن بنِ غَنْمٍ رضي الله عنه أنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:

(( خِيَارُ عِبَادِ اللهِ: الَّذِينَ إِذَا رُءُوا ذُكِرَ اللهُ، وَشِرَارُ عِبَادِ اللهِ: الْمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ، الْمُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ، الْبَاغُونَ الْبُرَآءَ الْعَنَتَ ))[2].

وفي رواية لابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا: (( المُفْسِدُونَ بَيْنَ الأَحِبَّةِ )).

وروى الطّبراني في "الصّغير" و"الأوسط" عن أبي هريرة رضي الله عنه بسند حسن عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال:

(( إِنَّ أَحَبَّكُمْ إِلَيَّ: أَحَاسِنُكُمْ أَخْلاَقاً، المُوَطَّئُونَ أَكْنَافاً، الَّذِينَ يَأْلَفُونَ وَيُؤْلَفُونَ. وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ: المَشَّاؤُونَ بِالنَّمِيمَةِ، المُفَرِّقُونَ بَيْنَ الأَحِبَّةِ، المُلْتَمِسُونَ لِلْبُرَآءِ العَيْبَ )).

- النّميمة تهدم ما بناه الله تعالى من الإصلاح بين النّاس:

فإنّ الإصلاح بين النّاس من أعظم وأجلّ القربات، قال عزّ وجلّ:{وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء:الآية 128].

وجعله خير الكلام، فقال:{لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء من:114]..

وجعله من لوازم التّقوى والإيمان، فقال:{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال: من الآية 1].

وأباح الله تعالى الكذب لأجل الإصلاح، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( لَيْسَ الْكَذابُ الذِي يُصْلَحَ بَيْنَ النَّاسِ فَيَنْمِي خَيْرًا أَوْ يَقُولُ خَيْرًا )) [متّفق عليه].

وعدّه صلّى الله عليه وسلّم من أسباب السِّيادة:(( إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ )).

هذه منزلة الإصلاح عند الله سبحانه وكيف يعظّمه، ثمّ يأتي النمّام فيهدره ويهدمه !

وقد قالوا:" عمل النمّام أضرّ من عمل الشّيطان، فإنّ عمل الشّيطان بالوسوسة وعمل النمّام بالمواجهة ".

وقال أكثم بن صيفي لبنيه: " إيّاكم والنّميمة، فإنّها نار محرقة، وإنّ النمام ليعمل في ساعة مالا يعمل السّاحر في شهر ".

ومن عجيب القصص: ما ذكره الهيتميّ رحمه الله في " الزّواجر " أنّه نودِي على عبدٍ يراد بيعُه: ليس به عيب إلاّ أنّه نمام !

فاشتراه من استخفّ بهذا العيب، فلم يمكث عنده أيّاما حتّى نمّ لزوجته: ( أنّه يريد فراقها )، وأمرها أن تأخذ الموسى وتحلق بها شعرات من حلقه ليسحره لها فيهنّ، فصدّقته، وعزمت على ذلك.

فجاء إليه، ونمّ له عنها ( أنّها اتّخذت لها خَدَناً أحبّته، وتريد ذبحك اللّيلة، فتناومْ لترى ذلك )، فصدّقه. فتناوَمَ، فجاءت لتحلِق، فقال: صدق الغلام، فلمّا هَوَت إلى حلقه أخذ الموسى منها وذبحها به، فجاء أهلها فرأوها مقتولة، فقتلوه، فوقع القتال بين الفريقين بشؤم ذلك النمّام !

أسباب النّميمة:

هناك سببان رئيسان يحملان العبد على كلّ شرّ، ارتكاب كلّ ضرّ، هما: الظّلم، والجهل، قال عزّ وجلّ عن الإنسان الّذي لم ينتفع بالوحي:{إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جًهُولاً}، ومن ذلك تكون هناك بواعث للنّميمة، وهي كثيرة، منها:

- أقبحها: إرادة التّفريق بين المتحابّين.

- وإرادة السّوء بالمحكيّ عنه.

- أو التقرّب للمحكيّ له.

- أو الفرح بالخوض في الفضول.

- ما يحصُل للنّمام من منفعة: مال، أو جاه، أو نحو ذلك.

- نُصرته للباطل، وهو يظنّه أنّه حقّ.

الدّواء:

قال الهيتميّ رحمه الله بتصرّف يسير -:

" ثمّ على من حُمِلت إليه النّميمة ك: فلان قال فيك، أو عمل في حقّك كذا، ستّة أمور:

1- ألاّ يصدّقَه; لأن النمّام فاسق إجماعا، وقد قال تعالى:{إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} الآية.

2- وأن ينهاه عن العود لمثل هذا القبيح دينا ودنيا.

3- وأن يبغضه في الله إن لم يُظهِر له التّوبة.

4- وألاّ يظنّ بالمنقول عنه سوءا; لأنّه لم يتحقّق أنّ ما نُقِل إليه عنه صدر منه.

5- وألاّ يحمِلَه ما حُكِي له على التجسّس والبحث حتّى يتحقّق; لقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا}.

6- وأن لا يرضى لنفسه ما نهى النمّام عنه فلا يحكي نميمته، فيقول: قد حكى لي فلان كذا؛ فإنّه يكون به نمّاما ومغتابا وآتيا بما عنه نهى.

من مواقف السّلف:

- قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله لمن نمّ له شيئا: إن شئت نظرنا في أمرك, فإن كذبت فأنت من أهل هذه الآية:{إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ}، وإن صدقت فمن أهل هذه الآية:{مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ}، وإن شئت عفونا عنك. فقال: العفو يا أمير المؤمنين، لا أعود إليه أبدا.

- وعاتب سليمان بن عبد الملك من نَمَّ عليه بحضرة الزّهري، فأنكر الرّجل، فقال له: من أخبرني صادق. فقال الزّهري: النمّام لا يكون صادقا. فقال سليمان: صدقت, اذهب أيّها الرّجل بسلام.

- وقال الحسن رحمه الله:" من نَمَّ لك نَمَّ عليك ".

وهذا إشارة إلى أن النمام ينبغي أن يُبغَض، ولا يُؤتَمن، ولا يوثق بصداقته، وكيف لا يبغض وهو لا ينفك عن الكذب والغيبة والقذف والخيانة والغل والحسد والإفساد بين الناس والخديعة, وهو ممّن سعى في قطع ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض.

- وزار بعضَ السّلف أخوه فنمّ له عن صديقه، فقال له: يا أخي أطلت الغَيْبَةَ وجئتني بثلاث جنايات: بغَّضْتَ إليّ أخي, وشغلت قلبي بسببه, واتّهمت نفسك الأمينة.

- وقيل: من أخبرك بشتم غيرك لك، فهو الشّاتم لك.

- وجاء رجل إلى علي بن الحسين رضي الله عنه، فنمّ له عن شخص، فقال: اذهب بنا إليه، فذهب معه وهو يرى أنه ينتصر لنفسه, فلمّا وصل إليه قال: يا أخي إن كان ما قلت فِيَّ حقّا يغفر الله لي, وإن كان ما قلت فِيَّ باطلا يغفر الله لك.

والله الموفّق لا ربّ سواه.



[1] عزاه في " كنز العمّال " إلى أبي نعيم عن جابر رضي الله عنه، والله أعلم بصحّته، ولكنّ الشّاهد في كلام الشّعبيّ رحمه الله.

[2] " السّلسلة الصّحيحة " (2849)، و" صحيح التّرغيب والتّرهيب" (2824).

أخر تعديل في الثلاثاء 25 ذو الحجة 1437 هـ الموافق لـ: 27 سبتمبر 2016 13:20
عبد الحليم توميات

آخر المواضيع:

الذهاب للأعلي