التّأويل في اللّغة من آل يؤول أولا، إذا رجع وانتهى إلى الشّيء، نحو قولك: مآل هذا الفعل النّدم، ومنه قوله تعالى:{ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}، أي مردًّا.
أمّا شرعا: فله معنيان:
أ) التّفسير: نحو قوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السّلام:{هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا}، وقوله حكاية عن ملأ الملك:{وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ}.
ومنه قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ ))، واشتهر عن ابن جرير رحمه الله قوله:" القول في تأويل كذا وكذا..".
ب) الحقيقة التي يصير إليها الكلام: وذلك بأن تخبر عن شيء ثمّ يحدث على وِفقِ ما أخبرت، ومن ذلك قوله تعالى:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالحَقِّ} الآية.
فتأويل ما أخبر الله تعالى به عن يوم القيامة هو نفس ما يحدث في ذلك اليوم.
وهذان المعنيان هما الثّابتان عن السّلف.
أمّا المعنى الثّالث فقد قال ابن تيمية رحمه الله:" أمّا التّأويل بمعنى صرف اللّفظ عن مفهومه إلى غير مفهومه فلم يكن معروفا عند السّلف " [المجموع (17/364-372)، و" نقض التّأسيس " (2/241)].
فلا يجوز حمل ألفاظ القرآن الكريم على اصطلاحات المتأخّرين، أي: لا يجوز لنا أن نفهم من قوله صلّى الله عليه وسلّم: (( عَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ )) بمعنى علّمه صرف اللّفظ عن ظاهره.
قال في "نقض التّأسيس": " التّأويل هو بيان مراد المتكلّم، وليس فقط بيان ما يحتمله اللّفظ في اللّغة ".
وملخّص كلام ابن تيمية رحمه الله وغيره أنّ صرف اللّفظ عن ظاهره إمّا أن يكون لدليل أو لغير دليل:
- فإن كان لدليل كان تفسيرا محمودا وبيانا للحقيقة الّتي يؤول إليها اللّفظ.
- وإن كان لغير دليل كان تفسيرا مذموما، وتسميته تحريفا أولى.
وقال رحمه الله في " الصّفدية " (1/291):
" وكان السّلف يُنكرون التّأويلات الّتي تُخرِج الكلام عن مراد الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم الّتي هي من نوع تحريف الكلم عن مواضعه، فكانوا يُنكِرون التّأويل الباطل الّذي هو التّفسير الباطل .."
يظهر لنا خطر التّأويل من وجوه عديدة، أهمّها:
1) أنّه ينافي أمر الله والتّسليم له بالطّاعة.
فالله عزّ وجلّ قد أمرنا بأن نُطيعه في كلّ أمر، وألاّ نقدّم رأيا ولا شيخا ولا عقلا على كلامه حتّى في مسائل الفروع كالوضوء والاستنجاء ونحو ذلك، فكيف بالعلم بالله وأسمائه وصفاته الّذي هو أشرف العلوم وأجلّها على الإطلاق ؟
وإنّ الرّسول صلّى الله عليه وسلّم قد بيّن شرع الله غاية البيان، والدّليل على ذلك أنّه لم يختلف الصّحابة رضي اله عنهم قط في مسائل الإيمان والأسماء والصّفات واليوم الآخر ونحو ذلك كما اختلفوا في الأحكام.
قال صدّيق حسن خان في " خبيئة الأكوان " (ص 266-267):
" اعلم أنّ الله تعالى لمّا بعث من العرب نبيّه محمّدا صلّى الله عليه وسلّم رسولا إلى النّاس جميعا، وصف لهم ربّهم عزّ وجلّ بما وصف به نفسه الكريمة .. فلم يسأله أحد من العرب بأسرهم: قرويّهم وبدويّهم عن معنى شيء من ذلك كما كانوا يسألونه عن أمر الصّلاة والزّكاة والصّيام والحجّ وغير ذلك ممّا لله فيه أمر ونهي، وكما سألوه عن أحوال القيامة والجنّة والنّار.
إذ لو سألوه عن شيء من الصّفات الإلهيّة لنُقِل كما نَقلت الأحاديث الواردة عنه صلّى الله عليه وسلّم في أحكام الحلال والحرام، وفي التّرغيب والتّرهيب، وأحوال القيامة والملاحم والفتن ونحو ذلك ممّا تضمّنته كتب الحديث ومعاجمها ومسانيدها وجوامعها.
ومن أمعن النّظر في دواوين الحديث النّبويّ، ووقف على الآثار السّلفيّة، علم أنّه لم يَرِد قط من طريق صحيح ولا سقيم عن أحد من الصّحابة رضي الله عنهم على اختلاف طبقاتهم وكثرة عددهم أنّه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن معنى شيء ممّا وَصَف الربّ سبحانه به نفسه في القرآن الكريم وعلى لسان نبيّه محمّد صلّى الله عليه وسلّم، بل كلّهم فهموا معنى ذلك، وسكتوا عن الكلام في الصّفات " اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في " مجموع الفتاوى " (6/394):
" الّذي أقوله الآن وأكتبه وإن كنت لم أكتبه فيما تقدّم من أجوبتي، وإنّما أقوله في كثير من المجالس أنّ جميع ما في القرآن من آيات الصّفات فليس عن الصّحابة اختلاف في تأويلها.
وقد طالعت التّفاسير المنقولة عن الصّحابة وما رووه من الحديث ووقفت من ذلك على ما شاء الله تعالى من الكتب الكبار والصّغار أكثر من مائة تفسير، فلم أجد إلى ساعتي هذه عن أحد من الصّحابة أنّه تأوّل شيئا من آيات الصّفات أو أحاديث الصّفات بخلاف مقتضاها المفهوم المعروف "اهـ.
2) أنّه يُنافي الأدب مع الله.
لأنّ المؤوّل يتّهم المتكلّم بالعيّ وعدم القدرة على البيان والإفصاح، ولمّا كانت نصوص العقائد أخذت جزءا كبيرا من كتاب الله تعالى كان ذلك معناه أنّ جزءا كبيرا من كلام الله غير مفهوم حتّى يُحتاج إلى تأويل علماء الكلام.
3) أنّه مفتاح شرّ على هذه الأمّة، قال ابن القيّم في " إعلام الموقّعين عن ربّ العالمين ":
" وبالجملة فافتراق أهل الكتابين، وافتراق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة إنّما أوجبه التّأويل.
وإنّما أريقت دماء المسلمين يوم الجمل وصفّين والحرّة وفتنة ابن الزّبير وهلمّ جرّا بالتّأويل.
وإنّما دخل أعداء الإسلام من المتفلسفة والقرامطة والباطنية والإسماعيلية والنصيرية من باب التأويل.
فما امتحن الإسلام بمحنة قط إلاّ وسببها التأويل؛ فإنّ محنته إمّا من المتأوّلين، وإمّا أن يسلّط عليهم الكفّار بسبب ما ارتكبوا من التأويل وخالفوا ظاهر التنزيل وتعللوا بالأباطيل.
فما الّذي أراق دماء بني جذيمة وقد أسلموا غير التأويل ؟ حتى رفع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يديه وتبرّأ إلى الله من فعل المتأوّل بقتلهم وأخذ أموالهم ؟
وما الّذي أوجب تأخر الصحابة رضي الله عنهم يوم الحديبية عن موافقة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غير التّأويل ؟ حتّى اشتدّ غضبه لتأخّرهم عن طاعته حتى رجعوا عن ذلك التأويل ؟
وما الّذي سفك دم أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه ظلما وعدوانا وأوقع الأمة فيما أوقعها فيه حتى الآن غير التأويل ؟
وما الذي سفك دم عليّ رضي الله عنه وابنه الحسين وأهل بيته رضي الله عنهم غير التأويل ؟
وما الذي أراق دم عمار بن ياسر وأصحابه غير التأويل ؟
وما الذي أراق دم ابن الزبير، وحجر بن عدي، وسعيد بن جبير، وغيرهم من سادات الأمة غير التأويل ؟
وما الذي أريقت عليه دماء العرب في فتنة أبي مسلم غير التأويل ؟
وما الذي جرّد الإمام أحمد بين العقابين وضرب السياط حتى عجت الخليقة إلى ربها تعالى غير التأويل ؟
وما الذي قتل الإمام أحمد بن نصر الخزاعي وخلد خلقا من العلماء في السجون حتى ماتوا غير التأويل ؟
وما الذي سلط سيوف التتار على دار الإسلام حتى ردوا أهلها غير التأويل ؟
وهل دخلت طائفة الإلحاد من أهل الحلول والاتحاد إلا من باب التأويل ؟.
قال أبو الوليد بن رشد المالكي في كتابه المسمى بالكشف عن مناهج الأدلة ":
" ومثال من أوّل شيئا من الشّرع وزعم أنّ ما أوّله هو الذي قصده الشّرع، مثال من أتى إلى دواء قد ركّبه طبيب ماهر ليحفظ صحّة جميع النّاس أو أكثرهم، فجاء رجل فلم يلائمه ذلك الدّواء الأعظم لرداءة مزاج كان به ليس يعرض إلا للأقل من النّاس، فزعم أن بعض تلك الأدوية التي صرح باسمها الطبيب الأول في ذلك الدواء العام المنفعة لم يرد به ذلك الدواء العام الذي جرت العادة في اللسان أن يدل بذلك الاسم عليه، وإنما أراد به دواء آخر مما يمكن أن يدل عليه بذلك باستعارة بعيدة، فأزال ذلك الدواء الأوّل من ذلك المركب الأعظم، وجعل فيه بدله الدواء الذي ظنّ أنه قصده الطبيب، وقال للناس: هذا هو الذي قصده الطبيب الأول !
فاستعمل الناس ذلك الدواء المركب على الوجه الذي تأوله عليه هذا المتأول، ففسدت أمزجة كثير من الناس، فجاء آخرون فشعروا بفساد أمزجة الناس من ذلك الدواء المركب، فراموا إصلاحه بأن بدلوا بعض أدويته بدواء آخر غير الدواء الأول؛ فعرض من ذلك للناس نوع من المرض غير النوع الأول !
فجاء ثالث، فتأول من أدوية ذلك المركب غير التأويل الأول والثاني، فعرض للناس من ذلك نوع ثالث من المرض غير النوعين المتقدمين ! فجاء متأول رابع فتأول دواء آخر غير الأدوية المتقدمة؛ فعرض منه للناس نوع رابع من المرض غير الأمراض المتقدمة !
فلما طال الزمان بهذا الدواء المركب الأعظم، وسلط الناس التأويل على أدويته، وغيّروها وبدّلوها عرض منه للناس أمراض شتّى، حتى فسدت المنفعة المقصودة بذلك الدواء المركب في حقّ أكثر الناس.
وهذه هي حالة الفرق الحادثة في هذه الشريعة مع الشريعة، وذلك أن كل فرقة منهم تأولت غير التأويل الذي تأولته الفرقة الأخرى، وزعمت أنه هو الذي قصده صاحب الشرع حتّى تمزّق الشّرع كلّ ممزّق، وبعد جدا عن موضوع الأول .." اهـ.
4) أنّ التّأويل طريق الكفر والعياذ بالله: يقول ابن تيمية رحمه الله في "درء التّعارض" (5/10):
" ونُلزِم كلّ من سلك سبيل التّأويل بلازم لا ينفكّ عنه إلاّ مكابرةً، وهو أنّ ما يسلكه المتكلّمون من الأشاعرة وغيرهم في تأويل الصّفات، هو بعينه ما يسلكه الملاحدة الدّهريّة في إنكار ما أخبر الله به عباده من أمور اليوم الآخر والمعاد كابن سينا في "الرّسالة الأضحويّة".
وينتج عن هذا أحد ثلاثة أمور:
- إمّا الاعتراف بمنهج السّلف، والرّجوع إليه.
- وإمّا الاعتراف بتأويل الدّهريّة ومنكري المعاد.
- وإمّا الحيرة والشكّ كما وقع لكثير منهم ".
وللأسف فإنّنا نجد بعض أعلام الأشاعرة كابن رشد في "فصل المقال" (49-50) يقول:" ويشبه أن يكون المخطئ في هذه المسألة [أي: المعاد] من العلماء معذورا، والمصيب مشكورا مأجورا.." فنصوص المعاد لديه قابلة للتّأويل !.
أمّا الغزالي، فعندما شعر بقوّة هذا الإلزام، لجأ إلى أنّ الدّليل على المعاد هو الكشف. ["الإحياء"(1/104)].
[انظر "درء التّعارض (5/301-302)"].
- قاعدة: القرائن المتّصلة بالخطاب لا تعدّ تأويلا.
وقد ضلّ في هذا طائفتان:
- الأولى: ظنّت أنّه إذا كان بعض النّصوص ليس على ظاهرها، فإنّه دليل على جواز التّأويل، كحديث ( عبدي مرضت ولم تعدني )، ونحوه، فقالوا: هذا دليل على جواز التأويل.
- وأخرى عكست الأمر كلّه، فأبقت جميع ذلك على ظاهره.
والحقّ، أن نفرّق بين نصوص الصّفات، والنّصوص التي تدلّ على الصّفات، والنّصوص التي لا تدلّ على الصّفات.
ولابن تيمية رحمه الله كلام نفيس – كما في "المجموع " (6/13-15) بيانا لهذه القاعدة، وملخّصه:
أنّ نصوص الصّفات يُفسّر كلّ منها بحسب السّياق واللّحاق، والقرائن تدلّ إن كان منها أو لا.
فليس معنى الإتيان في كلّ نصّ معناه إتيانه بنفسه، فقد يراد به ذلك كما في قوله تعالى:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} [البقرة:210]، وأحيانا لا يكون منها، كما في قوله تعالى:{فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: من الآية26] {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} [الحشر: من الآية2].
إذن فالنّصوص ثلاثة-كما في "درء التّعارض"(2/541)-:
- نصوص صفات، كقوله تعالى:{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54].
- ونصوص تدلّ على الصّفات، كقوله تعالى:{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:115].
فالمقصود منها القبلة كما قال قتادة والشّافعي، ولكنّها تدلّ على الصّفة، إذ ما أراد أن يضع كلمة ( وجه الله ) مكان القبلة إلاّ لوجود الوجه حقيقة.
- ونصوص ليس المراد منها إثبات الصّفة ولا تدلّ على الصّفة، كقوله في الحديث القدسي: ( مرضت ولم تعدني )، و{أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: من الآية56]، و(الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري)، و(كنت سمعه الذي يسمع به..)، وغير ذلك ممّا تدلّ القرائن على أنّها لم تُسَق لأجل إثبات الصّفة.
والله الموفّق لا ربّ سواه.