الخميس 19 محرم 1438 هـ الموافق لـ: 20 أكتوبر 2016 21:42

- مقارنة بين الخوارج على الأمراء والخوارج على العلماء (5)

الكاتب:  عبد الحليم توميات
أرسل إلى صديق

الشّبه السّادس: إنكارهم للمرحليّة في الدّعوة إلى الله تعالى.

الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:

فإنّ المرحليّة في الدّعوة - بمعناها الحقّ لا على مذهب المنسلخة من الدّين - أمرٌ بديهيّ لا يختلف فيه العلماء، ولا يشكّ في ثبوته العقلاء؛ لأنّها بمعنى: مراعاة الحال في الدّعوة إلى الله عزّ وجلّ:

حال الضّعف وحال القوّة ..

حال الجماعة وحال المجتمع ..

- وإنّك لترى غلاةَ التّكفير لا يُبالون بتغيّر أحوال الأمّة هذه الأيّام، وأنّها صارت قصعةً تداعى عليها اللّئام، فضعُفت من بعد قوّة، وذلّت من بعد عزّة، وفشا فيها الجهل، ورُفع منها العلم.

ثمّ تراهم ينزّلون أحكام التّكفير في غير محلّها ومن دون شروطها، ويحملون نصوص الجهاد في سبيل الله تعالى الّتي تخاطب دولةً بمؤسّساتها وجيشها وعتادها، على جماعة يعانون غربة بأوطانهم حتّى صار وطنُهم الغربة !

مع أنّ العلماء يفرّقون بين مرحلة الضّعف ومرحلة القوّة:

فمتى كان المسلمون ضعافا وجب عليهم العملُ بآيات الصّبر والعفو، ومتى كانوا أولي بأس وقوّة وجب عليهم العمل بآية السّيف [انظر: "الصّارم المسلول" لابن تيمية رحمه الله (ص 217)، و"زاد المعاد" (3/64)].

قال ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً}:

" كان المؤمنون في ابتداء الإسلام وهم بمكّة مأمورين بالصّلاة والزّكاة، وكانوا مأمورين بمواساة الفقراء منهم، وكانوا مأمورين بالصّفح والعفو عن المشركين والصّبر إلى حين، وكانوا يتحرّقون ويودّون لو أمروا بالقتال ليتشفّوا من أعدائهم ..."اهـ.

- والعجيب أنّ " غلاة التّجريح والتّبديع " على علم بهذا الأصل الأصيل، ولكنّهم يستحضرونه في معاملة أهل الكفر والإلحاد فقط، دون إخوانهم ممّن زلّت بهم الأقدام وضلّت بهم الأفهام !

وكان الأولى أن يستصحبوا هذا الأصل أيضا في معاملة أهل البدع، فإنّ زمن الصّحابة والتّابعين وأتباعهم، وعصر أئمّة السّلف وأصحابهم، غير الزّمن الّذي يعيشه المسلمون منذ قرون طويلة !

فلا يجوز أن ننزّل النّصوص الثّابتة عن السّلف في معاملة أهل البدع وقت ازدهار السنّة، وظهور السّبيل السّلفيّة، على زماننا الّذي انتشر فيه الباطل، واختلط فيه الحابل بالنّابل !

لقد كان السّلف رحمهم الله يشدّدون النّكير على المخالف؛ لأنّ أنوار السنّة كانت ظاهرة، وحججها كانت قاهرة، فقالوا: من قال: كلام الله تعالى مخلوق فهو كافر !

ومن قال: إنّ الله عزّ وجلّ ليس في السّماء فهو كافر ! وغير ذلك ممّا أُثِر عنهم.

أمّا في زمنٍ تدرّس فيه هذه العقائد الفاسدة في الجامعات !

وتؤلّف في نصرتها المؤلّفات !

فليس من الحكمة في شيء أن يشدَّد النّكير على المخالفين، وأن يقامَ سوقُ الهجر على المخطئين. بلْهَ أن تقامَ الحرب على من لم يبدِّعْهم ويشدّدْ النّكيرَ عليهم.

وإنّما يقام سوق العلم والرّحمة، حتّى يكون أهل السنّة أعلم النّاس بالحقّ، وأرحمهم بالخلق، ويُردّ الباطل والبدع بالّتي هي أحسن.

قال الله تعالى:{الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2)} [الرّحمن].

فقبل أن يذكر العلم ذكر الرّحمة؛ لأنّها السّبيل الأقوم إلى تقريب الحقّ للخلق:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [آل عمران: من 59].

وهاك مثالاً عمليّا يوضّح ذلك:

أرأيت لو أنّ سائلاً سألك عن معنى قوله تعالى:{الرَّحمْنَُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ؟

فإنّه لن يكُون هناك بدٌّ من أن تُجيبه الجوابَ العلميّ السّلفيّ، بأنّ الاستواءَ هو: العلوّ، وأنّ الله تعالى عالٍ على عرشه علوّا يليق بجلاله.

ولم يجُز لك أن تُجيبه بجواب أئمّة السّلف؛ فقد روى الأئمّة أنّ الإمام مالكاً رحمه الله قال حينَ سُئِل عن ذلك:" الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا ضالاًّ "، وأَمَر به أن يخرج من مجلسه !

فشدّتُهم على المخالف في تلك الأيّام، وعلى تلك الأحوال، هو الصّواب.

والاعتذار لمن بعدهم، وتعليمهم والرّفق بهم، هو الصّواب.

وهذا معنى الحكمة:{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)} [البقرة:269] أي: لا يفقه ذلك إلاّ أصحاب العقول الرّاجحة.

- وانظر إلى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، الّذي لم يُرَ مثلُه في الردّ على الأشاعرة، فضلاً عن غيرهم من المعتزلة والرّافضة والجهميّة والمرجئة ونحوهم:

هذا الإمام العلَم والجبل الأشمّ، تراه في الوقتِ نفسِه يقول عن الأشاعرة:

" وهم يُعَدّون من أهل السنّة والجماعة عند النّظر إلى مثل المعتزلة والرّافضة وغيرهم، بل هم أهلُ السنّة والجماعة في البلاد الّتي يكون أهلُ البدعِ فيها هم المعتزلة والرّافضة ونحوُهم " [" نقض التّأسيس" (2/87)].

فكيف بعد ذلك يُبدّعُ أهلُ السنّة الّذين يردّون على الأشاعرة أنفسهم، في بلد يُدعَى فيه إلى التّنصير والضّلال، والعلمانيّة والانحلال ؟!

الحاصل:

يقال لأهل الغلوّ في التّكفير: لا بدّ من تعليم النّاس التّوحيد والإيمان، وإخراجهم من ظلمات الشّرك والكفران، وبيان مظاهر الشّرك وأبوابه، وتحذير النّاس من الكفر وشِعابِه.

ويقال لأهل الغلوّ في التّجريح والتّبديع: لا بدّ من بيان السنّة وأنوارها، وتحذير النّاس من البدع وبيان أضرارها.

ولكن:

كلّ ذلك بالرّفق واللّين، والرّحمة والرأفة بالمنحرفين، مع الصّبر والثّبات وعدم الاستسلام، والتمسّك بالإيمان وسنّة النبيّ عليه الصّلاة والسّلام.

أمّا الشدّة فلا يُلجأ إليها إلاّ في مقام خاصّ، لا يدركه إلاّ العلماء والخواصّ.

وما أعظمَ كلمةَ الإمام ابن القيّم رحمه الله وهو يبيّن ضرورة الصّبر على هذا الطّريق أمام: جور الحكّام، وانحراف كثير من المنتسبين إلى الإسلام، حيث قال:

" ومن تأمّل أحوال العالم رأى هذا كثيرا:

فيمن يعين الرّؤساء على أغراضهم الفاسدة 

وفيمن يعين أهلَ البدع على بدعهم هربا من عقوبتهم.

فمن هداه الله وألهمه رشده، ووقاه شرّ نفسه، امتنع من الموافقة على فعل المحرّم، وصبر على عدوانهم، ثمّ تكون له العاقبة في الدّنيا والآخرة كما كانت للرّسل وأتباعهم " اهـ ["زاد المعاد" (3/14)].

[ يتبع إن شاء الله تعالى ]

أخر تعديل في الجمعة 20 محرم 1438 هـ الموافق لـ: 21 أكتوبر 2016 22:04
عبد الحليم توميات

آخر المواضيع:

الذهاب للأعلي