أخبار الموقع
***تقبل الله منا ومنكم، وكل عام أنتم بخير أعاده الله على الأمّة الإسلاميّة بالإيمان والأمن واليمن والبركات***
لطرح استفساراتكم وأسئلتكم واقتراحاتكم اتّصلوا بنا على البريد التّالي: [email protected]
شرح الأصول الثّلاثة

شرح الأصول الثّلاثة (17)

من سلسلة: شرح الأصول الثّلاثة

العنوان

استماع المادة

تحميل المادة

تحميل الدّرس مكتوبا

- شرح الأصول الثّلاثة (10) لماذا التّذكير بتوحيد الألوهيّة ؟

الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:

  • · قوله رحمه الله: ( وأعظمُ ما أَمرَ اللهُ به التّوحيدُ ): فبعد أن بيّن رحمه الله أنّ الله تعالى قد أمر الخلق جميعا بتوحيده وإخلاص العبادة له، ذكّر بمنزلة التّوحيد من الدّين؛ وأنّه أوّل الأمر وآخره، وباطن الدّين وظاهره. 

وهذا التّذكير لا بدّ منه لأمور:

 

أوّلها: أنّ هذه هي سنّة المولى تبارك وتعالى، فلا يزال يذكّر الأنبياء والمرسلين بتوحيده، وينهاهم عن الإشراك به، فقال عزّ وجلّ:{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزّمر:65]، وقال:{وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس:106]، وقال:{وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [القصص من: 88]، {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يونس:105]، وغير ذلك ممّا لا يُحصَى من الآيات. 

بل إنّ الله ذكر مزايا سبعة عشر رسولا، ثمّ بيّن أنّه لو لاقَوْه بشيءٍ من الشّرك لحبط عنهم عملهم، فقال تعالى:{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلّاً هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلّاً فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88)} [الأنعام].

ثانيا: أنّ هذه هي سنّة المرسلين.

فإمام الحنفاء إبراهيم عليه السّلام يتعاهد أبناءه - وهم من الأنبياء - بكلمة التّوحيد، وتبعه يعقوب عليه السّلام على ذلك.

ونوح عليه السّلام من قبل يُوصِي ابنه قائلا -كما في " المسند "-: (( إِنَّ نَبِيَّ اللهِ نُوحًا عليه السّلام لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ لِابْنِهِ: إِنِّي قَاصٌّ عَلَيْكَ الوَصِيَّةَ: آمُرُكَ بِاثْنَتَيْنِ وَأَنْهَاكَ عَنْ اثْنَتَيْنِ: آمُرُكَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ ... وَأَنْهَاكَ عَنْ الشِّرْكِ ... )).

مع أنّ ابنه قد عاين الطّوفان الّذي ما جعله الله عذابا إلاّ لأجل الشّرك، ونحن نظنّ أنّه لا يمكن أن يعود أحدٌ إلى الشّرك لو عاين الطّوفان، لكنّ نوحا لا يفكّر كتفكيرنا، إنّه يعلم أنّ الشّيطان لن يقصّر في إيقاع النّاس في أوحال الشّرك.

أمّا نبيّ الله محمّد صلّى الله عليه وسلّم فكان يتعاهد أصحابه رضي اله عنهم - وهم من هم ؟- بالنّهي عن الشّرك بالله تعالى:

فهذا ابن مسعود رضي الله عنه يأتيه فيقول له: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ ؟ قال: (( أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ )).

وفي الصّحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ )) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا هُنَّ ؟ قالَ: (( الشِّرْكُ بِاللهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلَاتِ )). وغير ذلك.

حتّى الشّرك الأصغر كان صلّى الله عليه وسلّم لا يترك فرصة إلاّ وذكّرهم بخطره، وقبحه وضرره، فقد روى الإمام أحمد وابن ماجه عن أبي سعِيدٍ رضي الله عنه قال: خَرَجَ عَلَينَا رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم ونحنُ نَتَذَاكَرُ المَسِيحَ الدّجّالَ، فقال: (( أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنْ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ )) قلْنَا: بلى! فقالَ: (( الشِّرْكُ الْخَفِيُّ، أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ يُصَلِّي فَيُزَيِّنُ صَلَاتَهُ لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ )).

وكان من دعاء الخليل عليه السّلام قوله: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ}؛ فمن يأمن على نفسه بعد ذلك إلاّ من قال تعالى فيه:{وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} ؟

ثالثا: أنّ الشّرك عاد إلى هذه الأمّة كما أخبر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.

فقد روى التّرمذي وغيره عنْ ثوبانَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَلْحَقَ قَبَائِلُ مِنْ أُمَّتِي بِالْمُشْرِكِينَ، وَحَتَّى يَعْبُدُوا الْأَوْثَانَ )).

فقد دبّ الشّرك من جديد بدءا من صرف كثير من العبادات لغيره تعالى: كالدّعاء، والذّبح، والاستغاثة، والطّواف بغير بيته سبحانه، إلى

انتشار سبّ الله ورسوله ودينه ! إلى انتشار السّحرة والمشعوذين باسم الرّقى الشّرعيّة ! إلى انتشار الكهانة باسم الأبراج على صفحات الجرائد.

رابعا: جهل أكثر النّاس بمعنى لا إله إلاّ الله.

ولمّا كان أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أدركوا معنى الشّرك بالله، سمعنا عمرَ بنَ الخطّاب رضي الله عنه يقول لحذيفة بن اليمان رضي الله عنه: أنشدك الله ! هل سمّاني لك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع من سمّى من المنافقين ؟ فقال حذيفة: لا ، ولا أزكّي أحداً بعدك أبدا، فبكى عمرُ رضي الله عنه.

وقال ابن أبى مليكة - كما في صحيح البخاري -:" أدركت ثلاثين من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كلّهم يخاف النّفاق على نفسه ! فلا يأمن النّفاق إلاّ منافق، ولا يخاف النّفاق إلاّ مؤمن. 

خامسا: أنّ الله تبارك وتعالى قد يغفر للعبد كلّ شيء، إلاّ الشّرك به.

فالله الّذي وسعت رحمته كلّ شيء، وهو أرحم بعبده من الأمّ الرّءوم بولدها ! الله الّذي يوم خلق السّموات والأرض كتب كتابا فهو عنده تحت العرش: (( إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي )) ! يقول:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [النساء:48].

لذلك ذكّر المؤلّف بمنزلة التّوحيد من الدّين، وأنّه أعظم الحسنات في دين الله عزّ وجلّ.

والتّوحيد في اللّغة: هو الإفراد وجعل الشّيء واحدا، كما أنّ التّثنية جعل الشّيء اثنين، والتّثليث جعله ثلاثةً.

وفي الشّرع هو ثلاثة أنواع:

أ) توحيد الرّبوبيّة: وهو الاعتقاد الجازم بأنّ الله هو ربّ الكون وحده ومليكه ومدبّره.

ب) توحيد الأسماء والصّفات: وهو إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه أو رسوله صلّى الله عليه وسلّم من صفات الكمال ونعوت الجلال، من غير تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل.

ج) توحيد الألوهيّة: وهو ما ذكره رحمه الله بقوله:

  • · ( وهو: إفرادُ اللهِ بالعبادة ): أي: صرف جميع العبادات الفعليّة والقوليّة والظّاهرة والباطنة لله وحده دون غيره.

ولا بدّ من أن نلحظ أنّ الألف واللاّم في قوله: ( التّوحيد ) للعهد الذّكري، أي: الّذي سبق له ذكر عند الحديث عن ملّة إبراهيم عليه السّلام، وإلاّ فإنّه أنواع ثلاثة كما ذكرنا. 

وإنّما خصّ المؤلّف رحمه الله التّوحيد بتوحيد العبادة؛ لأمور:

أ) أنّه هو التّوحيد الّذي دعا إليه جميع الرّسل.

ب) وأنّه هو التّوحيد الّذي وقعت فيه الخصومة بين المرسلين وأعدائهم.

ج) أنّ المشركين كانوا مقرّين بتوحيد الرّبوبيّة كما سبق بيانه.

د) وأنّ توحيد الألوهيّة متضمّن لتوحيد الرّبوبيّة، ومستلزم للإيمان بالأسماء الحُسنَى والصّفات العُلى، حتّى إنّ أهل العلم فسّروا الشّهادة بأنّ معناها: لا معبود بحقّ إلاّ الله تعالى.

  • · ( وأعظمُ ما نهى عنه الشّركُ ): أي: هو أعظم السّيّئات على الإطلاق، وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه السّابق ذكرُه أنّه قال: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ ؟ قال صلّى الله عليه وسلّم: (( أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ ))، قلتُ: ثُمَّ أَيُّ ؟ قال: (( أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَأْكُلَ مَعَكَ ))، قال: ثُمَّ أَيُّ ؟ قال: (( أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ ))، وأنْزَلَ اللهُ تَصْدِيقَ قوْلِ النّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم:{والَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ} الآية. 

وفي الحديث الّذي رواه التّرمذي عن أنسِ بنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يقولُ: (( قالَ الله تبارك وتعالى: يَا ابنَ آدَمَ، إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي .. يَا ابنَ آدَمَ، لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي، غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِي .. يَا ابنَ آدَمَ، إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً )). 

وروى الترمذي وابن ماجه وأحمد عن عبدِ اللهِ بنِ عمرِو بْنِ العَاصِ رضي الله عنه قال: قال رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( إِنَّ اللهَ سَيُخَلِّصُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلًّا، كُلُّ سِجِلٍّ مِثْلُ مَدِّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يقولُ:

أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا ؟ أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي الْحَافِظُونَ ؟ فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ.

فيقولُ: أَفَلَكَ عُذْرٌ ؟ فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ.

فيقولُ: بلَى، إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً، فَإِنَّهُ لَا ظُلْمَ عَلَيْكَ اليوْمَ ! فَتَخْرُجُ بِطَاقَةٌ فِيهَا:" أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ"، فَيَقُولُ: احْضُرْ وَزْنَكَ ! فيقولُ: يَا رَبِّ، مَا هَذِهِ البِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلَّاتِ ؟ فقالَ: إِنَّكَ لَا تُظْلَمُ.

قال: فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كَفَّةٍ، وَالبِطَاقَةُ فِي كَفَّةٍ، فَطَاشَتْ السِّجِلَّاتُ، وَثَقُلَتْ الْبِطَاقَةُ، فَلَا يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ اللَّهِ شَيْءٌ )).

فهذا الحديث كما أنّه يدلّ على فضل من مات على التّوحيد، فإنّ فيه بيانَ فظاعة الشّرك، حيث إنّ كلمة " لا إله إلاّ الله " على ثقلِها قد نقضها المشرك، فصار الشّرك بالله أثقل منها، فلم تنفع قائلَها !

  • · قال رحمه الله: ( وهو دعوةُ غيرهِ معهُ ): فكما خصّ التّوحيد بتوحيد الألوهيّة، نراه خصّ الشّرك بشرك الألوهيّة. 

ولا بدّ أن نلحظ أنّه كان من المفترض أن يعرّفه بما يقابل التّوحيد، فيقول: وهو عبادة غيره معه. لكنّه ذكر الدّعاء فحسب، وتوجيه ذلك بأحد أمرين: 

أ) أنّه عرّف الشّيء ببعض أجزائه.

ب) أو أراد بالدّعاء هنا هو العبادة، فالعابد سائلٌ بحاله متوسّل بأعماله، لأنّ الحامل على العبادة هو الرّهبة والرّغبة.

وهذا القول أقرب؛ ليقابل تعريف الشّرك تعريفه للتّوحيد.

فكلّ مأمور واجب أو مستحبّ صُرف لله فهو التّوحيد والإيمان والإخلاص.

· قال: (والدّليل قوله تعالى:{وَاعْبُدُوا اللهَ }: وقد سبق بيان معنى العبادة، ولكن لمّا كانت العبادة وحدها لا تُغنِي، عطف الله على الأمر بالعبادة قولَه:{وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}: وكلمة (شيئا) نكرة في سياق النّهي تفيد العموم، وقد سبق تقرير ذلك أيضا.

 

 

 

 

  

  

 : 

من سلسلة: شرح الأصول الثّلاثة

العنوان

استماع المادة

تحميل المادة

تحميل الدّرس مكتوبا

- شرح الأصول الثّلاثة (11) الأصل الأوّل: معرفة الله عزّ وجلّ

الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد: 

  • · قال رحمه الله:

( فَإِذَا قِيلَ لَكَ: مَا الأُصُولُ الثلاثةُ التي يجبُ على الإنسانِ معرفتُها ؟ فقُلْ: معرِفةُ العبدِ رَبَّهُ، ودينَهُ، ونبيَّهُ محمّدًا صلّى الله عليه وسلّم. 

فإذا قيلَ لكَ: مَنْ رَبُّكَ ؟ فقل: ربيَّ اللهُ الّذي ربّاني ورَبَّى جميعَ العالمينَ بنعمِهِ، وهو معبودي ليس لي معبودٌ سواهُ، والدّليلُ قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَوكلُّ ما سِوَى اللهِ عالََمٌ، وأنا واحدٌ من ذلكَ العالَمِ ).

فبعدما بيّن المؤلّف رحمه الله أنّ أعظم الحسنات على الإطلاق هو التّوحيد، وأنّ أعظم السّيئات على الإطلاق هو الشّرك بربّ العبيد، شرع يبيّن أصولَه وأسُسه.

وشرع في بيان أصول التّوحيد على طريقة السّؤال والجواب المثيرة للانتباه والاهتمام، وفي السنّة أمثلة كثيرة على التّعليم بطريقة السّؤال والجواب، كقوله صلّى الله عليه وسلّم: (( يا مُعَاذُ، أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى العِبَادِ ؟)) قال: اللهُ ورسولُهُ أَعْلَمُ، قال: (( أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا. أَتَدْرِي مَا حَقُّهُمْ عَلَيْهِ ؟)) قال: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قال: (( أن لا يُعَذِّبَهُمْ ))، وغير ذلك.

  • · قال رحمه الله: ( فَإِذَا قِيلَ لَكَ: مَا الأُصُولُ الثّلاثةُ ): وتسميتُها بالأصول فيه بيانٌ لأهمّيتها؛ لأنّ الأصل هو ما ينبنِي عليه غيرُه. 

كما أنّ فيه ردّاً على أهل الكلام الّذين جعلوا من قواعدهم الفلسفيّة أصولا.

  • · قوله رحمه الله: ( الّتي يجبُ على الإنسانِ معرفتُها ؟): وهذا الوجوب وجوب الأركان، أي: الّتي لا يصحّ إيمان العبد إلاّ بها، ولا نجاة له إلاّ بتحقيقها. 
  • · قوله رحمه الله: ( فقُلْ ): معتقِدا اعتقادا جازما لا شكّ فيه ولا ارتياب؛ لأنّ العقيدة مأخوذة من العقد، وهو شدّة الرّبط والإحكام. 
  • · قال: ( معرِفةُ العبدِ رَبَّهُ، ودينَهُ، ونبيَّهُ محمّدًا صلّى الله عليه وسلّم ): وهي أسئلة القبر الثّلاثة، فمن تعلّمها وأقامها فهو من أهل النّجاة والسّعادة الأبديّة، وإلاّ كان من أهل الشّقاء والتّعاسة السّرمديّة. 

وفي سنن التّرمذي عن عثمَانَ رضي الله عنه كان إذَا وَقَفَ علَى قَبْرٍ بَكَى حَتّى يَبُلَّ لِحْيَتَهُ ! فقيلَ لهُ: تُذْكَرُ الجَنَّةُ وَالنّارُ فَلا تَبْكِي، وَتَبْكِي من هذَا ؟! فقالَ: إنَّ رسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( إِنَّ القَبْرَ أَوَّلُ مَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ الآخِرَةِ، فإِنْ نَجَا مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَيْسَرُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ )) قال: وقالَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( مَا رَأَيْتُ مَنْظَرًا قَطُّ إِلَّا القَبْرُ أَفْظَعُ مِنْهُ )).

ويدلّ على هذه الأسئلة حديثُ البراء بن عازبٍ رضي الله عنه الطّويل، وفيه يقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعد أن ترفع روح المؤمن إلى السّماء، قال: (( فَيَقُولُ اللهُ جلّ جلاله: اُكْتُبُوا كِتَابَ عَبْدِي فِي عِلِّيينَ، وَأَعِيدُوهُ إِلَى الأَرْضِ فِي جَسَدِهِ.

فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ، فيُجْلِسَانِهِ، فَيَقُولاَنِ: مَنْ رَبُّكَ ؟ فَيَقُول: رَبِّيَ اللهُ.

فَيَقُولاَن: مَا دِينُكَ ؟ فَيَقُولُ: دِينِيَ الإِسْلاَمُ.

فَيَقُولاَنِ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ ؟ فَيَقُولُ: هُوَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم. فَيَقولاَنِ: مَا يُدْرِيكَ ؟ فَيَقُولُ: قَرَأْتُ كِتَابَ اللهِ وَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُهُ.

قال في رواية: فذلك قول الله عزّ وجلّ:{يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27].

ثمّ بعد ذلك يقول: (( فَيُنَادِي منَادٍ مِن السَّمَاءِ: أَنْ قَدْ صَدَقَ عَبْدِي، فَأَفْرِشُوهُ مِنْ الجَنَّةِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الجَنَّةِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنْ الجَنَّةِ. قال: فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا، وَطِيبِهَا، وَيُفْتَحُ لَهُ فِيهَا مَدَّ بَصَرِهِ )).

قال صلّى الله عليه وسلّم في رواية التّرمذي عن أبي هريرةَ رضي الله عنه: (( فيقولانِ: نَمْ كَنَوْمَةِ الْعَرُوسِ الَّذِي لَا يُوقِظُهُ إِلَّا أَحَبُّ أَهْلِهِ إِلَيْهِ )).

ثمّ ذكر الكافر - وفي رواية: الفاجر -: (( فذكَرَ مَوْتَهُ، قال: وَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ، فَيُجْلِسَانِهِ.

فَيقولان لَهُ: مَنْ رَبُّكَ ؟ فيَقولُ: هَاهْ هَاهْ هَاهْ ! لا أَدْرِي.

فيقولان لَهُ: مَا دِينُكَ ؟ فيَقولُ: هَاهْ هَاهْ ! لا أَدْرِي.

فيقولان: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ ؟ فيقولُ: هَاهْ هَاهْ ! لا أَدْرِي.

فيُنَادِي مُنَادٍ مِنْ السَّمَاءِ: أَنْ كَذَبَ ! فَأَفْرِشُوهُ مِنْ النَّارِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنْ النَّارِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إلى النَّارِ. قال: فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا، وَسَمُومِهَا، وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلَاعُهُ )).

زاد في حديثِ جريرٍ رضي الله عنه: (( ثُمَّ يُقَيَّضُ لَهُ أَعْمَى أَبْكَمُ مَعَهُ مِرْزَبَّةٌ مِنْ حَدِيدٍ، لَوْ ضُرِبَ بِهَا جَبَلٌ لَصَارَ تُرَابًا ! فَيَضْرِبُهُ بِهَا ضَرْبَةً يَسْمَعُهَا مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ )).

وجاء في رواية أنّه يقول: (( رَبِّ، لاَ تُقِمِ السَّاعَةَ ! رَبِّ لاَ تُقِمِ السَّاعَةَ !)).

فأوّل واجب على المكلّف أن يعرف ربّه سبحانه، ونبيّه صلّى الله عليه وسلّم، ودينه الحنيف، وليس له ذلك إلاّ بتدبّر كتاب الله وسنّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم. وكما قال أهل العلم:" قد تجلّى الله لعباده في كتابه بما لا مزيد لمستزيد ".

وتأمّل الحديث السّابق حين يقول الملكان:" مَا يُدْرِيكَ ؟ فيقولُ: قَرَأْتُ كِتَابَ اللهِ، وَآمَنْتُ بِهِ، وَصَدَّقْتُهُ "، ممّا يدلّ على أنّ معرفة الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم لا تحصُل إلاّ من الوحي.

لذلك روى أبو نعيم في " حلية الأولياء " عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُحِبَّ اللهَ وَرَسُولَهُ فَلْيَقْرَأْ فِي المُصْحَفِ )) [وهو حسن كما في " السّلسلة الصّحيحة " (2342)].

( ودينَه ): أي: الطّريق الّذي يُعبد الله تعالى به، ولا سبيل إلى معرفة الدّين الصّحيح إلاّ عن طريق النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه الكرام، كما في قوله صلّى الله عليه وسلّم: (( وإِنَّ بنِي إسرَائِيلَ تفرَّقَتْ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً؛ كُلُّهُمْ فِي النَّارِ، إِلاَّ مِلَّةً وَاحِدَةً )) قال - أي: عبد الله بن عمرو راوي الحديث -: من هي يا رسول الله ؟ قال: (( مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي )) [رواه الترمذي].

وبعد أن ذكر رحمه الله الأصولَ الثّلاثةَ إجمالا، شرع في تفصيلها وشرحها وبيانها، فقال:

  • · ( فإذا قيلَ لكَ: مَنْ رَبُّكَ ؟): الربّ: كلمة تطلق في اللّغة على معان ثلاثة كلّها ثابتة لله تبارك وتعالى، وقد ذكرها العلماء متفرّقة، وجمعها الإمام الطّبريّ في " تفسيره "، وهي:

1- المالك للشّيء: فربّ الدّار هو مالكها، ومنه حديث اللّقطة: (( اعْرِفْ وِكَاءَهَا - هو الخيط الّذي تربط به - وَعِفَاصَهَا - أي: وعاءها -، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً ثُمَّ اسْتَمْتِعْ بِهَا، فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا فَأَدِّهَا إِلَيْهِ )).

قال الزّجّاجي رحمه الله في " اشتقاق أسماء الله " (ص 32):" وكلّ من ملك شيئا فهو ربّه، يقال: هذا ربّ الدّار، وربّ الضّيعة، ولا يقال: الربّ معرّفا بالألف واللاّم مطلقا إلاّ لله تعالى؛ لأنّه مالك كلّ شيء " اهـ. فهو لا يستعمل في حقّ غير الله تعالى إلاّ مضافا.

2- السيّد المطاع، ومنه قوله تعالى:{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً} [يوسف: من الآية 41]، وقوله:{وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: من الآية 42]، ومنه: ربَّ فلانٌ القوم أي: سادهم وساسهم، ومنه قول صفوان بن أميّة: لأن يربّني رجل من قريش أحبّ إليّ من أن يرُبَّني رجل من هوازن.

3- المصلح للشّيء؛ لأنّ الربّ كلمة مشتقّة من التّربية، قال الرّاغب الأصفهانيّ في " المفردات " (ص 184):

" الربّ في الأصل التّربية، وهي إنشاء الشّيء حالا فحالا إلى حدّ التّمام ". ومنه اشتُقّ لفظ الرّبيبة، لأنّ من تكون في حجره يصلحها ويدبّر أمرها إلى أن تصل حدّ التّمام. ومنه سمّي العالم الّذي يعلّم النّاس ما يصلحهم في الدّارين شيئا فشيئا ( الربّانيّ )، ذكر البخاري عن ابنِ عبّاسٍ أنّه قال في قوله تعالى:{وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ}: حُلَمَاءَ فُقَهَاءَ، قال: وَيُقَالُ: الرَّبَّانِيُّ الَّذِي يُرَبِّي النَّاسَ بِصِغَارِ العِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ.

الحاصل: قال الطّبريّ رحمه الله:" فربّنا عزّ وجلّ: السيّد الّذي لا شبه له ولا مثل في سؤددِه، والمصلح في أمر خلقه بما أسبغ عليهم من نعمه، والمالك الّذي له الخلق والأمر".

والتّربية بمعنى التّنشئة نوعان:

تربية عامّة، يشترك فيها المؤمن والكافر، والبرّ والفاجر، والإنسان والحيوان والجماد وغير ذلك. قال تعالى في الحوار الّذي دار بين موسى عليه السّلام وفرعون:{قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)} [طه].

تربية خاصّة، قال السّعدي رحمه الله في " تفسيره ":" ( الربّ ) هو المربّي جميع عباده بالتّدبير وأصناف النّعم، وأخصّ من هذا تربيته لأصفيائه بإصلاح قلوبهم وأرواحهم وأخلاقهم، ولهذا كثُر دعاؤهم بهذا الاسم الجليل، لأنّهم يطلبون منه هذه التّربية الخاصّة ".

لذلك ذكر المصنّف رحمه الله هذا المعنى، فقال:

  • · ( فقل: ربيَّ اللهُ ): ولفظ الجلالة هو علمٌ على الإلهِ المستحقِّ للعبادة.

وهو مشتقّ من الألوهيّة والإلهيّة، وهي العبوديّة المقترنة بالمحبّة، تقول العرب: أله الشّيءَ أي: عبده وذلّ له وأحبّه.

فأصل لفظ الجلالة ( الله ) - كما قال الكسائي والفرّاء وأبو الهيثم -: أصله الإله، حذفوا الهمزة وأدخلوا الألف واللاّم، ثمّ أدغمت اللاّم في الأخرى.

ونظيره كلمة " الأُناس "، فقد حذفوا الهمزة فقالوا: النّاس.

فالله من إله بمعنى مألوه، ككتاب بمعنى مكتوب، وفراش بمعنى مفروش، وبساط بمعنى مبسوط، وإمام بمعنى مأموم أي: يقصده النّاس.

فالإله معناه الّذي يألهه الخلق ويحبّونه، ويذلّون له، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

" فإنّ الإله هو المحبوب المعبود الذي تألهه القلوب بحبّها، وتخضع له وتذلّ له وتخافه وترجوه وتنيب إليه في شدائدها، وتدعوه في مهمّاتها، وتتوكّل عليه في مصالحها، وتلجأ إليه وتطمئنّ بذكره وتسكن إلى حبّه، وليس ذلك إلاّ لله وحده؛ ولهذا كانت لا إله إلاّ الله أصدقَ الكلام، وكان أهلُها أهلَ الله وحزبَه، والمنكرون لها أعداءَه وأهلَ غضبه ونقمته، فإذا صحّت صحّ بها كلّ مسألة وحال وذوق، وإذا لم يصحّحها العبد فالفساد لازم له في علومه وأعماله "اهـ.

  • · قوله رحمه الله: ( الّذي ربّاني ): أي: الّذي يرعاني ويكلأني وينْعِم عليّ، فمعنى الربّ هو الخالق الرّازق الّذي يرعَى عباده.
  • · قوله رحمه الله: ( ورَبَّى جميعَ العالمينَ بنعمِهِ ): فتربيته سبحانه وتعالى لخلقه تشمل الخلق جميعهم، كما سبق بيانه في أنواع التّربية.

والعالمون: جمع عالَم - كما سيأتي -.

  • · قوله رحمه الله: ( وهو معبودي ): فيه بيان غاية الرّبوبيّة، وهو إقامة العبوديّة لله؛ لذلك استحسن بعض شرّاح الرّسالة أن يقول: فهو معبودي؛ لأنّ الفاء تدلّ على التّعليل.
  • · قال رحمه الله: ( ليس لي معبودٌ سواهُ ): أتى بنفي غيره، ليشير إلى أنّ المقصود هو إخلاص العبادة له وحده سبحانه. فلم يكتفِ بمجرّد إثبات العبادة لله؛ قال تعالى:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106].
  • · قوله: ( والدّليلُ قوله تعالى:{الحَمْدُ للهِ رَبِّ العالَمِينَ}): والحمد هو وصف الممدوح بالكمال، إمّا لصفاته الذّاتية، أو لإحسان وإنعام، فتقول: حمِدت له شجاعته وكرمه، وحمدته لعطائه، فهو ضدّ الذمّ كما في " لسان العرب".

والألف واللاّم في ( الحمد ) للاستغراق، فالحمد كلّه له سبحانه وتعالى، لذلك كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يحمد الله على كلّ حال.

وحمد الله من أوجب الواجبات، وأشرف الطّاعات، فينبغي للعبد أن يشكر نعم الله الّتي يتقلّب فيها ليل نهار، دقيقَها وجليلها، وقد قطع الله الطّريق لإحصائها، فقال:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النّحل: 18].

روى مسلم عن أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( إِنَّ اللهَ لَيَرْضَى عن العَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا )).

وليتذكّر العبد أنّه سوف يُسأل عن النّعم؛ فقد روى مسلم أيضا عن أبي هريرَةَ رضي الله عنه قال: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ لَيْلَةٍ، فَإِذَا هوَ بأَبِي بكْرٍ وعُمَرَ، فقالَ: (( مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُمَا هَذِهِ السَّاعَةَ ؟ )) قَالَا: الجُوعُ يَا رَسُولَ اللهِ !

قال: (( وَأَنَا - وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ - لَأَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا، قُومُوا )). فَقَامُوا مَعَهُ .. [فذكر أنّهم أتوا رجلا من الأنصار] فجاءَهُمْ بِعِذْقٍ فِيهِ بُسْرٌ وَتَمْرٌ وَرُطَبٌ، فقال: كُلُوا مِنْ هَذِهِ، وَأَخَذَ المُدْيَةَ ... فَذَبَحَ لَهمْ، فَأَكَلُوا مِنْ الشَّاةِ، وَمِنْ ذَلِكَ العِذْقِ، وَشَرِبُوا، فلمَّا أَنْ شَبِعُوا وَرَوُوا، قال رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم لأَبِي بكْرٍ وعُمَرَ: (( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا النَّعِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ الْجُوعُ ثُمَّ لَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَابَكُمْ هَذَا النَّعِيمُ )).

وفي رواية التّرمذي قال: (( ظِلٌّ بَارِدٌ وَتَمْرٌ طَيِّبٌ وَمَاءٌ بَارِدٌ ! هَذَا - وَاللهِ - مِنَ النَّعِيمِ الَّذِي تُسْأَلُونَ عَنْهُ يَوْمَ القِيَامَةِ )).

وفي سنن التّرمذي بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (( إِنَّ أَوَّلَ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ العَبْدُ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنَ النَّعِيمِ أَنْ يُقَالَ لَهُ: " أَلَمْ نُصِحَّ جِسْمَكَ، وَنُرْوِيكَ الماَءَ البَارِدَ" ؟ )).

ومن جليل النّعم: نعمة الإسلام، ونعمة الهداية إلى السنّة، ونعمة حسن الفهم، وحسن القصد، وغير ذلك من أصول النّعم، فاللهمّ لك الحمد.

ولمّا كان العباد جميعهم عاجزين عن حمد الله عزّ وجلّ، حمِد نفسه، فقال:{الحَمْدُ للهِ رَبِّ العالَمِينَ}، لأنّه كما قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ )).

  • · قوله: ( وكلُّ ما سِوَى اللهِ عالَمٌ ): العالمون جمع عالَم، والتّعريف الصّحيح له أنّه كلّ موجود سوى الله تعالى، فيشمل جميع العالمين، عالم الإنس، وعالم الجنّ، وعالم الملائكة، وعالم البهائم، وعالم الجماد، وعالم النّبات، كلّ ذلك ربّاه الله تعالى.

قال ابن عبّاس رضي الله عنه:" ربّ الجنّ والإنس "، وقال قتادة:" ربّ الخلق كلّهم ". لذلك قال في " اللّسان ": " والعالمون: أصناف الخلق، والعالم الخلق كلّه ".

ويدلّ على ذلك قول الله تعالى:{قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24)} [الشّعراء].

والعالم مشتقّ من العلامة؛ لأنّه يدلّ على وحدانيّة خالقه ومنشئه ومدبّره، وقد قال أحد الأعراب:" البعرة تدلّ على البعير، والأثر يدلّ على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ألا تدلّ على العليم الخبير ؟!".

قال ابن المعتزّ:

فيا عجباً كيف يُعصى  الإله *** أم كيف يجحده الجـاحد

وفي كـلّ شـيء له آيـة *** تدلّ عـلى أنّـه واحـد

قوله: ( وَأنَا واحدٌ من ذلكَ العالَمِ ): أي: قُل ذلك، فالخطاب للسّامع. فكأنّه يقول: إذا كنت واحدا من هذا العالم الّذي خلقه الله، وربّاه ورعاه، فينبغي ألاّ أصرِف العبادة لغيره سبحانه، وإلاّ كان بذلك ظالما لربّه، {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}.

 

 

 

 

  

  

 : 

من سلسلة: شرح الأصول الثّلاثة

العنوان

استماع المادة

تحميل المادة

تحميل الدّرس مكتوبا

- شرح الأصول الثّلاثة (12) السّبيل إلى معرفة الله عزّ وجلّ

الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:

قال رحمه الله:

فإذَا قيلَ لكَ: بِمَ عرفْتَ ربَّك ؟ فقُل: بآياتِه ومخلوقاتِه.

ومِنْ آياتِه: اللّيلُ والنّهارُ والشمسُ والقمرُ، ومِنْ مخلوقاتِه السّمٰواتُ السَّبْعُ والأَرْضُونَ السَّبع ومَنْ فيهنَّ وما بينهما، والدّليلُ قولُه تَعَالىٰ: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت:37]، وقولُهُ تعالى:{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54].

الشّرح:

بعدما ذكر المؤلّف رحمه الله الأصول الثّلاثة على سبيل الإجمال، شرع في تفصيل الأمر الأوّل وهو معرفة الله عزّ وجلّ؛ لأنّه أوجب الواجبات على الإطلاق، وهو أصل المسائل.

 فبعدما ذكر رحمه الله أمّ المسائل، وهي معرفة الله عزّ وجلّ شرع في ذكر الدّلائل على ذلك.

  • · قوله رحمه الله: ( فإذا قيلَ لكَ ): ما زال المؤلّف رحمه الله يؤصّل لهذه الأصول على طريقة السّؤال والجواب، لإثارة الاهتمام والانتباه.
  • · قوله: ( بِمَ عرفْتَ ربَّك ؟): أي: ما هو السّبيل إلى معرفة الله تعالى. ومعرفة الله نوعان: معرفة إقرار، ومعرفة اعتبار كما سيأتي بيانه إن شاء الله.

والمقصود بالمعرفة هنا معرفة الاعتبار الّتي تورثُ المحبّة والتّعظيم والخشية والرّجاء والتوكّل وغير ذلك من مقامات الإيمان. 

  • · قوله: ( فقُل: بآياتِه ومخلوقاتِه ): الآيات جمع آية، وهي العلامة والبرهان والحجّة. 

والمخلوق هو كلّ ما سوى الله عزّ وجلّ، وهو ما أوجده الخالق من العدم. 

فالسّبيل إلى معرفة الله عزّ وجلّ طريقان:

أ) الآيات المتلوّة الشّرعيّة: قال تعالى:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ}، وقال جلّ ذكره:{أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشّعراء: 197].

وقد أنكر سبحانه على من لم يتفطّن إلى أنّ القرآن من أعظم الآيات فقال:{وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)} [العنكبوت].

ب) الآيات المرئيّة الكونيّة: قال تعالى:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190]، وقال تعالى:{أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)} [الغاشية].

والمؤلّف رحمه الله لم يذكر الآيات الشّرعيّة، وإنّما اقتصر على ذكر الآيات الكونيّة، وسمّاها آياتٍ ومخلوقات، وهي كلّها شيء واحد كما لا يخفى، فقال رحمه الله:  

  • · قوله: ( ومن آياتِه: اللّيلُ والنّهارُ والشمسُ والقمرُ، ومِنْ مخلوقاتِه السّمٰواتُ السَّبْعُ والأَرْضُونَ السَّبع ومَنْ فيهنَّ وما بينهما): فالسّموات والأرض من الآيات، كما قال تعالى:{إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الجاثية: 3]. والظّاهر أنّه جعل الآيات ما يتغيّر حاله كاللّيل والنّهار والشّمس والقمر، والمخلوقات ما هو مستقرّ كالسّماوات والأرض.  

فإن قال قائل: لماذا خصّ المؤلّف رحمه الله الآيات الكونيّة بالذّكر ؟ قيل:

سبب هذا التّخصيص أنّ الآيات الكونيّة والمخلوقات المرئيّة دليل واضح لكلّ أحدٍ، وتقرّ به الفِطرة والعقل؛ إذ لكلّ حادث من مُحدِث، وقد سبق بيان ذلك.

وينبغي لصاحب العقيدة والإيمان أن يستحضر هذه الآيات، ولا تكون حياتُهم بمعزلٍ عنها، وإلاّ استوينا وأولئك الّذين نرميهم بأنّ مادّيون !

فإذا نظر إلى السّماء والأرض والجبال وغير ذلك اعتبر وتذكّر عظمة الخالق عزّ وجلّ، وقيامه على هذا الكون، وبذلك لا يكون قد فصل حياته الكونيّة عن حياته الشّرعيّة، والله هو القائل:{أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: من الآية54].

روى البخاري ومسلم عن ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنه قال:

بِتُّ عندَ خالتِي ميْمونَةَ رضي الله عنها، فَتَحَدَّثَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم معَ أهلِهِ ساعةً، ثمَّ رقَدَ، فلمّا كانَ ثلُثُ اللّيْلِ الآخِرُ، قَعَدَ، فنظَرَ إِلَى السّمَاءِ، فقالَ: (({إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ} ثُمَّ قَامَ، فَتَوَضَّأَ، وَاسْتَنَّ، فَصَلَّى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الصُّبْحَ.

زاد ابن حبان رحمه الله: فلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حتّى بَلَّ الأَرْضَ، فَجَاءَ بِلاَلٌ رضي الله عنه يُؤْذِنُهُ بِالصَّلاَةِ، فَلَمَّا رَآهُ يَبْكِي، قال: يا رسولَ اللهِ، لِمَ تَبْكِي وقدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ ؟! قال: (( أَفَلاَ أَكُونُ عَبْداً شَكُوراً ؟! لَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ آيَةٌ، وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ...} الآية كلَّها )).

وقد كانت أكثر عبادة السّلف التفكّر والتذكّر، فقيل لأمّ الدّرداء رضي الله عنها: ما كان أكثرُ شأن أبي الدّرداء رضي الله عنه ؟ قالت: كان أكثر شأنه التفكّر.

قيل لأبي الدّرداء: أفترى التفكّر عملاً من الأعمال ؟ قال: نعم هو اليقين.

وقال أحد الزّهاد:" والله ما رأيت الثّلج يتساقط إلاّ تذكّرت تطايُرَ الصّحف يوم الحشر والنّشر ".

كيف لا والله تعالى يقول:{وفي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ}.

وقد أشار الله تعالى إلى عبادةَ التفكّر في قوله:{أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)} [الواقعة].

روى البخاري ومسلم عن أبِي هريرَةَ رضي الله عنه أنّ النّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( نَارُكُمْ هَذِهِ الَّتِي يُوقِدُ ابْنُ آدَمَ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ )).

فالمؤلّف رحمه الله ذكر طريقين إلى معرفة الله تعالى، وقد كان ابن القيّم رحمه الله أكثر دقّة في بيانهما؛ حيث قال في " الفوائد " (170):

" فصل: معرفة الله سبحانه نوعان:

1- معرفة إقرار، وهي الّتي اشترك فيها النّاس جميعا: البرّ والفاجر، والمطيع والعاصي.

2- والثّاني: معرفة توجبُ الحياءَ منه والمحبّة له، وتعلّقَ القلب به، والشّوق إلى لقائه، وخشيتَه، والإنابةَ إليه، والأنسَ به، والفرارَ من الخلق إليه.

وهذه هي المعرفة الخالصة الجارية على لسان القوم، وتفاوتُهم فيها لا يُحصيه إلاّ الّذي عرّفهم بنفسه، وكشف لقلوبهم من معرفته ما أخفاه عن سواهم ... ولهذه المعرفة بابان واسعان:

باب التفكّر والتأمّل في آيات القرآن كلّها، والفهم الخاصّ عن الله ورسوله.

والباب الثّاني: التفكّر في آياته المشهودة، وتأمّل حكمته فيها، وقدرته ولطفه وإحسانه وعدله وقيامه بالقسط على خلقه، وجماع ذلك: الفقهُ في معاني أسمائه الحسنى وجلالها وكمالها، وتفرّده بذلك، وتعلّقها بالخلق والأمر، فيكون فقيها في أوامره ونواهيه، فقيها في قضائه وقدره، فقيها في أسمائه وصفاته، فقيها في الحكم الدّيني الشّرعيّ، والحكم الكونيّ القدريّ، و{ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ}"اهـ.

  • · والدّليلُ قولُه تَعَالىٰ:{وَمِنْ آيَاتِهِ}: الدالّة على كمال القدرة، وكمال الحكمة، وكمال الرّحمة.

{اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ}: فمن أعظم آيات الله المشاهدة بالأبصار اللّيل والنّهار، وكيف يأتي اللّيل على النّهار فيغطّيه حتّى كأنّه لم يكن، ثمّ يأتي النّهار فيذهب بظلمة اللّيل حتّى كأن اللّيل لم يكن، فمجيء هذا وذهاب هذا بهذا الإتقان وهذا التّرتيب البديع المنتظم دالّ على وحدانية خالقه سبحانه، وهو القائل:{وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ}.

وقال تعالى وهو يذكّر عباده بنعمة اللّيل والنّهار:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72)} [القصص].

{وَالشَّمْسُ}: فهي من آيات الله العظيمة بحجمها وآثارها ونورها:

أمّا حجمها فهي مخلوق عظيم. وأمّا آثارها: فيحصُل منها من المنافع للأجسام والأشجار والأنهار والبحار ما لا يحاط به، على بُعدِها من الأرض، وقد أقرّ الكافرون أنفسُهم بأنّه لو ابتعدت الشّمس عن الأرض بحدّ أو اقتربت بحدّ لفسدت الأرض وخرب العالم.

وأمّا نورها فمن آثاره النّهار الّذي جعله الله معاشا للنّاس.

{وَالْقَمَرُ}: حيث قدّره الله منازل لكلّ ليلة ليعلم النّاس عدد السّنين والحساب.

وترى كلاّ من الشّمس والقمر يجريان في الفلك بإتقان وإحكام، قال تعالى:{وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)} [يس].

{لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ}: وجاء بعد الدّعوة إلى النّظر في آيات الله تعالى الدّالة على توحيد ووجوب عبادته، جاء البراء ممّا سواه، والأمر - كما سبق بيانه - دائرٌ بين الإثبات والنّفي.

فالشّمس والقمر مهما بلغا من شأنهما فإنّهما لا يستحقّان العبادة، وخصّ الشّمس والقمر بالذّكر لأنّهما أعظم المخلوقات، كما خصّ السّجود بالذّكر دون سائر أنواع العبادة لأنّه أشرف مظاهرها ونهاية التّعظيم.

بل أخبر تعالى أنّ الشّمس والقمر كلّ منهما عبدٌ مطيع عابد ساجد لله، فقال:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ} [الحجّ من: 18]، فإذا كانا يسجدان لله فكيف يُسجد لهما ؟

روى البخاري روى البخاريّ عن أبي ذَرٍّ رضي الله عنه قال: قال النّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم لأبي ذَرٍّ حِينَ غرَبَتْ الشَّمْسُ: (( أَتَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ ؟ )) قلت: اللهُ ورسولُهُ أَعْلَمُ. قال: (( فَإِنَّهَا تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ الْعَرْشِ، فَتَسْتَأْذِنَ فَيُؤْذَنُ لَهَا، وَيُوشِكُ أَنْ تَسْجُدَ فَلَا يُقْبَلَ مِنْهَا، وَتَسْتَأْذِنَ فَلَا يُؤْذَنَ لَهَا، يُقالُ لها: ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ، فَتَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فذلكَ قولُهُ تعالى:{وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ})).

لذلك قال تعالى:

{وَاسْجُدُوا للهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}: أي: إن كنتم تعبدون الله على الحقيقة فإنّه لا يصحّ أن يُصرف شيءٌ من مظاهر العبادة لغيره، ولو كان أعظم مخلوق.

  • · وقولُهُ تعالى:{إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}.

ومن دلالات الخلق على توحيد الله:

  • · قوله تعالى:{إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ}: فهو سبحانه يتعرّف إلى عباده ليوحّدوه ويُعظّموه، فدلّهم عليه بمخلوقاته:

{الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ}: أي ومن أعظم مخلوقات الله الدالّة على وحدانيته: السماوات السبع، وسعتها، وارتفاعها، وما فيها من الكواكب الزّاهرة، والآيات الباهرة.

{وَالأَرْضَ}: أي: والأرضون السّبع، وامتدادُها، وسعة أرجائها، وما في الأرض من الجبال والبحار، وأصناف المخلوقات من الحيوانات والنباتات وسائر الموجودات.

ثمّ ما بين السّماوات والأرض من أنواع الهواء والسّحاب وغير ذلك، كلّه دالّ على وحدانية الباري جلّ جلاله.

{فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ}: من أيّام الدّنيا، ولو شاء سبحانه أن يخلقها في لحظة لفعل، ولكنّه تعالى يعلّم عبادة التّؤدة وترك العجلة، وربط الأسباب بمسبّباتها.

{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}: فقد كان الله ولا شيء معه، ولا قبله، فخلق الخلق، وجعل سقف السّموات العرش، وهو أعظم مخلوق، فعلا وارتفع على العرش سبحانه.

{يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ}: أي: يجعل اللّيل غطاء للنّهار، والنّهار غطاءً للّيل، حتّى تقوم السّاعة.

{يَطْلُبُهُ حَثِيثًا}: أي سريعا بسرعة فائقة متناهية حتّى لا نكاد نشعُر بذلك.

{وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ}: مذلّلات للخلق مأمورة بأمره سبحانه، فلا يسير شيء منها إلاّ بتدبيره وإذنه.

{أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ}: الخلق هو الأمور الكونيّة، والأمر: هو الأمور الشّرعيّة فلم يأمر سبحانه إلاّ بما يُصلح أمور العباد في المعاش والمعاد، فلا يخالف أمرُه خلقَه.

{تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}: البركة هي الخير الكثير، ومعنى ( تبارك ): بلغ من البركة نهايتَها؛ فهو إله الخلق ومليكهم، وموصل الخيرات إليهم، ودافع المكاره عنهم، والمتفرّد بإيجادهم وتدبيرهم.

  

 : 

من سلسلة: شرح الأصول الثّلاثة

العنوان

استماع المادة

تحميل المادة

تحميل الدّرس مكتوبا

- شرح الأصول الثّلاثة (13) توحيد الرّبوبيّة يدعو إلى توحيد الألوهيّة

الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:

فقال المؤلّف رحمه الله:

والرَّبُّ هو: المعبودُ، والدليلُ قولُه تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:21-22]، قالَ ابنُ كثيرٍ رحِمَهُ اللهُ تعالى: الخالقُ لهٰذه الأشياءِ هو المستحقُّ للعبادةِ.

 الشّرح: · قوله رحمه الله: ( والرّبّ هو المعبود ): هذا ليس تعريفا منه رحمه الله للربّ، وإنّما يريد أن يقول: إذا عرفت - أيّها المسلم - ربّك المعرفة الّتي أمر الله بها، تلك المعرفة الّتي تورِث المحبّة والخشية والتّعظيم والإنابة والتوكّل، وعرفت أنّه السيّد المُطاع، والمليك المدبّر للكون، والقائم على كلّ مخلوق بما يُصلحه، فاعلم أنّه هو المعبود بحقّ، ولا يستحقّ العبادةَ أحدٌ سواه.
  • · قوله رحمه الله: ( والدّليلُ ): أي إنّ الحجّة على أنّ المستحقّ للعبادة هو الخالق المدبّر لا غيره. 
  • · ( قولُه تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} ): ويروى عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّه قال في معنى ( اعبُدوا ربّكم ) أي: وحّدوه، قال الطّبريّ رحمه الله:" أي: أفردُوا الطّاعة والعبادة لربّكم دون سائر خلقه ".  

واللاّفت للنّظر: أنّ هذه الآية تضمّنت أوّل أمر وأوّل نهي في القرآن الكريم، فكان أوّل أمر هو الأمر بتوحيد الله، وأوّل نهي هو النّهي عن الإشراك بالله عزّ وجلّ:{فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا}. 

كما أنّ الفاتحة تضمّنت أوّل فعل للعباد، فكان هو إخلاص العبادة بقوله تعالى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ}؛ لذلك كان مفتتَح دعوة الرّسل جميعهم هو الدّعوة إلى التّوحيد وإخلاص العبادة لله تعالى: 

قال عزّ وجلّ:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النّحل:من 36]، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]، {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:59]، {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} [الأعراف:65]، {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُه} [الأعراف:من 73]، {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:من 85]، وغير ذلك من الآيات.

وروى البخاري عن ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنهما قال: لَمَّا بَعَثَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ رضي الله عنه إِلَى نَحْوِ أَهْلِ اليَمَنِ، قال لهُ: (( إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إلى أنْ يُوَحِّدُوا الله تعالى ...)) الحديث.

لذلك ترى أعداء الإسلام أوّل ما يضعون أيديهم عليه لتغييره ونسفِه هو التّوحيد؛ لأنّهم علموا أنّ القلب إذا صلح، صلَح الجسد كلّه.

  • · وقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ}: الخطاب لعموم النّاس كافرِهم ومؤمنِهم ومنافقِهم.

فهو للمؤمنين أمرٌ باستدامة العبادة والاستمرار عليها، كما في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ..} [النساء: من الآية 136].

وهو للكافرين والمنافقين أمر بأن يعبدوا الله وحده لا شريك له ابتداءً.

  • · ( الَّذِي خَلَقَكُمْ ): وإنّما نصّ على صفة الخلق؛ لأنّ المشركين كانوا يقرّون ويعترفون بأنّ الله هو خالقهم ورازقهم ومدبّر أمورهم، قال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [العنكبوت:61]، وقال:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [لقمان:25]، وقال:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزّمر: من الآية 38]، وقال:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9]، وقال:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزّخرف:87]، وغيرها من الآيات.

فإذا كانوا مقرّين بأنّ الله خالقهم ورازقهم ومدبّر أمورهم، فينبغي لهم أن يوحّدوه في العبادة، لأنّه لم يشاركه أحدٌ في الخلق، فلا ينبغي أن يُشرك معه أحدٌ في العبادة.

فيكون التّذكير بالخلق: إقامةً للحجّة على الجاحد، أو تذكيرا بالنّعمة للعابد.

  • · ( والَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ): ذكر الله خلقَ الّذين من قبلهم لسببين:

الأوّل: لدفع الدّور والتّسلسل، وهو قول الدّهريّين الّذين يزعمون أنّهم إنّما خلقوا من غير خالق، فقالوا: إنّما هي أرحام تدفع، وأرض تبلع، وما يهلكنا إلاّ الدّهر !

الثّاني: جعله موعظة لهم؛ فذكّرهم بمن قبلهم وأنّ مصيرهم إليه كمصير من سبقهم، لذلك كان من أجمل ما أُثِر من كلام الحنفاء الأوّلين خطبة قسّ بن ساعدة الإيادي، حيث قام على النّاس قائلا:

" أيّها النّاس، اسمعوا وعوا: من عاش مات، ومن مات فات، وكلّ ما هو آت آت، ليل داج، وسماء ذات أبراج، بحار تزخر، ونجوم تزهر، وضوء وظلام، وبرّ وآثام، ومطعم ومشرب، وملبس ومركب. مالي أرى النّاس يذهبون ولا يرجعون، أرضوا بالمقام فأقاموا ؟ أم تُرِكوا فناموا ؟ وإلهِ قسّ بن ساعدة ما على وجه الأرض دينٌ أفضلُ من دين قد أظلّكم زمانه، وأدرككم أوانه، فطوبى لمن أدركه فاتّبعه، وويل لمن خالفه. ثمّ أنشأ يقول:

في الذّاهبين الأوّليـ *** ـن من القرون لنا بصائر 

لمّا رأيـت مـوارداً *** للموت ليس لها مصـادر

ورأيت  قومي نحوها *** يمضي الأصاغر والأكابـر

أيقنت أنّـي لامحـا *** لة حيث صار القوم صائر

  • · ( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ): أي لتكونوا في زمرة المتّقين، فتجعلوا بينكم وبين النّار وقاية من عذاب الله، فالتقوى هي الغاية من العبادة.

وبعد أن ذكّرهم الله بنعمة الخلق، ذكّرهم بنعمة الرّزق، لأنّهم كانوا يقرّون بأنّ الله هو رازقهم، كما في قوله تعالى:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [يونس:31]، فقال:

  • · ( الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ): وسمّيت الأرض أرضاً لسعتها، من قولهم: أرِضت القرحة: إذا اتّسعت. وقيل: لانحطاطها عن السّماء، فكلّ ما سفل فهو أرض، لأنّ النّاس يرضّونها بأقدامهم.
  • · واللاّم في قوله: ( لَكُمْ ) للملك والاختصاص.
  • · ( فِراَشًا ): أي مهادا وممهّدة كالفراش تستندون عليها، وجعلها مستقرّة، مسخّرة للعباد من غير مشقّة.
  • · ( والسَّمَاءَ بِنَاءً ): السّماء من السموّ وهو العلوّ، وتطلق ويراد بها أمران:

أ) السّماء ذات الأطباق الزّرقاء الّتي فوقنا.

ب) وتطلق ويراد بها مطلق العلوّ، فإنّ كلّ ما علاك فهو سماءٌ، ومصداق ذلك هذه الآية:{وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً}، والماء لا ينزل من السّماء الزّرقاء بل من السّحاب المسخّر بين السّماء والأرض.

  • · ( بِنَاءً ): أي: سقفا، كما قال تعالى:{وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً} [الأنبياء: من الآية32].

ثمّ امتنّ الله تعالى على عباده بما أخرجه لعباده من الأرض بسبب ما أنزل عليها من ماء، فقال:

  • · ( وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ): أي: من السّحاب.

وهذا من عجيب صنعِه سبحانه، كما قال:{هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} [الرعد:12]، فوصف السّحب بأنّها ثقال؛ وإنّ المِتر المكعّب الواحد يزن طنًّا كاملا، فكم فيها من الأطنان ؟! ومن يحملها بهذه الأوزان ؟! إننا لا نستطيع أن نتصوّر وزنها، غير أنّها ثقال كما قال ربّنا المتعال.

  • · ( فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ ): والماء واحد، والأرض واحدة، ولكن يخرج منها أصناف مختلفة، كما قال تعالى:{وفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرّعد: 4].

وكلّ ذلك دعوة لهم إلى تأمّل عجيب صنع الله في خلقه، فيعودوا إليه بإفراده بالعبادة، ونبذ ما سواه من الأنداد. ولا يصحّ التّوحيد إلاّ بالنّفي والإثبات، والبراءة من الأنداد؛ كما في الآية السّابقة:{لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ}.

لذلك قال تعالى:

  • · ( فَلاَ تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَادًا ): الأنداد: جمع نِدٍّ، وهو المثيل، والكفء، والنّظير، والعديل، كما هو قول أهل النّار:{قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98)} [الشّعراء].

والمقصود النّهي عن جميع أنواع الشّرك.

فاتّخاذ الأنداد هو الإشراك بالله في العبادة: كالدّعاء، والخوف، والرّجاء، والحبّ، والذّبح، والنّذر، والحلف، والتوكّل على غير الله، والتّشريع بغير شرع الله، والاستسقاء بغير رحمة الله، وغير ذلك من الصّور.

  • · ( وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ): أي: وأنتم تعلمون أنّ الله عزّ وجلّ هو وحده الخالق الرّزاق المدبّر لأموركم، المنعم عليكم بالنّعم الّتي لا تُعدّ ولا تُحصَى.
  • · قوله رحمه الله: ( قالَ ابنُ كثيرٍ رحمه الله تعالى: الخالقُ لهٰذه الأشياءِ هو المستحقُّ للعبادةِ ): لذلك عرّف المؤلّف الربّ بأنّه المعبود، أي: بحقّ.
والمؤلّف ذكر قول ابن كثير بمعناه لا بلفظه، وعبارة ابن كثير رحمه الله في " تفسيره " قوله:" مضمونه: أنّه الخالق الرّازق مالك الدّار وساكنيها، ورازقهم، فبهذا يستحقّ أن يُعبدَ وحده، ولا يُشْرَك به غَيره ".

  

 : 

من سلسلة: شرح الأصول الثّلاثة

العنوان

استماع المادة

تحميل المادة

تحميل الدّرس مكتوبا

- شرح الأصول الثّلاثة (14) معنى الكفر وموانع التّكفير

الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:

قال رحمه الله:

وأنواعُ العبادةِ التي أَمَرَ اللهُ بها: مثلُ الإسلامِ، والإيمانِ، والإحسانِ؛ ومنهُ الدعاءُ، والخوفُ، والرجاءُ، والتوكلُ، والرغبةُ، والرهبةُ، والخشوعُ، والخَشيةُ، والإنابةُ، والاستعانةُ، والاستعاذةُ، والاستغاثةُ، والذَّبْحُ، والنذرُ، وغيرُ ذلك من أنواع العبادةِ التي أَمرَ اللهُ بها كلُّها لله تعالى، والدليلُ قوله تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ للهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:18].

فمَنْ صَرَفَ منها شيئًا لغير الله فهو مشرِكٌ كافرٌ، والدليلُ قوله تعالى:{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}[المؤمنون:117].

الشّرح:

قوله رحمه الله: ( وأنواعُ العبادةِ التي أَمَرَ اللهُ بها ): فإنّ المؤلّف رحمه الله لا يزال في تقرير الأصل الأوّل وهو معرفة الله عزّ وجلّ.

ومناسبة هذه الفقرة - وفيها بيان أنواع العبادة - لما قبلها - وهي معرفة الله تعالى - تظهر لنا من وجهين:

الأوّل: أنّ الأصل الأوّل معرفة الله تعالى يقتضي توحيده وإخلاص العبادة له، وإلاّ فالمشرك لم يعرف ربّه على الحقيقة، فناسب أن يذكر مظاهر العبادة الّتي يجب إفراد الله بها؛ ولذا كان بعد كلّ آية يتعرّف الله سبحانه فيها إلى خلقه يأمرهم بإخلاص العبادة له.

الثّاني: أنّه بعدما ذكر كلمة ابن كثير رحمه الله: ( الخالقُ لهٰذه الأشياءِ هو المستحقُّ للعبادةِ ) ناسب أن يذكر مظاهر هذه العبادة الّتي يستحقّها الله وحده.

وهذه الفقرة من الأهمّية بمكان؛ لما فيها من بيانٍ لبعض مظاهر العبادة، الّتي إذا صرف العبد منها شيئا لغير الله خرج عن ملّة الإسلام.

وهو لم يُرِد حصر هذه المظاهر، إنّما ذكر أهمّها وأشهرها، وإلاّ فقد سبق بيان معنى العبادة أنّها كلّ ما يحبّه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظّاهرة والباطنة.

  • · قوله رحمه الله: ( الّتي أَمَرَ اللهُ بها ): إمّا على سبيل الإلزام فتشمل الواجبات، أو على سبيل التّرجيح فتشمل المستحبّات.
  • · قوله: ( مثلُ ): هذا ما يدلّ على أنّه لم يُرد الحصر، وإنّما أراد التّمثيل. 
  • · قوله: ( الإسلامِ، والإيمانِ، والإحسانِ ): هذه أعلى مراتب الدّين؛ لذلك بدأ المؤلّف رحمه الله بذكرها. وهذه المراتب سيأتي تفصيلها في تقرير الأصل الثّاني. 
  • · قوله: ( ومنهُ ): الضّمير يعود إمّا على ( مثل )، أو على ما ذُكر من الإسلام والإيمان والإحسان، كأنّه قال: ومن ذلك. 

ولو أعاده على العبادة لقال: ومنها. وهناك من الشرّاح من استشكل ذلك فحمله على أنّه خطأ من النّاسخ، وأنّ الصّواب: منها. 

  • · قوله: ( الدّعاءُ، والخوفُ، والرجاءُ، والتوكلُ، والرغبةُ، والرهبةُ، والخشوعُ، والخَشيةُ، والإنابةُ، والاستعانةُ، والاستعاذةُ، والاستغاثةُ، والذَّبْحُ، والنّذرُ، وغيرُ ذلك من أنواع العبادةِ التي أَمرَ اللهُ بها كلُّها لله تعالى ): وسيأتي تفصيل القول فيها. 
  • · قوله: ( والدّليلُ قوله تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ للهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا}): سبق تفسير هذه الآية، وأنّ معنى الدّعاء هنا يشمل دعاء الطّلب والمسألة، ودعاء الثّناء والعبادة. وأنّ قوله ( أَحَداً ) نكرة في سياق النّفي فتعمّ.
  • · قوله: ( فمَنْ صَرَفَ منها شيئًا ): أي: من توجّه بشيء منها. ومنه الانصراف إلى الشّيء، أي: التوجّه إليه، وأصل الصّرف: الميلُ والعدل، ومنه قوله تعالى:{وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً} أَي: مَعْدِلاً، وأطلق على التوجّه إلى الشّيء وقصده لأنّه مال إليه.
  • · قوله: ( لغيرِ الله ): ولو ملَكا مقرّبا، أو نبيّا مرسلا. 
  • · قوله: ( فهو مُشرِكٌ ): وقد سبق بيان معنى الشّرك.
  • · ( كافرٌ ): وأصل الكفر في كلام العرب: السّتر والتّغطية، ومنه قول العرب:" ليلة كفَرَ النُّجومَ غمامُها "، أي: سترها. ومنه سمّي اللّيل كافرا، لأنّه يغطّي كلّ شيء بسواده.

ومنه قوله تعالى:{كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ} [الحديد: 20]، يعني: الزرّاع؛ لأنّهم يغطّون الحبّ، ومنه الكَفْر للقرية المليئة بالأشجار.

وله في القرآن الكريم معانٍ خمسة:

1- التّغطية، وهو المعنى اللّغويّ السّابق ذكره.

2- الكفر بالتّوحيد، وهو الغالب استعماله.

3- كفران الّنعمة والإحسان، ومنه قوله تعالى في البقرة:{وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} [آية 152]، ولمّا كانت المعاصي كفرانا لنعمة الله تعالى على عبده سمّاها كفرا، كالطّعن في الأنساب، والفخر بالأحساب، والنّياحة، وقتال المؤمن.

4- التبرّؤ، ومنه قوله تعالى:{ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ} [العنكبوت: من 25]، أي: يتبرّأ بعضكم من بعض.

5- الجحود، ومنه قوله تعالى في البقرة:{فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ} [آية 89].

أمّا الكفر اصطلاحا: فعرّفه ابن حزم رحمه الله بعبارة جامعة فقال:

" صفة من جحد شيئاً ممّا افترض الله تعالى الإيمانَ به بعد قيام الحجّة عليه ببلوغ الحقّ إليه بقلبه دون لسانه، أو بلسانه دون قلبه، أو بهما معاً، أو عمل عملاً جاء النصّ بأنّه مخرج له بذلك عن اسم الإيمان "اهـ.

فيُفهَم من كلامه رحمه الله أنّه قد يكون تكذيباً في القلب، فهو مناقض لقول القلب، وهو التّصديق.

وقد يكون الكفر عملاً قلبياً كبغض الله تعالى، أو آياته، أو رسوله صلّى الله عليه وسلّم؛ فهو يناقض الحبّ الإيماني، وهو أوكد أعمال القلوب وأهمّها.

وقد يكون قولاً ظاهراً يناقض قول اللّسان.

وتارة يكون عملاً ظاهراً: كالسّجود للصّنم، وإهانة شعائر الله.

الحاصل: أنّ الشّرك يُطلق على من آمن بالله تعالى وعبد غيره معه، والكافر يُطلق على من لا إيمان له أصلاً، أو له إيمان وأشرك بالله، فيكون الكفرُ أعمّ.

وأتى المؤلّف بما يدلّ على أنّ من صرف العبادة لغير الله فهو مشرك كافر، فقال:

  • · ( والدّليلُ قوله تعالىٰ:{وَمَن يَدْعُ مَعَ اللهِ}): والدّعاء هنا معناه دعاء المسألة ودعاء العبادة كما سبق بيانه.
  • · {إِلَهًا آخَرَ}: وسمّاه إلها باعتبار عابده، وكلّ من دعا غير الله فقد اتّخذه إلها.
  • · {لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ}: هذه صفة كاشفة لازمة، المراد منها بيان الواقع الّذي عليه أهل الشّرك، فليس هناك أحدٌ يدعو من دون الله أحدا له عليه برهان، قال تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} [الحجّ:71].

ومن الأمثلة على الصّفة الكاشفة قوله تعالى:{وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ}، ومن المعلوم أنّ الطّائر لا يمكنه أن يطير إلاّ بجناحين، ومنه قولك للعاقّ: أطِع والدتك الّتي ولدتك، فهذا لا يعني أنّ هناك والدةً له لم تلده، وإنّما هو بيانٌ للواقع والحقيقة.

كما أنّ في الآية تنفيراً للنّفوس من الشّرك، وإيقاظ العقول لاتّباع البراهين، فكيف إذا كان البرهان على خلافه ؟!

  • · قوله: ({فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ}: في هذا وعيد شديد وتسلية لدعاة التّوحيد.

أمّا الوعيد الشّديد فظاهر؛ إذ يُذكّره الله بيوم الحساب، وأنّه مسئول عن شركه أمام ربّه الّذي ربّاه ولم يربِّه أحدٌ سواه، وغمره بالإحسان ولم يحسن إليه أحد غيره.

وأمّا التّسلية؛ فبأنّ الله لا يؤاخذ الموحّدين باستمرار المشركين على الكفر، كقوله سبحانه:{إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البَلاَغُ} [الشّورى:48].

وماذا بعد الحساب إلاّ النّجاة أو الخسران ؟ فقال:

  • · {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}: الضّمير يعود على الشّأن والحال، أي إنّ الحال: لا يفلِح الكافرون.

وهذا هو الشّاهد من ذكره للآية، أن يبيّن أنّ المشرك كافرٌ، فهو دعا مع الله إلها آخر، وسمّاه كافرا.

تنبيه مهمّ:

هذا الحكم خاصّ بالأفعال والأنواع، لا بالأشخاص والأعيان، وإلاّ احتاج تنزيل الحكم على المعيّن إلى: إقامة الحجّة وإزالة الشّبهة؛ لأنّ هناك موانع من التّكفير كالجهل، والخطأ، والإكراه، والتّأويل.

وإنّ التّكفير حقّ الله تبارك وتعالى، وليس من حقّ العباد، لذلك كان أمره معظّما، وفي الصّحيحين عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنّ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِأَخِيهِ: يَا كَافِرُ ! فَقَدْ بَاءَ بِهِ أَحَدُهُمَا )).

فالمؤلّف رحمه الله تعالى يتحدّث عن التّكفير بالنّوع، لا عن التّكفير بالعين، وقد أخطأ في هذا الباب فريقان:

أ) فريق يستنكف عن وصف الفعل بالكفر والشّرك، وقد وصفه الله أو رسوله صلّى الله عليه وسلّم بذلك.

ب) وفريق ينزّل التّكفير بالنّوع على الأعيان.

وهذا ما يجب أن نقف عنده، لكثرة ما يُوصف به الدّعاة إلى التّوحيد بتكفير الأعيان.

ومن الأدلّة على وجوب قيام الحجّة: بالعلم وإزالة الشّبهة:

1- قولُ الله تبارك وتعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة:115]، فقال:{حَتَّى يُبَيِّنَ} وهذا هو قيام الحجّة، لا مجرّد بلوغها.

2- قوله تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: من الآية15].

3- ما رواه مسلم عن أبي هريرَةَ رضي الله عنه عن رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قالَ: (( وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ ولا نَصْرَانِيٌّ، ثمَّ يموتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ )).

4- ما رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيدٍ رضي الله عنه عنْ النّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم: (( أَنَّ رَجُلًا كَانَ قَبْلَكُمْ رَغَسَهُ اللَّهُ مَالًا، فقالَ لِبَنِيهِ لَمَّا حُضِرَ: أَيَّ أَبٍ كُنْتُ لَكُمْ ؟ قَالُوا: خَيْرَ أَبٍ، قَالَ: فَإِنِّي لَمْ أَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، فَإِذَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي، ثُمَّ اسْحَقُونِي، ثُمَّ ذَرُّونِي في يوْمٍ عَاصِفٍ. فَفَعَلُوا، فَجَمَعَهُ اللهُ عزّ وجلّ، فقال: مَا حَمَلَكَ ؟ قال: مَخَافَتُكَ، فَتَلَقَّاهُ بِرَحْمَتِهِ )).

5- ما رواه التّرمذي وأحمد عن أبِي واقِدٍ اللّيْثِيِّ رضي الله عنه أنّ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم لَمَّا خَرَجَ إِلَى حُنَيْنٍ، مَرَّ بِشَجَرَةٍ لِلمُشْرِكِينَ يقالُ لَهَا ذَاتُ أَنْوَاطٍ، يُعَلِّقُونَ عَلَيْهَا أَسْلِحَتَهُمْ، فقالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، اجعَلْ لَنَا ذَاتَ أنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ، فَقالَ النّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم: (( سُبْحَانَ اللهِ ! هَذَا كَمَا قَالَ قَومُ مُوسَى:{اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَرْكَبُنَّ سُنَّةَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ )).

6- ما رواه أبو داود وغيره عن خزَيْمَةَ بنِ ثابتٍ رضي الله عنه أنّ النّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم ابْتَاعَ فَرَسًا مِنْ أَعْرَابِيٍّ، فَاسْتَتْبَعَهُ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم لِيَقْضِيَهُ ثَمَنَ فَرَسِهِ، فَأَسْرَعَ رَسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم المَشْيَ، وَأَبْطَأَ الْأَعْرَابِيُّ، فَطَفِقَ رِجَالٌ يَعْتَرِضُونَ الأَعْرَابِيَّ فَيُسَاوِمُونَهُ بِالْفَرَسِ وَلا يَشْعُرُونَ أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم ابْتَاعَهُ، فَقَامَ النّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم حِينَ سَمِعَ نِدَاءَ الأَعْرَابِيِّ فقالَ: (( أَوْ لَيْسَ قَدْ ابْتَعْتُهُ مِنْكَ ؟)) فقالَ الأَعْرَابِيُّ: لَا واللهِ مَا بِعْتُكَهُ ! فقالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم: (( بَلَى، قَدْ ابْتَعْتُهُ مِنْكَ )) فَطَفِقَ الأَعْرَابِيُّ يقولُ: هَلُمَّ شَهِيدًا ! فقالَ خزَيْمَةُ بنُ ثابِتٍ رضي الله عنه: أَنَا أَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَايَعْتَهُ، فَأَقْبَلَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم على خزَيْمَةَ، فقالَ: (( بِمَ تَشْهَدُ ؟)) فقالَ: بِتَصْدِيقِكَ يَا رَسُولَ اللهِ ! فجَعَلَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم شَهَادَةَ خُزَيْمَةَ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ.

والنّصوص كثيرة من السنّة فيها وقوع بعض النّاس في الكفر، ولكنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يحكُم بوقوع الكفر عليهم.

  

 : 

من سلسلة: شرح الأصول الثّلاثة

العنوان

استماع المادة

تحميل المادة

تحميل الدّرس مكتوبا

- شرح الأصول الثّلاثة (15) الدّعاء هو العبادة

الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:

فكان آخر ما رأيناه هو أنواع العبادة، ووجوب الإخلاص فيها لله تبارك وتعالى، وأنّ من صرف شيئا منها لغيره سبحانه، فإنّه كافر مشرك.

وذكرنا الفرق بين التّكفير بالنّوع والتّكفير بالعين، وأنّه إذا تعلّق الأمر بالأعيان والأشخاص فإنّه لا بدّ من إقامة الحجّة، وبيان المحجّة؛ لأنّه قد يعذر بالجهل، أو الغفلة، أو الخطأ، أو التّأويل.

نصوصٌ عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في العذر بالجهل:  وكلام ابن تيمية رحمه الله في بيان العذر بالجهل كثير جدّا، من ذلك:

  1- قال ابن تيمية في  الردّ على البكري (2 /494):

" ولهذا كنت أقول للجهميّة من الحلوليّة والنّفاة الذّين نفوا أنّ الله تعالى فوق العرش لمّا وقعت محنتهم: أنا لو وافقتكم كنت كافرا؛ لأنّي أعلم أنّ قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون لأنّكم جهّال، وكان هذا خطابا لعلمائهم وقضاتهم وشيوخهم وأمرائهم.

وأصل جهلهم شبهات عقليّة حصلت لرؤوسهم، في قصورٍ من معرفة المنقول الصّحيح والمعقول الصّريح الموافق له وكان هذا خطابنا، فلهذا لم نقابل جهله وافتراءه بالتّكفير بمثله".

2- وقال في "بغية المرتاد" (311):" وبيّنا أنّ المؤمن الذّي لا ريب في إيمانه قد يُخطئ في بعض الأمور العلميّة الاعتقاديّة، فيُغفَر له كما يغفر له ما يخطئ فيه من الأمور العملية، وأنّ حكم الوعيد على الكفر لا يثبت في حقّ الشّخص المعيّن حتّى تقوم عليه حجّة الله الّتي بعث بها رسله، كما قال تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}...".

3- وقال بعد ذكر مقالات الباطنية في "بغية المرتاد" (1/353-354):" فهذه المقالات هي كفر، لكن ثبوت التّكفير في حقّ الشّخص المعيّن موقوف على قيام الحجّة الّتي يكفر تاركها، وإن أُطْلِقَ القولُ بتكفير من يقول ذلك فهو مثل إطلاق القول بنصوص الوعيد، مع أنّ ثبوت حكم الوعيد في حقّ الشّخص المعيّن موقوف على ثبوت شروطه وانتفاء موانعه ...".

4- وقال - كما في "مجموع الفتاوى" (11/401) وقد سئل عمّن يزعم سقوط التّكاليف الشّرعيّة عنه:

" لا ريب عند أهل العلم والإيمان أنّ هذا القولَ من أعظم الكفر وأغلظه، وهو شرّ من قول اليهود والنّصارى "، ثمّ ذكر رحمه الله ألوانا من الموبقات الّتي يستبيحها هؤلاء النّاس، ثمّ قال (11/406):

" لكن من النّاس من يكون جاهلاً ببعض هذه الأحكام جهلاً يُعذَر به، فلا يُحكم بكفرِ أحدٍ حتّى تقوم عليه الحجّة من جهة بلاغ الرّسالة، كما قال تعالى:{لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}، وقال تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}؛ ولهذا لو أسلم رجل ولم يعلم أنّ الصّلاة واجبة عليه، أو لم يعلم أنّ الخمر يحرم، لم يكفر بعدم اعتقاد إيجاب هذا وتحريم هذا؛ بل ولم يعاقب حتّى تبلغه الحجّة النبويّة "اهـ.

5- وقال - كما في مجموع الفتاوى (12/466) -:" وليس لأحدٍ أن يكفّر أحدا من المسلمين، وإن أخطأ وغلط، حتى تقامَ عليه الحجّة وتُبيّن له المحجّة، ومن ثبت إسلامُه بيقين لم يزُلْ ذلك عنه بالشكّ؛ بل لا يزول إلاّ بعد إقامة الحجّة، وإزالة الشّبهة ".

6- وقال في " الردّ على البكريّ " (1/413):" ومن أنكر ما ثبت بالتّواتر والإجماع فهو كافر بعد قيام الحجّة عليه ".

7- وقال في " الردّ على البكريّ " (2/731-732) بعدما ذكر مظاهر كثيرة للشّرك:" وأنّ ذلك من الشّرك الّذي حرّمه الله تعالى ورسوله، لكن لغلبة الجهل وقلّة العلم بآثار الرّسالة في كثير من المتأخّرين لم يمكن تكفيرهم بذلك، حتّى يتبيّن لهم ما جاء به الرّسول صلّى الله عليه وسلّم ممّا يخالفه، ولهذا ما بيّنت هذه المسألة قطّ لمن يعرف أصل الإسلام إلاّ تفطّن وقال هذا أصل دين الإسلام ".

8- وقال في موضع آخر:" إنّي دائما - ومن جالسني يعلم ذلك منّي - أنّي من أعظمِ النّاس نهياً عن أن يُنسَب معيّنٌ إلى تكفير وتفسيق ومعصية، إلاّ إذا عُلِم أنّه قد قامت عليه الحجّة الرّسالية ".

نصوص عن الشّيخ محمّد بن عبد الوهاّب رحمه الله في العذر بالجهل:

1- قال كما في "الدّرر السنيّة "-(1/102-104):" وإذا كنّا لا نكفّر من عبد الصّنم الّذي على قبّة عبد القادر، والصّنم الّذي على قبر أحمد البدويّ وأمثالَهما لأجل جهلهم وعدم من ينبّههم، فكيف نكفّر من لم يشرك بالله ...".

وفي بعض النّسخ" " لأجل جهلهم وعدم من يفهّمهم ".

2- وقال رحمه الله (1/73) (1/82):" وأمّا التّكفير: فأنا أكفّر من عرف دين الرّسول، ثمّ بعد ما عرفه سبّه، ونهى النّاس عنه، وعادى من فعله، فهذا: هو الذّي أكفِّر، وأكثر الأمّة ولله الحمد ليسوا كذلك".

3- وقال (1/100):" وأمّا القول: أنّا نكفّر بالعموم ؟ فذلك من بهتان الأعداء، الذّين يصدّون به عن هذا الدّين؛ ونقول:{سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور:16] ".

4- وقال (10/113):" وأمّا ما ذكر الأعداء عنّي، أنّي أُكَفِّر بالظّنّ وبالموالاة، أو أكفّر الجاهل الذّي لم تقم عليه الحجّة، فهذا بهتان عظيم، يريدون به تنفير النّاس عن دين الله ورسوله ".

5- وقال (10/128):" وإنّما نكفّر من أشرك بالله في إلهيّته، بعدما نبيّن له الحجّة على بطلان الشّرك ".

ومن أقوال عبد الله ابن الشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب -كما في الدّرر السنية (10/251)-:" وليعلم من أنعم الله عليه بمعرفة الشّرك، الّذي يخفى على أكثر النّاس اليوم، أنّه مُنِح أعظمَ النِّعَم ".  

***

ثمّ قال رحمه الله:

وفي الحديثِ (( الدُّعَاءُ مُخُّ العِبَادَة ))، والدّليلُ قوله تعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60].

الشّرح:

هذا أوانُ تفصيل الكلام عن أنواع العبادة الّتي أمر الله تعالى بها، والّتي لا يحلّ لأحدٍ أن يصرف شيئا منها لغير الله عزّ وجلّ، وإلاّ وقع في الشّرك، وجانب التّوحيد.

فبدأ بالدّعاء، وذلك لسببين:

1- لأنّ جلّ العبادات مرجعها إليه، كالاستعانة، والاستغاثة، والاستعاذة، والتوكّل، والرّجاء، وغير ذلك.

2- لأنّ الدّعاء أهمّ مظاهر العبادة كما سبق بيانه مرارا؛ فالدّعاء متضمّن للافتقار، والتضرّع، والعلم بأسماء الله تعالى وصفاته كالسّمع والبصر والعلم والقدرة.

لذلك كان أحبّ العبادات إلى الله تعالى، كما في الحديث الّذي رواه التّرمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللهِ مِنْ الدُّعَاءِ ))، وفي الحديث الآخر (( مَنْ لَمْ يَسْأَلْ اللهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ )) [رواه التّرمذي].

لذلك ذكر رحمه الله حديث: (( الدُّعَاءُ مُخُّ العِبَادَة )).

وهذا الحديث رواه التّرمذي عن أنسٍ رضي الله عنه، وهو بهذا اللّفظ ضعيف، ولكنّ معناه صحيح.

واللّفظ الصّحيح للحديث هو ما رواه الإمام أحمد وأصحاب السّنن إلاّ النّسائيّ عن النّعمَانِ بنِ بشِيرٍ رضي الله عنه عن النّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قالَ: (( الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ ))، {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}.

- قوله: (( الدّعاء )): لغة هو النّداء، ومنه قوله تعالى في ندائه عباده لطاعته:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: من الآية24]، وقوله:{وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ} [يونس: من الآية25].

وجرى على ذلك كلام العرب، حتّى صار يسمّون طلب الحضور (دعوة)، ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم: (( إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُجِبْ )) [متّفق عليه]، ومنه طلب حضور الزّوجة، كقوله صلّى الله عليه وسلّم: (( إِذَا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ فَأَبَتْ فَبَاتَ غَضْبَانَ عَلَيْهَا لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ )) [متّفق عليه]، وغير ذلك.

هذا إذا افترق اللّفظان، أمّا لو اجتمعا فلكلّ لفظ معناه الخاصّ، كقوله تعالى:{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاء} [البقرة: من الآية171]، فالدّعاء هنا للقريب، والنّداء للبعيد.

ثمّ صار الدّعاء عند الإطلاق هو نداء العباد ربَّهم.

والدّعاء نوعان: دعاء مسألة، ودعاء عبادة.

أمّا دعاء المسألة: فهو دعاء الطّلب، أي: ما يستدعي مطلوبا من المولى عزّ وجلّ، لجلب نفع أو كشف ضرّ. وهو الّذي لا يفهم عامّة النّاس غيره.

ودعاء العبادة: وهو: أ) إمّا بالجوارح، كالصّلاة، والصّوم، وغير ذلك من العبادات، وسمّيت دعاءً لأنّ العبد يسأل الله تعالى بحاله لا بمقاله.

ب) وإمّا باللّسان، وهو ذكر الله والثّناء عليه دون أن تذكر مطلوبا، فتناديه بأسمائه وصفاته، لتُثْنِي عليه، والثّناء يتضمّن دعاءً، ومنه حديث: (( خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )).

ومنه حديث: (( دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ:{لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنْ الظَّالِمِينَفَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا اسْتَجَابَ اللهُ لَهُ )).

ومنه ما رواه البيهقيّ عن سعد بنِ أبي وقّاص رضي الله عنه أنّ أعرابيّا قال للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: علّمني دعاءً لعلّ الله أن ينفعني به ؟ قال: (( قُلْ: اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ كُلُّهُ، وَإِلَيْكَ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ )).

وكلا النّوعين مطلوب، وفيه مرغوب، لا يجوز الاقتصار على أحدهما، لأنّ الله يحبّ الثّناء والمدح، وفي الوقت نفسه يحبّ أن يُسألَ، ولذلك أمر بدعائه في أكثر من موضع.

والفاتحة اشتملت على النّوعين معا.

قال ابن القيّم رحمه الله في " زاد المعاد " (1/235):".. الدّعاء نوعان: دعاء ثناء، ودعاء مسألة، والنبيّ كان يُكثِر في سجوده من النّوعين، والدّعاء الّذي أمر به في السّجود يتناول النّوعين ".

- وقوله: (( هوَ العِبَادَة )) فيه مبالغة في تعظيم شأن الدّعاء، والعرب إذا أرادت المبالغة في شيء حصرت الممدوح في الصّفة، ومنه قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( الحَجُّ عَرَفَةُ )) [أخرجه أهل السّنن والإمام أحمد]، مع انّ الحجّ يشمل أعمالا أخرى، ولكنّه جعل الوقوفَ بعرفة أعظم مناسك الحجّ. وقوله صلّى الله عليه وسلّم: (( الدِّينُ النَّصِيحَةُ )) للتّنويه بمنزلة النّصيحة.

فكذلك العبادة تشمل أعمالا وأقوالا كثيرة، ولكنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم جعل الدّعاء على رأسها.

بل جرى القرآن الكريم على تسمية الدّعاء عبادة والعبادة دعاء، ومنه الآية الّتي تلاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:{وقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60]، أي: صاغرين.

ومثله قوله تعالى:{قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً} [الفرقان:77].. فقد فسّر قوله تعالى:{لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ} في أحد القولين بالعبادة، أي: أيّ شيء خلقكم الله لأجله ؟ ألحاجة ؟ ألضعف ؟ إنّما خلقكم لتعبدوه، ولكنّكم كذّبتم فسوف يكون عذابكم لزاما.

- قوله: ( ثمّ قرأ:{وَقَالَ رَبُّكُمْ}): الّذي ربّاكم، وربّى العالمين جميعهم بنعمه.

- قوله:{اُدْعُونِي}: اسألوني، واعبدوني. ولم يجعل بينه وبين العباد وساطة.

- قوله:{أَسْتَجِبْ لَكُمْ} والاستجابة أيضا نوعان:

استجابة دعاء الطّالب بإعطائه سؤاله، واستجابة دعاء المُثْنِي والعابد بالثّواب.

وبكلّ واحد من النّوعين فُسِّر كذلك قولُه تعالى:{أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}، قال ابن القيّم:" والصّحيحح أنّه يعمّ النّوعين ".

وفي هذا الحديث تحذير لطائفتين:

الأولى: المتقاعسة عن الدّعاء، وكأنّ الّذي لا يبدأ أموره بتوكّله على الله ودعائه فيه استكبار عياذا بالله.

الثّانية: المشركة في الدّعاء. فمن صرف شيئا من الدّعاء لغير الله، فقد عبد غير الله، قال تعالى:{وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}، وقال عزّ وجلّ:{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)}، قال ابن القيّم رحمه الله في "البدائع" (3/524):

" أخبر أنه لا يحبّ أهل العدوان وهم الّذين يدعون معه غيرَه، فهؤلاء أعظم المعتدين عدوانا فإن أعظم العدوان الشّرك، وهو وضع العبادة في غير موضعها "اهـ.

ولذلك شدّد الأئمّة في هذه العبادة ليسدّوا باب الشّرك، ومن مظاهر سدّ الذّرائع:

أ) ما ذكره ابن القيّم في "إغاثة اللّهفان" (ص 201) عن الأئمّة الأربعة في الدّعاء وقت زيارة قبر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أنّه يستقبل القبلة وقت الدّعاء، حتّى لا يدعو عند القبر، فإنّ الدّعاء عبادة ".

ب) تحريم التوسّل بالمخلوق، ولو كان نبيّا، لذا قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله:" لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلاّ به، وأكره أن أقول: بمعاقد العزّ من عرشك أو بحقّ خلقك ..."، والمراد بالكراهة هنا التّحريم.

ج) تنصيب شخص للدّعاء. كأن يُجعل طلب الدّعاء منه عادةً.

وقد ذكر الإمام الشّاطبيّ رحمه الله في " الاعتصام " آثارا في امتناع الصّحابة رضي الله عنهم من الدّعاء لمن سأله منهم.

روى الطبري عن مدرك بن عمران، قال: كتب رجل إلى عمر رضي الله عنه: ادعُ الله لِي، فكتب إليه عمر:" إنّي لست بنبيّ، ولكن إذا أقيمت الصّلاة فاستغفر اللهَ لذنبك ".

وعن سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه أنّه لمّا قدم الشّام أتاه رجل، فقال: استغفر لي، فقال: غفر الله لك، ثمّ أتاه آخر، فقال: استغفِرْ لي، فقال: لا غفر الله لك، أنبيّ أنا ؟! 

فامتناعهم لم يكن لذات الدّعاء، وإنّما هو خشيةَ أن يُعتقَدَ فيه أنّه مثل النبيّ، أو أنّه وسيلة إلى الله سبحانه، أو يعتقد أنه سنّة فيلتزمها النّاس. 

يقول الشّيخ مبارك الميلي رحمه الله في " رسالة الشّرك ومظاهره " (ص 281):

" وقد وُجد في عصرنا من الطرقيّين والمرابطين من ينتصب للدّعاء، ويصرّح بكونه واسطةً بين الله وخلقه في جلب المحبوب ودفع المكروه، فإذا رضي عن أحد ضمِن له ما يشتهي من حاجات من الدّنيا ونعيم الآخرة، وإذا غضب عن آخر توعّده بحلول النّقمة، ورضاه وغضبه تابعان لمطامعه فيما في أيدي النّاس.

ورأينا من الجهّال المعتقدين في لصوص الدّين هؤلاء من يبذل فوق طاقته طلبا لرضاهم عنه، وفوزه بدعوة منهم له، ويشتري ما ينتسب إليهم من شمع وبخور مزايدةً بأرفع الأثمان؛ ليقوم ذلك الشّيء المُشترى مقامَ دعوة صاحبه. 

ففي الانتصاب للدّعاء وسؤاله ذريعةٌ إلى الشّرك والعياذ بالله ". 

ثمّ قال رحمه الله (ص 285): 

" ولقد فشا في المسلمين دعاءُ غير الله على شدّة إنكار كتابهم له، وتحذير نبيّهم منه، حتّى صار الجهلة ومن قرُب منهم يؤْثِرونه على دعاء الله وحده ! 

والاستشهاد لذلك بالحكايات عنهم واستيعابها مملّ معجز، فلنقتصر على حكاية واحدة. 

الحكاية العاشورية: 

ففي سنة سبع وأربعين، قُتل شيخنا محمّد الميلي رحمه الله، فأتيت من الأغواط. وجاء للتعزية الشيخ عاشور صاحب "منار الأشراف"، وملقّب نفسه (كليب الهامل)، والهامل قرية بالحضنة قرب أبي سعادة بها زاوية كانت تمدّه بالمال. 

فحضرتُ مجلسهُ ولم أُشْعِرْه بحضوري ... وذلك لئلاّ يحترز في حديثه أو نقع في حديث غير مناسب للمقام. 

سمعت في ذلك المجلس بأذنَيّ (كليبَ الهامل) يحكي مناقضاً لدعوة الإصلاح الّتي اشتهرت يومئذ: 

أنّ شيخا من شيوخ الطّرق الصّوفية كان مع مريديه في سفينة، فهاج بهم البحر وعلت أمواجه، فلجئوا جميعا إلى الله يسألون الفرج والسّلامة.

وكان الشّيخ منفردا في غرفة يدعو، فلم تنفرج الأزمة، وعادتُه أن لا يُبْطَأ عليه بالإجابة، فوقع في رُوعِه أنّه أُتِيَ من قِبَلِ أتباعه، لا لنقص فيه يوجب هذا الإعراض عنه !

فخرج على أتباعه مُغضباً يقول: ماذا صنعتم في هذه الشدّة ؟ فقالوا: دعونا الله مخلصين له الدّين بلسان المضطرّين - إشارة لقوله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ}. فنَكِر عليهم اللّجوءَ إلى الله مباشرة ! ووبّخهم عليه ! وعرّفهم أنّ ذلك هو الحائل دون استجابة دعائه ! وأنذرهم عاقبة استمرارهم على التوجّه إلى ربّهم، وأنّه الغرق ! وعلّمهم أنّ واجبهم هو التوجّه إليه وسؤاله، ثمّ هو وحده يتوجّه إلى الله !

فتابوا من دعاء الموحّدين، وامتثلوا تعليم الشّيخ المخالف لتعليم ربّ العالمين ! وعاد الشّيخ إلى غرفته يدعو متوسّطا بين الله وبين مريديه ! فانكشفت الغمّة وسلمت السّفينة. وحمد الشّيخ ثقتَه بنفسه وفقهَه سِرّ البطء عن استجابة دعائه، وتفقيهَه لأتباعه سرّ النّجاة، وصرفَهم إلى الثّقة به عن الثقة بالله !

هذا معنى ما سمعته من (كليب الهامل) ... يستدلّ الشيخ عاشور وأتباعه بأمثال هذه الحكاية على لزوم التعلّق بشيوخ الزّوايا وتوسيطهم بين العباد وربّهم ! ناسخين بها نصوصَ الشّريعة الكثيرة المحكمة، وتتلقّفها منهم العامّة بقلوبها، وتتمسّك بها في الاحتجاج لإيثار دعاء غير الله، وتعتقد أنّ ذلك أليقُ بحالها من أن تُخاطب بنفسها أرحم الرّاحمين ! سنّة المشركين من قديم ..."اهـ.


  

 : 

من سلسلة: شرح الأصول الثّلاثة

العنوان

استماع المادة

تحميل المادة

تحميل الدّرس مكتوبا

- شرح الأصول الثّلاثة (16) منزلة الخوف من الله تعالى

الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:

فقال المؤلّف رحمه الله: 

( ودليلُ الخوفِ قوله تعالى:{فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]).

الشّرح:

فإنّ العبادة تُعرف إمّا بالتّصريح بأنّها عبادة كما مرّ في الدّعاء، أو بكونها مأمورا بها منهيّا عمّا يُضادّها، كما هو الشّأن في الخوف.

وخوف الله عزّ وجلّ من أعلى منازل السّائرين، وأشرف مدارج السّالكين، وأعظم ثمرات معرفة ربّ العالمين.

وهو أحد ركائز العبادة الثّلاث: الحبّ، والخوف، والرّجاء، فبالمحبّة يكون امتثال الأمر، وبالخوف يكون اجتناب النّهي، وبالرّجاء يتعلّق العبد في ثواب الأمر والنّهي.

فإذا تقرّر أنّ الخوف عبادة وجب إفراد لله تعالى به، وكان صرفها لغير الله شركا.

وأتى المؤلّف بالدّليل على ذلك، هو:

  • · قوله تعالى:{فَلا تَخَافُوهُمْ}: نزلت هذه الآية بعد محنة أحد، فقد روى الطبراني (11/274) عن عكرمة عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال:

لمّا انصرف أبو سفيان والمشركون عن أحد، وبلغوا الرّوحاء، قالوا: لا محمّدا قتلتم ولا الكواعب أردفتم، شرّ ما صنعتم ! فبلغ ذلك رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم، فندب النّاسَ، فانتدبوا حتّى بلغوا حمراء الأسد أو بئر أبي عيينة، فأنزل الله تعالى:{الَّذِينَ اسْتَجَابُوا للهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)}، وقد كان أبو سفيان قال للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: موعدك موسم بدر حيث قتلتم أصحابنا. 

  1.  قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: أمّا الجبان فرجع، وأمّا الشّجاع فأخذ أهبة القتال والتّجارة، فأتوه فلم يجدوا أحدا، وتسوّقوا فأنزل الله عزّ وجلّ:{فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)} [آل عمران][1].

روى البخاري في "صحيحه" عن ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنهما قال:{حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} قالهَا إبراهِيمُ عليه السّلام حِينَ أُلْقِيَ في النَّارِ، وَقَالَهَا محمّدٌ صلّى الله عليه وسلّم حِينَ قالُوا:{إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}.

ومعنى {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ}: يخوّفكم أولياءَه. وأَولياءُ الشّيطان هم أنصارُه الّذينَ ينصرون الفحشاءَ والمنكرَ؛ لأنَّ الشيطانَ يأمر بذلك.

فكلّ من ينصر الفحشاء والمنكر فهو من أولياءِ الشيطان، قال ابن القيّم رحمه الله في "إغاثة اللّهفان" (1/118):

" ومن كيدِ عدوِّ الله تعالى أنّه يُخوِّف المؤمنين من جنده وأوليائه، فلا يجاهدونهم ولا يأمرونهم بالمعروف، ولا ينهونهم عن المنكر، وهذا من أعظم كيده بأهل الإيمان "اهـ.

فرجل العقيدة إذا ألقى الشّيطانُ في نفسه الخوفَ، فإنّ الواجبَ عليه أن يعلم أنّ الإقدامَ على كلمةِ الحقِّ ليس هو الّذي يدني الأجلَ، وليس السّكوت والجبنُ هو الّذي يطيل العمر، فكم ممّن صدع بالحقِّ ومات على فراشه، وكم من جبانٍ قُتِل في بيته، وهذا خالدُ بنُ الوليدِ رضي الله عنه كان شجاعًا مقداما ومات على فراشه !

فلا بدّ من الثّقة بالله، فهو القائل:{إنَّ اللهَ معَ الّذينَ اتَّقَوْا والذينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}، وقد قال العارفون:" من خاف اللهَ خافه كلّ شيءٍ، ومن اتّقَى اللهَ اتّقاهُ كلُّ شيء، ومنْ خاف من غيرِ اللهِ خاف من كلِّ شيءٍ ".

ومن الكلام الشّائع الباطل ما يقوله بعضهم: خفْ ممّن لا يخاف الله !

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله - كما في "مجموع الفتاوى"-:

" وبعض النّاس يقول: يا ربّ، إنّي أخافك وأخاف من لا يخافك ! فهذا كلام ساقط لا يجوز؛ بل على العبد أن يخاف الله وحده، ولا يخافَ أحداً؛ فإنّ من لا يخاف الله أذلُّ من أن يُخافَ؛ فإنّه ظالم، وهو من أولياء الشّيطان، فالخوف منه قد نهى الله عنه.

وإذا قيل: قد يؤذيني ؟ قيل: إنّما يؤذيك بتسليطِ الله له، وإذا أراد الله دفعَ شرّه عنك دفعه فالأمر لله؛ وإنّما يسلَّطُ على العبد بذنوبه، وأنت إذا خِفت الله فاتّقيته وتوكّلت عليه، كفاك شرَّ كلِّ شرّ، ولم يسلّطه عليك، فإنّه قال:{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} ... فإذا خِفتَ اللهَ، وتُبتَ من ذنوبك، واستغفرته، لم يسلّط عليك، كما قال:{وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}"اهـ.

والشّاهد من الآية نهيُ الله سبحانه وتعالى عن الخوف من عدوّه، والنّهي يقتضي التّحريم.

  • · {وَخَافُونِي}: بعد النّهي عن الخوف من غيره، أمر بإفراده سبحانه بالخوف، والأمر يقتضي الوجوب. ولا يجتمع التّوحيد إلاّ على النّفي والإثبات، وزاد الأمر توكيدا، فقال:
  • · {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}: ومفهومه أنّهم لو خافوا عدوّه ولم يخافوه سبحانه ليسوا بمؤمنين، فدلّ كلّ ذلك على أنّ خوف الله من الإيمان. 

فإن كان الخوفُ يؤدِّي إلى الشّركِ فهو منافٍ لأصلِهِ، وإلاّ فهوَ مُنَافٍ لكماله. 

- أقسام الخوف من الله تعالى: هو قسمان: 

أ) خوف محمود: وضابطه: ما يردّ العبد عن محارم الله عزّ وجلّ، والقيام بحقّه، وحقوق العباد.

وهذا خوف المحبّين، الّذين لا يُبالون برضا أحدٍ على حساب رضا الله عزّ وجلّ، شعارهم:

فليتك تحلو، والحيـاة مريـرةٌ *** وليتك ترضَى والأنام غِضاب 

فإن صحّ منك الودّ فالكلّ هيّن *** وكلّ الّذي فوق التّراب تراب 

وأعلى درجاته: الورع، وهو ترك الشبّهات.

ب) خوف مذموم: وهو ما أدّى إلى القنوط واليأس من رَوح الله عزّ وجلّ.

وقد قال الإمام أحمد رحمه الله:" ينبغي أن يكونَ خوفه ورجاؤه واحدًا، فأيُهما غلبَ هلكَ صاحبُهُ ".

- أقسام الخوف من غير الله تعالى: فإنّ الخوف أقسام، ولكلّ قسم حكمه:

الأوّل: خوف العبادة والتذلل والتعظيم والخضوع، وهو ما يسمّى بخوف السرّ، سمّي بذلك لأنّه يكون بباطن العبد، فيخاف الشّيء لظنّه أنّه يجلب الضرّ أو النّفع، أي: يضرّ وينفع بلا سبب. 

وضابطه: أن يخاف ما لا يقدر عليه إلاّ الله سبحانه.

وهذا لا يحلّ صرفه إلاّ لله سبحانه، فمن أشرك فيه مع الله غيره؛ فهو مشرك شركاً أكبر. 

ومن أمثلة ذلك: مَن يخاف من الأصنام، أو الأولياء، أو الأموات، فيعتقدون نفعهم وضرّهم؛ من قطع نسلٍ، أو جلب فقرٍ، أو مرضٍ، أو جنون.

ومن عُبّاد القبور من يخاف صاحب القبر أكثر ممّا يخاف الله عزّ وجلّ ! كاعتقادهم وجوب الطّواف بضريح، أو الذّبح له وإلاّ أصابه مكروه.

هذه الحالة هي حالة تعلق القلب بغير الله تعالى، وهو الّذي قال الله جلّ وعلا فيه على لسان إبراهيم عليه السّلام:{وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام:81].

وقال جلّ وعلا مخبرا عن قول عادٍ لهودٍ عليه السّلام:{إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود:54]، هذا النوع من الخوف هو الذي إذا صرف لغير الله جل وعلا كان شركا أكبر.

الثّاني: الخوف الطّبيعي والجبلّي؛ وبعضهم يسمّيه الخوف الحسّي. 

فالأصل فيه أنّه مباح، قال تعالى عن موسى عليه السّلام:{فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} [القصص من: 21]، وقوله تعالى عنه أيضاً:{رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} [القصص من: 33].

وإنّما قلنا: إنّه الأصل؛ لأنّ الخوف الطّبيعيّ إن حمل على ترك واجب أو فعل محرّم دون إكراه؛ فهو محرّم.

الثّالث: الخوف الوهميّ. وضابطه خوف ما لا حقيقة له، فهو سفهٌ، وحمقٌ، حكمه بحكم أثره، إن كان يؤدّي إلى شرك فهو شرك، أو إلى محرّم أو ضعف الشّخصيّة فهو محرّم.

وهل الخوف من الجنّ من النّوع الأوّل أو الثّاني ؟

فيه تفصيل: فيمكن أن يكون شركا وكفرا؛ وذلك إن خافهم خوفَ السرّ بأنْ يصيبوه بشيء لا قدرة لهم عليه، كخوف المرض، والفقر، وقطع النّسل، والموت بلا سبب، ونحو ذلك.

ويمكن أن يكون محرّما فحسب، كما لو حمله على ترك واجب، أو فعل محرّم.

ويمكن أن يكون مباحا، وهو الخوف الطّبيعي كما يخاف من شرار بني آدم.

وعلاج الخوف من الجنّ:

- الإكثار من ذكر الله تعالى، فالذّكر غذاء القلوب.

قال ابن القيّم رحمه الله في "زاد المعاد" (4/60):" وأكثر تسلّط الأرواح الخبيثة تكون من جهة قلّة دينهم, وخراب قلوبهم من حقائق الذّكر والتّعاويذ والتّحصنات النبويّة والإيمانيّة, فتلقى الرّوحُ الخبيثة الرّجلَ أعزل لا سلاح معه, وربّما كان عرياناً؛ فيؤثّر فيه هذا "اهـ.

- ترسيخ التّوحيد في القلب: فعلى المؤمن أن يعلم أنّ الله تعالى حافظه من كلّ سوء، وهو القائل:{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرّعد: 11].

- وقاية جناب التّوحيد: فإنّ المؤمن عليه أن يخاف الوقوع في الشّرك أكثر من خوفه من الجنّي، وليحذَر من الاسترسال في ذلك، وإلاّ وقع في الشّرك الأكبر، كما سيأتي معنا في الاستعاذة.

- العلم: فالجاهل عدوّ نفسه. ولا بدّ أن يعلم المسلم أنّ الجنّي لا يخلو من أن يكون كافرا، أو فاسقا، أو مؤمنا تقيّا:

فالمؤمن أخو المؤمن، لا يؤذيه ولا يضرّه.

والكافر والفاسق، أذلّ وأحقر من أن يخافه المؤمن، قال عزّ وجلّ:{إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً}. 

وقد ثبت أنّ الشّيطان كان يخاف من عمر رضي الله عنه، فإذا سلك عمر رضي الله عنه طريقاً سلك الشّيطان طريقاً آخر.

وفي صحيح البخاريّ أنّ أبا هريرة رضي الله عنه أمسك بالجنّي وهو في صورة آدميّ وخاف منه.

وعن مجاهد رحمه الله قال:" إنّهم أي الجنّ - يهابونكم كما تهابونهم. 



[1] انظر:" الصّحيح المسند من أسباب النّزول" ص (66).

  


 


 

  

 : 

الصفحة 2 من 2

Your are currently browsing this site with Internet Explorer 6 (IE6).

Your current web browser must be updated to version 7 of Internet Explorer (IE7) to take advantage of all of template's capabilities.

Why should I upgrade to Internet Explorer 7? Microsoft has redesigned Internet Explorer from the ground up, with better security, new capabilities, and a whole new interface. Many changes resulted from the feedback of millions of users who tested prerelease versions of the new browser. The most compelling reason to upgrade is the improved security. The Internet of today is not the Internet of five years ago. There are dangers that simply didn't exist back in 2001, when Internet Explorer 6 was released to the world. Internet Explorer 7 makes surfing the web fundamentally safer by offering greater protection against viruses, spyware, and other online risks.

Get free downloads for Internet Explorer 7, including recommended updates as they become available. To download Internet Explorer 7 in the language of your choice, please visit the Internet Explorer 7 worldwide page.