نصّ الجواب:
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:
فإنّ القول بأنّ هذه الآية أبلغ من الأخرى داخلٌ تحت تفاضل الآيات والسّور فيما بينها.
ولم يمنع من ذلك إلاّ أبو الحسن الأشعريّ، والقاضي أبو بكر الباقلاّني، وابن حبّان رحمهم الله، فقالوا:" الجميع كلام الله، وربّما أوهم تفضيل شيء من كلام الله على غيره نقصًا في المفضول ".
وبعضهم يعزو هذا القولَ إلى الإمام مالك رحمه الله، والحقّ أنّه لم يقل به، وربّما فهموا ذلك من كراهته رحمه الله أن تُعاد سورة وتردّد دون غيرها.
وجمهور أهل العلم أنّ هناك تفاضلا بين السّور، كما أنّ هناك تفاضلا بين الأيّام، والأماكن، والرّسل، والنّصوص كثيرة فيها التّصريح بذلك.
ففي حديث أبيّ بن كعب رضي الله عنه أنّ آية الكرسيّ أعظم آيات القرآن، وحديث أبي سعيد بن المعلّى رضي الله عنه أنّ الفاتحة أعظم سورة، والحديثان في الصّحاح، وغير ذلك.
ولوضوح الأمر قال ابن الحصّار رحمه الله:" العجب ممّن يذكر الاختلاف في ذلك مع النّصوص الواردة بالتّفضيل ! ".
وقول أهل العلم: هذه الآية أبلغ، تفضيل من جهة البلاغة الّتي هي ( البيان في إيجاز )، أو (حسن العبارة مع صحّة الدّلالة )، أو( القوّة في البيان مع حسن النّظام ).
ويدلّ على جواز ذلك زيادةً على ما ذكرنا:
- ما رواه مسلم عن عُقْبَةَ بنِ عامرٍ رضي الله عنه قال: قالَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( أَلَمْ تَرَ آيَاتٍ أُنْزِلَتْ اللَّيْلَةَ لَمْ يُرَ مِثْلُهُنَّ قَطُّ ؟ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}، وَ{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} )).
وفي رواية ابن حبّان وغيره قال صلّى الله عليه وسلّم: (( يَا عُقْبَةُ بْنَ عَامِرٍ، إِنَّكَ لَنْ تَقْرَأَ سُورَةً أَحَبَّ إِلَى اللهِ، وَلَا أَبْلَغَ عِنْدَهُ مِنْ أَنْ تَقْرَأَ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ }، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ لاَ تَفُوتَكَ فِي الصَّلاَةِ فَافْعَلْ )).
["صحيح التّرغيب والتّرهيب" (1485)].
- قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:" مَا فِي القُرْآنِ آيَةٌ أجْمَعُ لِحَلاَلٍ وَحَرَامٍ، وَأَمْرٍ وَنَهْيٍ، مِنْ هَذِهِ الآيَةِ:{إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإيتَاءِ ذِي القُرْبَى}". [رواه البخاري في " الأدب المفرد " وقال الألباني: حسن].
فقوله (أجمع) هي البلاغة عينها، حيث قلّ اللّفظ وغزُر المعنى.
وغير ذلك من الآثار.
ووما زال العلماء من المفسّرين وغيرهم يرجّحون قراءة على أخرى لكونها أبلغ، أو لكونها أعمّ، أو لكونها أكثر ترغيبا أو ترهيبا وغير ذلك.
- وهذا شيخ المفسّرين الإمام الطّبري رحمه الله كثيرا ما يقول إذا ذكر قراءتين:" والمختار منهما كذا ".
- وقالوا في قراءة ( مَلِكِ يوم الدّين ): هي أبلغ من ( مَالِكِ )؛ لأنّ كلّ ملك مالك، وليس كلّ مالك ملكا. [أشار إلى ذلك ابن عطيّة، والقرطبيّ، وابن كثير، والشّوكاني رحمهم الله].
- ورجّح ابن كثير رحمه الله الوقف على {لاَ رَيْبَ فِيهِ} على الوقف على {لاَ رَيْبَ}؛ لأمرين:
الأوّل: ليناسب ذلك آيةَ السّجدة.
والثّاني قال:" ولأنّه يصير قوله:{هُدًى} صفةً للقرآن، وذلك أبلغ من كون:{فِيهِ هُدًى} " اهـ.
- ورجّحوا قراءة {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } على {طَعَامُ مَسَاكِين}، قال القرطبيّ رحمه الله:
" قال أبو عبيد: فبينت أنّ لكل يوم إطعامَ واحد، فالواحد مترجم عن الجميع، وليس الجميع بمترجم عن واحد، وجمع المساكين لا يدري كم هم اليوم إلاّ من غير الآية " اهـ.
فإن قلت: هذا تفاضل بين القراءات لا بين الآيات ؟
فاعلم أنّ العلماء قالوا: إنّ تعدّد القراءات بمثابة تعدّد الآيات [انظر: "مجموع الفتاوى" (21/131)، و" مناهل العرفان "].
والله تعالى أعلم.