أخبار الموقع
***تقبل الله منا ومنكم، وكل عام أنتم بخير أعاده الله على الأمّة الإسلاميّة بالإيمان والأمن واليمن والبركات***
لطرح استفساراتكم وأسئلتكم واقتراحاتكم اتّصلوا بنا على البريد التّالي: [email protected]
عبد الحليم توميات

عبد الحليم توميات

الاثنين 10 محرم 1433 هـ الموافق لـ: 05 ديسمبر 2011 20:04

شرح كتاب الحجّ 22: المساجد الثّلاثة: فضائل وأحكام 2

من سلسلة: شرح كتاب الحجّ من (صحيح التّرغيب والتّرهيب)

العنوان

استماع المادة

تحميل المادة

شرح كتاب الحجّ 22: المساجد الثّلاثة: فضائل وأحكام 2

تـابع: الباب الرّابع عشـر: ( التّرغيب في الصّلاة في المسجد الحرام، ومسجد المدينة، وبيت المقدس، وقباء ).

تحدّثنا فيما سبق عن أوّل فضائل المساجد الثّلاثة، وهي مضاعفة أجر الصّلاة فيها، وبيّنّا مسائل كثيرة تتعلّق بالمضاعفة.

وممّا تشترك فيه المساجد الثّلاثة:

2- الاعتكاف:

فالاعتكاف يجوز ويستحبّ في كلّ مسجد جامع على الصّحيح من أقوال أهل العلم.

[" الإفصاح " لابن هبيرة (1/256)، و" المدوّنة الكبرى " (1/231)، و" الأمّ " للشّافعيّ (2/107)، و" الإنصاف " للمرداوي (3/368)].

ولكنّ أفضل وأحسن أنواع الاعتكاف هو ما كان في أحد المساجد الثّلاثة، لما رواه سعيد بن منصور في " سننه " عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ اليَمَانِ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( لاَ اعْتِكَافَ إِلاَّ فِي المَسَاجِدِ الثَّلاَثَةِ )).

فإن صحّ الحديث – وفيه نزاع مشهور - فالمقصود به: نفي الكمال المستحبّ، أي: إنّ الاعتكاف الكامل هو ما كان في مسجد من مساجد الأنبياء.

وبعض أهل العلم رجّح وقف الحديث على حذيفة رضي الله عنه، ومع ذلك فإنّه يحتجّ به لأنّه لا يقال من قِبل الرّأي.

وممّا تشترك فيه المساجد الثّلاثة أيضا:

3-شدّ الرّحال إليها:

روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهم عَنْ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ:

(( لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ صلّى الله عليه وسلّم، وَمَسْجِدِ الْأَقْصَى )).

وعلّل البغويّ رحمه الله في " شرح السنّة " (2/337) أنّ اختصاصها بهذا لكونها مساجد الأنبياء، ونحن مأمورون بالاقتداء بهم.

لذلك لم يختلف العلماء في استحباب قصد هذه المساجد للصّلاة فيها، كما في " مجموع فتاوى ابن تيمية رحمه الله " (27/26-351-417)، و"المجموع" (8/210) للنّوويّ رحمه الله.

معنى الحديث:

والقصر في الحديث إضافيّ، بمعنى: أنّه لا تشدّ الرّحال إلى بقعة لتعظيمها إلاّ إلى هذه المساجد.

هذا هو الصّحيح، كما قال ابن تيمية رحمه الله، وخالف هذا المعنى طائفتان:

أ‌) طائفة قدّرت الاستثناء من المساجد فقط، فقالوا: أي لا تشدّ الرحال إلى مسجد إلاّ المساجد الثّلاثة - كما فعل ابن حزم رحمه الله في "المحلّى" (4/54)-.

من أجل ذلك فهم يُبيحون شدّ الرّحال إلى كل بقعة مقدّسة معظّمة. وسيأتي في آثار الصّحابة رضي الله عنهم ما يردّ هذا المعنى.

ب‌) وطائفة جعلت القصر حقيقيّا، كابن عبد الهادي رحمه الله في " الصّارم المنكي "(ص20-147)، وعلى قوله لا يشرع السّفر إلى أيّ بقعة إلاّ إلى المساجد الثّلاثة !

لكنّه – ولله الحمد – قال:" وإنّما خرج من هذا العموم السّفر إلى التّجارة، وطلب العلم، وصلة الأرحام بأدلّة أخرى "اهـ.

حكم شدّ الرّحال إلى غير هذه المساجد:

النّهي في هذا الحديث هو للتّحريم، وهو مذهب الإمام مالك رحمه الله كما في " التّمهيد " (2/62)، و" جواهر الإكليل " (1/185)، وبه قال أكثر أصحاب الإمام أحمد كما في " الفروع " (3/523)، و" الإنصاف " للمرداوي (3/367).

ومنهم من قال إنّ النّهي للكراهة كالسّبكي في " شفاء السّقام " (ص3-40)، وابن حجر في " الفتح " (3/63-71) وغيرهما، ورأوا أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يقصد مسجد قباء للصّلاة فيه.

والصّواب – إن شاء الله – ما ذهب إليه الإمام مالك ومن وافقه، لما يلي:

  • أنّ الأصل في النّهي هو التّحريم كما هو معلوم، ولا صارف إلى الكراهة.
  •   أنّ الإنكار على من شدّ رحله إلى غيرها ثبت عن بعض الصّحابة، ولا يعلم لهم مخالف كما في " المغني " (3/215-556)، وفي ذلك آثار:

- فقد روى الإمام أحمد والنّسائي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ:

لَقِيتُ أَبَا بَصْرَةَ الْغِفَارِيَّ رضي الله عنه، قَالَ: مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ ؟ فَقُلْتُ: مِنْ الطُّورِ. فَقَالَ: أَمَا لَوْ أَدْرَكْتُكَ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ إِلَيْهِ مَا خَرَجْتَ إِلَيْهِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ: (( لَا تُعْمَلُ الْمَطِيُّ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَإِلَى مَسْجِدِي، وَإِلَى مَسْجِدِ إِيلِيَاءَ أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ )).

- وروى الأزرقيّ في " أخبار مكّة " (ص304)، والفاكهيّ في " أخبار مكّة " (1207) بإسناد صحيح كما في " أحكام الجنائز " (ص226) عن قَزْعة قال:

أردت الخروج إلى الطّور، فسألت ابن عمر رضي الله عنه ؟ فقال: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ النَّبِيَ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ: المَسْجِدِ الحَرَامِ، وَمَسْجِدِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم، وَالمَسْجِدِ الأَقْصَى ))، دَعْ عَنْكَ الطُّورَ فَلاَ تَأْتِهِ.

- ومثله جاء عن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه أنّه نهى أبا ذرّ الغفاريّ رضي الله عنه عن السّفر إلى الطّور، وقَبِلَ أبو ذرّ رضي الله عنه إنكارَ أبي موسى رضي الله عنه، كما ذكره الشّوكاني في " نيل الأوطار ". 

ففهمُ الصّحابة رضي الله عنهم مقدّمٌ على فهم غيرهم كما هو معلوم.

أمّا معارضتهم هذا النّهي بذهابه صلّى الله عليه وسلّم إلى مسجد قباء للصّلاة فيه، فإنّه لا تعارض، وبيان ذلك من وجوه:

- الوجه الأوّل: أنّ المنهيّ عنه هو الزّيارة بسفر، والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم ما كان يسافر، فقباء من المدينة، فهو كما لو أراد أحدهم وهو بالمدينة زيارة البقيع، أو شهداء أحد.

- الوجه الثّاني: إنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يفعل ذلك لمواصلة الأنصار، وتفقّد من تخلّف منهم عن الجمعة، ولذلك خصّ مجيئه إليهم بالسّبت، وسيأتي الحديث في ذلك إن شاء الله. 

- الوجه الثّالث: لو سلّمنا أنّ الذّهاب إلى قباء يدخل في شدّ الرّحال – وهو ليس كذلك –، فيقال: إنّ الّذي نهى عن شدّ الرّحال إلاّ إلى المساجد الثّلاثة، هو من ذهب إلى قباء، فيضاف مسجد قباء وحده إليها، فلا وجه للتّعميم. 

والله تعالى أعلم وأعزّ وأكرم، وهو الهادي للّتي هي أقوم.

أمّا النّوع الثّاني من الفضائل فهو ما يختصّ به المسجد الحرام ومسجد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.

  • خصائص المسجد الحرام، والمسجد النّبويّ.

- فهما حرمان: وليس ثمّة حرمٌ ثالث للمسلمين غيرهما.

أمّا ما شاع عند العامّة وأشباههم بأنّ المسجد الأقصى هو ثالث الحرمين، فهو من وضع السّياسيّين، الّذين يسوّغون عجزهم وقعودهم عن نصرة المسلمين، فأرادوا أن يبنوا أمجادهم على أشلاء المستضعفين من إخواننا في فلسطين.

* وإذا سُئِلت: ما معنى أن يكون المسجد حرماً ؟

فقل: إنّه من أجل حرمة المسجد حَرُم ما حوله، فسمّي ما يحدّه من الجهات الأربع حرماً.

فالشّيء قد يُعظّم أو يُحقّر للمجاورة.

فقد قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في مكّة: (( حَرَّمَ اللَّهُ مَكَّةَ فَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَا لِأَحَدٍ بَعْدِي، أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا [هو النّبات الرّطب، فإذا يبِس فهو حشيش]، وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلَا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا، إِلَّا لِمُعَرِّفٍ )).

فقالَ العبّاسُ رضي الله عنه: إِلَّا الْإِذْخِرَ لِصَاغَتِنَا وَقُبُورِنَا ؟ فَقَالَ: (( إِلَّا الْإِذْخِرَ )) [متّفق عليه].

والإدخر: نبات يستعمله الصّاغة والحدّادون ليُضرموا به النّار.

وقال صلّى الله عليه وسلّم في المدينة: (( اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ حَرَّمْتُ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا كَمَا حَرَّمْتَ عَلَى لِسَانِ إِبْرَاهِيمَ الْحَرَمَ )) [رواه أحمد].

أمّا ما يختصّ به كلّ مسجد عن الآخر: فعلى النّحو التّالي:

  •  خصائص المسجد الحرام.

- هو كونه قبلة، قال تعالى:{ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ }.

- وأنّه أوّل بيت وضع للنّاس، قال تعالى:{ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ }، أي: للعبادة.

- وأنّه محلّ بعض مناسك الحجّ والعمرة.

- وأنّ الله جعله قياما للنّاس، قال تعالى:{ جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ } [المائدة من الآية 97]، أي: تقوم بها مصالح دينهم ودنياهم، وما دام البيت قائما فلا يزال دين الله قائما.

- وجعل قصده مكفّرا لما سلف من الذّنوب ماحيا للأوزار حاطّا للخطايا، بل لم يرض الله لقاصده من الثّواب دون الجنّة، وقد سبق بيان ذلك.

- وجعل أجر الصّلاة فيه بمائة ألف صلاة، وقد سبق بيان ذلك أيضا.

- وحرّم استقباله أو استدباره ببول أو غائط.

- وأنّ الله أضافه إلى نفسه، فقال:{ وَطَهِّرْ بَيْتِيَ }.

- وأنّه جعله مثابة للنّاس. أي: يثوبون ويرجعون إليه على تعاقب الأعوام من جميع الأقطار، ولا يقضون منه وطرا.

بل كلّما ازدادوا له زيارة ازدادوا له اشتياقا:

لا يرجع الطّرف عنها حين ينظرها *** حتّى يعود إليها الطّـرف مشتـاقا

  •  ما يختصّ به مسجد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم:

- الفضل الأوّل: أنّه خاتمة مساجد الأنبياء. 

وفي ذلك ساق المصنّف بعض الأحاديث، منها:

* الحـديـث الخـامـس:

1175-وروى البزّار عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( أَنَا خَاتَمُ الأَنْبِيَاءِ، وَمَسْجِدِي خَاتَمُ مَسَاجِدِ الأَنْبِيَاءِ، أَحَقُّ المَسَاجِدِ أَنْ يُزَارَ وَتُشَدَّ إِلَيْهِ الرَّوَاحِلُ: المَسْجِدُ الحَرَامُ ، وَمَسْجِدِي، وَصَلاَةٌ فِي مَسْجِدِي أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ المَسَاجِدِ، إِلاَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ )).

ولا شكّ أنّ آخريّته آخريّة شرف كآخريّة من بناه صلّى الله عليه وسلّم، لذلك عبّر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك بقوله: (( أنا خاتم الأنبياء ))، لأنّ الختام يدلّ على أنّه كالطّابع لما سبقه. 

- الفضل الثّاني: أنّه المسجد الّذي أسّس على التّقوى: وفي ذلك ساق المصنّف رحمه الله:

* الحـديـث السّادس والسّابع:

1176-وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِ بَعْضِ نِسَائِهِ، فَقُلْتُ:

يَا رَسُولَ اللَّهِ ! أَيُّ الْمَسْجِدَيْنِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى ؟ فَأَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصْبَاءَ، فَضَرَبَ بِهِ الْأَرْضَ، ثُمَّ قَالَ:

(( هُوَ مَسْجِدُكُمْ هَذَا )) لِمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ.

رواه مسلم، والتّرمذي، والنّسائي، ولفظه: قَالَ:

" تَمَارَى رَجُلَانِ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ، فَقَالَ رَجُلٌ: هُوَ مَسْجِدُ قُبَاءَ، وَقَالَ رَجُلٌ: هُوَ مَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( هُوَ مَسْجِدِي هَذَا )).

1177-وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ:

" اخْتَلَفَ رَجُلاَنِ فِي المَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: هُوَ مَسْجِدُ المَدِينَةِ، وَقَالَ الآخَرُ: هُوَ مَسْجِدُ قُبَاءَ، فَأَتَوْا رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:

(( هُوَ مَسْجِدِي هَذَا )).

[رواه ابن حبان في "صحيحه"].

* فقه هذه الأحاديث:

قد يقول قائل: أليس المقصودُ بالمسجد الّذي بُنِي على التّقوى هو مسجد قباء، لقوله تعالى:{لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: من الآية108] ؟

فالجواب: نعم، هو كذلك، وهو قول ابن عبّاس رضي الله عنه، والضحّاك، والحسن، والشّعبي، وغيرهم كما في " أحكام القرآن " (3/157) للجصّاص، و" فتح القدير " للشّوكانيّ (2/403).

ويؤيّد ذلك أمران:

1- الواقع:

فإنّ أوّل مسجد بُنِي بالمدينة هو قباء كما في " أخبار مدينة الرّسول صلّى الله عليه وسلّم " (ص111)، و" ووفاء الوفاء " (2/413)، و" البداية والنّهاية " (3/229).

وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها ( أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم لَبِثَ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، وَأَسَّسَ المَسْجِدَ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، وَصَلَّى فِيهِ، وَخَرَجَ إِلَى المَدِينَةِ )).

2- والأثر، فقد روى التّرمذي وأبو داود عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ:

(( نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَهْلِ قُبَاءَ:{فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} قَالَ: كَانُوا يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِمْ )).

وروى ابن ماجه عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ ! إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَثْنَى عَلَيْكُمْ فِي الطُّهُورِ، فَمَا طُهُورُكُمْ ؟)).

قَالُوا: نَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ، وَنَغْتَسِلُ مِنْ الْجَنَابَةِ، وَنَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ.

قَالَ: (( فَهُوَ ذَاكَ فَعَلَيْكُمُوهُ )).

فلا شكّ أنّ الآية نزلت في أهل مسجد قباء، ولكنّ قوله صلّى الله عليه وسلّم في أحاديث الباب: (( هُوَ مَسْجِدِي هَذَا )) دخل في ذلك مسجدُه دخولا أوّليا، فهو مسجد للأنصار أيضا، وأهله أيضا كانوا يتطهّرون، وممّن بيّن ذلك ابن تيمية في "منهاج السنّة" (4/74)، و"مجموع الفتاوى" (17/468) و(27/406)، وابن القيّم رحمه الله في "بدائع الفوائد" (2/443)، و"زاد المعاد" (1/395)، والشّوكانيّ في "فتح القدير" (2/405).

- الفضل الثّالث: أنّه تضاعف فيه الصّلاة بألف صلاة، وقد سبق بيان ذلك.

- الفضل الرّابع: أنّ به الرّوضة الشّريفة.

ففي الصّحيحين عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الْمَازِنِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ:

(( مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ )).

قال ابن عبد البرّ في " التّمهيد " (2/285): " قال قوم:

معناه أنّ البقعة ترفع يوم القيامة، فتُجعل روضة في الجنّة.

وقال آخرون: هذا على المجاز، كأنّهم يعنون أنّه لمّا كان جلوسه صلّى الله عليه وسلّم وجلوس النّاس إليه يتعلّمون القرآن والإيمان والدّين هناك، شبّه ذلك الموضع بالرّوضة لكرم ما يُجتنى فيها، وأضافها إلى الجنّة، لأنّها تقود إلى الجنّة "اهـ.

ويؤيّد كلامه رحمه الله ما رواه التّرمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ:

(( إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا )) قَالُوا: وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ ؟ قَالَ: (( حِلَقُ الذِّكْرِ )).

وقال ابن حزم رحمه الله في "المحلّى" (7/283):

" وهذا الحديث ليس على ما يظنّه أهل الجهل من أنّ تلك الرّوضة قطعة منقطعة من الجنّة، هذا باطل .. إنّما هو لفضلها، وأنّ الصّلاة فيها تؤدّي إلى الجنّة " اهـ.

ويؤيّد قول ابن جزم رحمه الله نظائر لهذا الحديث، منها ما رواه البخاري ومسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( اعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ )).

وما رواه النّسائي وابن ماجه عَنْ جَاهِمَةَ السَّلَمِيِّ رضي الله عنه جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! أَرَدْتُ أَنْ أَغْزُوَ وَقَدْ جِئْتُ أَسْتَشِيرُكَ ؟ فَقَالَ: (( هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ ؟)) قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: (( فَالْزَمْهَا فَإِنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ رِجْلَيْهَا )).

والله أعلم.

بعدما تطرّقنا إلى بيان فضائل كلّ من المسجد الحرام، والمسجد النّبويّ، فإنّه أوان ذكر ما جاء في فضل المسجد الأقصى، وهو بيت المقدس أعاده الله على المسلمين بخير، آمين.

1- الفضل الأوّل: فله أسماء كثيرة، ذكرها الزّركشيّ رحمه الله فبلغت سبعة عشر اسما، وكثرة الأسماء تدلّ على شرف المسمّة كما هو مقرّر. من هذه الأسماء:

- المسجد الأقصى: وذلك لأنّه أبعَدُ المساجد الّتي تُزَار عن المسجد الحرام.

- مسجد إيلياء، ومعناه بيت الله.

- بيت المَقْدِس: أي المكان الّذي يتطهّر العبد فيه من الّذنوب، لأنّ المَقْدِس هو المَطْهَر.

-البيت المُقَدَّس: لأنّه بالأرض المقدّسة، ويسمّى بيت القُدْس: نسبة إلى القُدُس.

- ويسمّيه العبرانيّون ( أورْشلُم ) وبعضهم يكسر اللاّم ويمدّها، ومعناها: باب السّلام.

2- الفضل الثّاني: أنّه أولى القبلتين. وظلّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه رضي الله عنهم يستقبلونه قرابة ثمانية عشر شهرا، كما في صحيح البخاري.

3- الفضل الثّالث: أنّ الله بارك فيما حوله، فقال عزّ وجلّ:{ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } فكيف ببركته هو نفسِه ؟.

4- الفضل الرّابع: وهو مسرى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

5- الفضل الخامس: أنّه بناه نبيّ الله سليمان عليه السّلام.

6- الفضل السّادس: أنّ الصّلاة فيه من أسباب مغفرة الذّنوب. ويدلّ على هذا الفضل، الحديث التّالي، وهو:

الحديث الثّامـن:

1178-وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

(( لَمَّا فَرَغَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عليه السّلام مِنْ بِنَاءِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، سَأَلَ اللَّهَ صلّى الله عليه وسلّم ثَلَاثًا:

أَنْ يُعْطِيَهُ حُكْمًا يُصَادِفُ حُكْمَهُ.

وَمُلْكًا لَا يَنْبَغِي لَأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ.

وَأَنَّهُ لاَ يَأْتِي هَذَا الْمَسْجِدَ أَحَدٌ لَا يُرِيدُ إِلَّا الصَّلَاةَ فِيهِ إِلَّا خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ )).

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( أَمَّا ثِنْتَيْنِ فَقَدْ أُعْطِيَهُمَا، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدْ أُعْطِيَ الثَّالِثَةَ )).

[رواه أحمد، والنّسائيّ، وابن ماجه، واللّفظ له، وابن خزيمة، وابن حبّان في "صحيحيهما"، والحاكم أطولَ من هذا، وقال : "صحيح على شرطهما، ولا علّة له"].

الشّــرح:

- قوله: ( لَمَّا فَرَغَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عليه السّلام مِنْ بِنَاءِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ): ومعنى بناء سليمان عليه السّلام له أي: جدّد بناءه، ولا يعني أنّه بدأ بناءه.

ولا بدّ من القول بذلك، لما جاء في الصّحيحين عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلَ؟ قَالَ: (( الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ )) قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ ؟ قَالَ: (( ثُمَّ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى )) قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا ؟ قَالَ: (( أَرْبَعُونَ )).

ومعلوم أنّ بين إبراهيم عليه السّلام وسليمان عليه السّلام آلاف السّنين.

وقد ذكر الزّركشيّ في "أحكام المساجد" (ص283) عن كعب الأحبار: " أنّ سليمان عليه السّلام بنى بيت المقدس على أساس قديم ". وبمثل ذلك قال الحافظ ابن حجر والسّيوطي، وغيرهم.

- قوله: ( أَنْ يُعْطِيَهُ حُكْمًا يُصَادِفُ حُكْمَهُ ): وقد شهِد القرآن بصحّة فهمه، ودقّة حكمه، قال تعالى:{ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً } [الأنبياء من الآية:79].

- قوله: ( وَمُلْكًا لَا يَنْبَغِي لَأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ ): كما في قوله تعالى:{ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } [ص من 35].

وقد روى البخاري عن أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( إِنَّ عِفْرِيتاً مِنَ الجِنِّ تَفَلَّتَ عَلَيَّ البَارِحَةَ،- أَو كَلِمةً نَحوَهَا - لِيَقْطَعَ عَلَيَّ الصَّلاَةَ، فَأَمْكَنَنِي اللهُ مِنْهُ، وَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبِطَهُ إِلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي المَسْجِدِ، حَتَّى تُصْبِحُوا وَتَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ أَخِي سُلَيْمَانَ:{ رَبِّ هَبْ لِي مُلْكاً لاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي } )).

- قوله: ( وَأَنَّهُ لاَ يَأْتِي هَذَا الْمَسْجِدَ أَحَدٌ لَا يُرِيدُ إِلَّا الصَّلَاةَ فِيهِ إِلَّا خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ ): قال العلماء: رجاء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم متحقّق إن شاء الله تعالى.

*** *** ***

7- الفضل السّابع: الصّلاة فيه مضاعفة بخمسمائة صلاة.

8- الفضل الثّامن: أنّه أرض المحشر والمنشر.

وفي ذلك ساق المصنّف الحديث التّالي، وهو:

الحديث التّاسـع:

1179-وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلاَةِ فِي بَيْتِ المَقْدِسِ أَفْضَلُ، أَوْ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَ:

(( صَلاَةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ فِيهِ، وَلَنِعْمَ المُصَلَّى.

هُوَ: أَرْضُ المَحْشَرِ وَالمَنْشَرِ، وَلَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ وَلَقِيدُ سَوْطِ - أَوْ قَالَ: قَوْسِ- الرَّجُلِ حَيْثُ يَرَى مِنْهُ بَيْتَ المَقْدِسِ خَيْرٌ لَهُ أَوْ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعًا )).

[رواه البيهقي بإسناد لا بأس به وفي متنه غرابة].

الشّـرح:

  • أمّا مضاعفة الصّلاة فيه:

فظاهر هذا الحديث أنّ الصّلاة تفضل فيه بمائتين وخمسين صلاة، لقوله: (( صَلاَةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ فِيهِ )).

وفي حديث الطّبرانيّ والبزّار بإسناد جيّد عن أبي الدّرداء رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( ... وَفِي مَسْجِدِ بَيْتِ المَقْدِسِ خَمْسُمِائَةِ صَلاَةِ ))، ومثله جاء عن جابر رضي الله عنه.

فمنهم من ضعّف حديث أبي ذرّ، ولذلك قال المصنّف:" رواه البيهقي بإسناد لا بأس به وفي متنه غرابة ".

وقال ابن تيمية رحمه الله في "مجموع الفتاوى" (27/6): " وأمّا في المسجد الأقصى: فقد رُوِي أنّها بخمسين صلاة، وقيل بخمسمائة صلاة، وهو أشبه ".

والصّواب – إن شاء الله – أنّه لا تعارض في أحاديث الفضائل، لأنّ فضل الله على عباده يزداد ولا ينقص، ونظيره الأحاديث الّتي تثبت أجر صلاة الجماعة خمسا وعشرين، وأخرى سبعا وعشرين، فيؤخذ بالزّائد في الفضائل.

  • أمّا أنّه بأرض المحشر: فذلك لما رواه البخاري ومسلم عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم:

(( أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ نَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ مِنْ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ )). والمغرب هي الشّام.

وأصرح من ذلك رواية أحمد عَنْ مُعَاوِيَةَ الْبَهْزِيِّ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم أَنَّهُ قَالَ: (( أَنْتُمْ آخِرُ الْأُمَمِ وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى .. ))- فَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الشَّامِ – فَقَالَ: (( إِلَى هَاهُنَا تُحْشَرُونَ )).

  • وأمّا أنّه أرض المنشر، فدليله حديث الباب هذا، وعلى ذلك تفسير السّلف.

فقد قال ابن عبّاس رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى:{وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} قال: " من الصّخرة ".

وذكر ابن كثير عن كعب الأحبار - وهو كعب بن ماتع من كبار التابعين - قال:" يأمر الله ملكا أن ينادي على صخرة بيت المقدس: أيّتها العظام البالية، والأوصال المتقطّعة، إنّ الله يأمركنّ أن تجتمعن لفصل القضاء ".

  • وتأمّل – أخي القارئ – قوله صلّى الله عليه وسلّم : (( وَلَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ وَلَقِيدُ سَوْطِ الرَّجُلِ حَيْثُ يَرَى مِنْهُ بَيْتَ المَقْدِسِ خَيْرٌ لَهُ أَوْ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعًا )) يدلّك على حال المسلمين هذا الزّمان !!

فالله المستعان.


  

  

الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:

خامساً: موقف يزيد من أحداث الكوفة.

أيقن يزيدُ بنُ معاوية رضي الله عنه أنّ الحسينَ رضي الله عنه قد عزم على إجابة دعوة أهل الكوفة، فكتب إلى ابن عبّاس رضي الله عنه يناشده أن يكفّ عن سعيِه ذلك، وضمّن كتابه أبياتاً، منها:

أبلغ قريشاً على نَأْيِ المـزار بـها *** بيني وبين حسينٍ: الله، والرّحـم 

يا قومنا لا تشبوا الحرب إذ خمدت *** وأمسكوا بجبال السّلم واعتصموا

لا تركبوا البغْيَ؛ إنّ البغي  مصرعه *** وإنّ شـارب كأس  البغي يتّخِمُ

فقد غرّت الحربُ من كـان قبلكُمُ *** من القرون، وقد بادت بها الأمم

فأنصفوا قومكم، لا  تهلكوا بـذخاً *** فرُبَّ ذي بذخ  زلّت به القـدم

[" البداية والنّهاية " (11/ 505)].

الجمعة 09 محرم 1434 هـ الموافق لـ: 23 نوفمبر 2012 10:00

- مقتل الحسين رضي الله عنه (1) خروجه ومواقف الصّحابة منه

الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:

فكنّا في كلّ مناسبة عاشوراء نتلقّى عشرات الأسئلة عن سبب مقتل الحسين بن عليّ رضي الله عنهما: لماذا قُتِل ؟ ومن قتله ؟ وهل صحّ ما ينقله الرّافضة من أخبار عن بني أميّة وما فعلوه بالحسين وآل البيت ؟! ... وغيرها من الأسئلة.

وممّا لا نرتاب فيه أنّ هذه المواضيع قد تفاقم روّادُها، وتزايد قُصّادها، والتهب رمادُها، بنفخ الشّبكة العنكبوتيّة والقنوات الفضائيّة، فزاد كلّ ذلك من تساؤلاتهم واهتماماتهم.

وهذه المقالات إنّما هي فصولٌ مستلّة من كتاب "الدّولة الأمويّة" للدّكتور: عليّ محمد الصّلابي حفظه الله، اختصرتها اختصارا شديدا، وهذّبتها تهذيبا مفيدا، أضعه بين يدي القرّاء الكرام، لعلّه ينكشف اللّثام عن تلك الأحداث الّتي لطّختها أيدي الرّافضة اللّئام، ومن وافقهم من المفكّرين العوامّ !

الأحد 09 محرم 1433 هـ الموافق لـ: 04 ديسمبر 2011 09:37

- السّيرة النّبويّة (61) تشريع الأذان، والزّيادة في ركعات الصّلاة

الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:

فقد رأينا في الحلقة السّابقة موقف النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من المشركين واليهود الحاقدين، ألا وهو شعار:{وَدَعْ أَذَاهُمْْ} ..

بل إنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم تألّف أهلَ الكتاب بأن وافقهم فيما لا معصيةَ فيه؛ لأنّهم أقرب إلى الإسلام من المشركين.

أمّا في أبواب العبادات، فقد أعلن مخالفتَهم وجعلها قربةً إلى الله تعالى.

اليوم يُخالفهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في أظهر وأشهر شعائر الدّين، ألا وهو الأذان ..

الأحد 09 محرم 1433 هـ الموافق لـ: 04 ديسمبر 2011 05:53

شرح كتاب الحجّ 21: المساجد الثّلاثة: فضائل وأحكام

من سلسلة: شرح كتاب الحجّ من (صحيح التّرغيب والتّرهيب)

العنوان

استماع المادة

تحميل المادة

شرح كتاب الحجّ 21: المساجد الثّلاثة: فضائل وأحكام

الباب الرّابع عشـر: ( التّرغيب في الصّلاة في المسجد الحرام، ومسجد المدينة،وبيت المقدس، وقباء ).

  • شـرح التّبـويـب:

فإنّ المساجد عموما لها من الفضل العظيم، والمقام الكريم ما الله وحده به عليم، فهي أشرف البلاد، وأحبّها إلى ربّ العباد.

ومن بين بيوت الله الّني زادها الله تشريفا وتعظيما، وتمجيدا وتكريما: المساجد الثّلاثة، ومسجد قباء.

وهذه الفضائل أنواع ثلاثة:

النّوع الأوّل: فضائل تشترك فيها المساجد الثّلاثة: المسجد الحرام، والمسجد النّبويّ، والمسجد الأقصى – أعاده الله للمؤمنين بخير –.

والنّوع الثّاني: فضائل ثبتت للمسجدين: الحرام، والنّبويّ فقط.

النّوع الثّالث: فضائل ثبتت لمسجد بعينه خاصّة.

وهذا ما سوف نراه إن شاء الله في شرح أحاديث الباب وهي خمسة عشر حديثا.

الأحكام الّتي تشترك فيها المساجد الثّلاثة:

- الحكم الأوّل : مضاعفة الأجر. ويدلّ عليها الأحاديث التّالية:

  •  الأحاديث الأربعة الأولى:

1171-عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

(( صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ، إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ )).

[رواه مسلم والنسائي وابن ماجه].

1172-وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَسَاجِدِ، إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ صَلَاةٍ فِي هَذَا )).

رواه أحمد وابن خزيمة وابن حبان في "صحيحه" وزاد:" يَعْنِي فِي مَسْجِدِ المَدِينَةِ ".

والبزّار، ولفظه: أنّ رسول الله صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:

(( صَلاَةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ المَسَاجِدِ، إِلاَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ، فَإِنَّهُ يَزِيدُ عَلَيْهِ مِئَةَ صَلاَةٍ )).

[وإسناده صحيح أيضا].

1173-وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ، إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِئَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ )).

[رواه أحمد وابن ماجه بإسنادين صحيحين].

1174-وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

(( صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ، إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ )).

[رواه البخاري-واللّفظ له-، ومسلم، والتّرمذي، والنّسائي، وابن ماجه].

  •  شــرح الأحاديث :

هذه الأحاديث تدلّ على أنّ الأجر يُضاعف في المساجد الثّلاثة، وسيأتي حديث فضل الصّلاة في المسجد الأقصى.

ويندرج تحت هذا مسائل:

( المسألة الأولى ): مقدار المضاعفة.

مجموع ما تدلّ عليه هذه الأحاديث أنّ:

أ‌) صلاةً واحدة في المسجد النّبويّ خير من ألف صلاة في غيره.

ب‌) وصلاة واحدة في المسجد الحرام أفضل من مئة صلاة في المسجد النّبويّ، أي: أنّها تفضل مئة ألف صلاة في المساجد الأخرى.

ت‌) وصلاة واحدة في المسجد الأقصى أفضل من خمسمائة صلاة، لما رواه الطّبرانيّ والبزّار بإسناد جيّد عن أبي الدّرداء رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم:

(( فَضْلُ الصًّلاَةِ فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ عَلَى غَيْرِهِ مِائَةُ أَلْفِ صَلاَةٍ، وَفِي مَسْجِدِي أَلْفُ صَلاَةٍ، وَفِي مَسْجِدِ بَيْتِ المَقْدِسِ خَمْسُمِائَةِ صَلاَةِ ))، ومثله جاء عن جابر رضي الله عنه.

وسيأتي دفع ما يُعارض هذا في شرح الحديث التّاسع من هذا الباب.

( المسألة الثّانية ): هل المضاعفة تشمل الفريضة والنّافلة معاً ؟

اختلف العلماء في المراد بالصّلاة المضاعفة، أهي الفريضة، أم الفريضة والنّافلة ؟ قولان:

القول الأوّل: مذهب الجمهور، وهو أنّ المراد جميع الصّلوات سواء الواجبة فرضا أو نذرا، أو النّافلة. [" المعني " (3/251)، و" الأمّ " (1/98) (2/107)، و" جواهر الإكليل " (1/246)، و" حاشية الدّسوقيّ " (1/399)، و" حاشية قليوبي وعميرة " (1/2/76)، و"الفروع" لابن مفلح (1/598)].

واستدلّوا بأنّ اللّفظ: (( صَلاَةٌ )) مطلق، ولم يقيّد بفريضة ولا غيرها.

القول الثّاني: وهو مذهب الحنفيّة، أنّ المراد صلاة الفريضة فقط [" شرح فتح القدير "(3/96)، و" حاشية ابن عابدين " (2/524)] وبه قال الزّركشيّ في " إعلام السّاجد " (246) وهو من الشّافعيّة].

واستدلّوا بما رواه البخاري ومسلم- واللّفظ للبخاري - عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قال:

(( ... صَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِي بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ أَفْضَلَ الصَّلَاةِ صَلَاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ )).

والخطاب موجّه إلى أهل المسجد النّبوي. فلو كان فضل الصّلاة عامّا في النّافلة لما رغّب أصحابه رضي الله عنهم والنّساء خصوصا في الصّلاة في البيوت.

ويؤيّد ذلك أنّه صلّى الله عليه وسلّم لم يكن يتطوّع في المسجد إلاّ نادرا.

وهذا القول هو الأوجه، والله تعالى أعلم.

( المسألة الثّالثة ): هل المضاعفة تشمل جميع الحسنات أو هي خاصّة بالصّلاة ؟

أكثر العلماء على أنّ المضاعفة تشمل غير الصّلاة من الحسنات، واستدلّوا:

- بقول الله تعالى:{ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ } [آل عمران:96]، قال القرطبيّ:" جعله الله مباركا لتضاعف العمل فيه، فالبركة كثرة الخير ".

- وببعض الأحاديث الضّعيفة، بل والموضوعة، كالحديث الّذي رواه البزّار عن ابن عمر رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( رمضان بمكّة أفضل من ألف رمضان بغير مكّة )) !.

وكالحديث الّذي رواه الحاكم في "المستدرك" والبيهقيّ عن ابن عبّاس رضي الله عنه أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( حسنات الحرم: الحسنة بمائة ألف حسنة )) ! وصحّحه الحاكم، وقال الذّهبي رحمه الله (1/460): " ليس بصحيح، وأخشى أن يكون كذبا "، وضعّفه البيهقيّ.

- واستدلّوا بالقياس على الصّلاة، فقالوا: ما تضاعف الأجر إلاّ لبركة المكان والزّمان، فيقاس على الصّلاة غيرها.

والصّواب – والله أعلم – أن يقال: إنّ المضاعفة حاصلة عموما، دون تخصيص بعدد معيّن، من باب أنّ الله يكون أقرب إلى من اقترب إليه، وجاور حرمه، ونظيره حمايته لأهل الحرمين من فتنة المسيح الدجّال، فإنّه يدخل كلّ مدينة وقرية إلاّ مكّة والمدينة.

ولكن هل المضاعفة تشمل السّيّئات أيضا ؟

( المسألة الرّابعة ): هل المضاعفة تشمل السّيئات أيضا ؟

فأكثر العلماء على ذلك أيضا، واستدلّوا:

- بقوله تعالى:{ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [الحج: من الآية25].

قال ابن العربيّ في " أحكام القرآن "(3/1276):" فإنّ المعصية معصيتان: إحداهما بنفس المخالفة، والثّانية: بإسقاط حرمة البلد الحرام".

وذكر الجصّاص في " أحكام القرآن " (3/230) عن ابن عمر رضي الله عنه أنّه قال:" ظلم الخادم فما فوق بمكّة إلحاد، وقال عمر: احتكار الطّعام بمكّة إلحاد ".

وروى أحمد عن عبد الله بنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قال: " لَوْ أَنَّ رَجُلًا هَمَّ فِيهِ بِإِلْحَادٍ وَهُوَ بِعَدَنِ أَبْيَنَ لَأَذَاقَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَذَابًا أَلِيمًا ". 

- واستدلّوا بآثار عن الصّحابة رضي الله عنهم وغيرهم، منها: 

ما ذكره الزّركشيّ في " إعلام السّاجد " (ص132) عن عمر رضي الله عنه قال:" خطيئة أصيبها بمكّة أعزّ عليّ من سبعين خطيئة بغيرها ".

ونقل عن ابن عبّاس رضي الله عنه أنّه اتّخذ دارا بركبة بالطّائف، وقال:" لأن أُذنب خمسين ذنبا بركبة، أحبّ إليّ من أن أذنب ذنبا واحدا بمكّة ".

قال ابن عابدين رحمه الله في "حاشيته" (2/524): " ولهذا كره جماعة من السّلف المجاورة بمكّة، وقال بعضهم: وبالمدينة لأجل مضاعفة السيّئات ". 

- واستدلّوا بالقياس على مضاعفة بعض الذّنوب بالمدينة، كالحديث الّذي رواه الشّيخان عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( الْمَدِينَةُ حَرَمٌ، مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ )).

وهذه الآثار إن صحّت فهي تدلّ على قبح المعصية بالحرم، لا مضاعفة مقدارها، وهو أصل لا شكّ فيه، فذنب القريب ليس كذنب البعيد، ومن أنعم الله عليه ليس كمن لم يُنعَم عليه، قال ابن القيّم رحمه الله في " أعلام الموقّعين " (2/129):

" فإنّ الرّجل كلّما كانت نعمة الله عليه أتمّ كانت عقوبته إذا ارتكب الجرائم أتمّ، ولهذا قال تعالى في حقّ من أتم نعمته عليهنّ من النساء:{ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً (31)} [الأحزاب] ..

فإنّ العبد كلّما كملت نعمة الله عليه ينبغي له أن تكون طاعته له أكمل، وشكره له أتمّ، ومعصيته له أقبح، وشدّة العقوبة تابعة لقبح المعصية.

ولهذا كان أشدّ النّاس عذابا يوم القيامة عالما لم ينفعه الله بعلمه، فإنّ نعمة الله عليه بالعلم أعظم من نعمته على الجاهل، وصدور المعصية منه أقبح من صدورها من الجاهل، ولا يستوي عند الملوك والرؤساء من عصاهم من خواصّهم وحشمهم ومن هو قريب منهم، ومن عصاهم من الأطراف والبعداء، فجعل حد العبد أخفّ من حدّ الحرّ جمعا بين حكمة الزّجر، وحكمة نقصه، ولهذا كان على النّصف منه في النّكاح، والطّلاق، والعدّة، إظهارا لشرف الحرّية وخطرها، وإعطاء لكلّ مرتبة حقّها من الأمر، كما أعطاها حقّها من القدر..".اهـ

- أمّا المسجد الأقصى فلا يُعلم من قال بمضاعفة السيّئات فيه، وقد حُكِي عن كعب الأحبار القول بهذا، ولا دليل عليه، كما بيّنه الشّوكاني في " فتح القدير "(3/447)، والزّركشيّ في " إعلام السّاجد " (ص290). 

  

  •   

  

  

  



 

الأحد 09 محرم 1433 هـ الموافق لـ: 04 ديسمبر 2011 04:52

184- اختلاف الناس حول يوم عاشوراء

الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:

فقد سألني كثيرون عن اختلاف البلدان والأقاليم في رؤية هلال محرّم، وعليه اختلفوا في يوم عاشوراء: أهو الإثنين أو الثلاثاء ؟

وكان جوابي بما يلي:

الأربعاء 05 محرم 1433 هـ الموافق لـ: 30 نوفمبر 2011 23:31

- شرح الأصول الثّلاثة (12) السّبيل إلى معرفة الله عزّ وجلّ (صوتي)

من سلسلة: شرح الأصول الثّلاثة

العنوان

استماع المادة

تحميل المادة

تحميل الدّرس مكتوبا

- شرح الأصول الثّلاثة (12) السّبيل إلى معرفة الله عزّ وجلّ

الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:

قال رحمه الله:

فإذَا قيلَ لكَ: بِمَ عرفْتَ ربَّك ؟ فقُل: بآياتِه ومخلوقاتِه.

ومِنْ آياتِه: اللّيلُ والنّهارُ والشمسُ والقمرُ، ومِنْ مخلوقاتِه السّمٰواتُ السَّبْعُ والأَرْضُونَ السَّبع ومَنْ فيهنَّ وما بينهما، والدّليلُ قولُه تَعَالىٰ: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت:37]، وقولُهُ تعالى:{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54].

الشّرح:

بعدما ذكر المؤلّف رحمه الله الأصول الثّلاثة على سبيل الإجمال، شرع في تفصيل الأمر الأوّل وهو معرفة الله عزّ وجلّ؛ لأنّه أوجب الواجبات على الإطلاق، وهو أصل المسائل.

 فبعدما ذكر رحمه الله أمّ المسائل، وهي معرفة الله عزّ وجلّ شرع في ذكر الدّلائل على ذلك.

  • · قوله رحمه الله: ( فإذا قيلَ لكَ ): ما زال المؤلّف رحمه الله يؤصّل لهذه الأصول على طريقة السّؤال والجواب، لإثارة الاهتمام والانتباه.
  • · قوله: ( بِمَ عرفْتَ ربَّك ؟): أي: ما هو السّبيل إلى معرفة الله تعالى. ومعرفة الله نوعان: معرفة إقرار، ومعرفة اعتبار كما سيأتي بيانه إن شاء الله.

والمقصود بالمعرفة هنا معرفة الاعتبار الّتي تورثُ المحبّة والتّعظيم والخشية والرّجاء والتوكّل وغير ذلك من مقامات الإيمان. 

  • · قوله: ( فقُل: بآياتِه ومخلوقاتِه ): الآيات جمع آية، وهي العلامة والبرهان والحجّة. 

والمخلوق هو كلّ ما سوى الله عزّ وجلّ، وهو ما أوجده الخالق من العدم. 

فالسّبيل إلى معرفة الله عزّ وجلّ طريقان:

أ) الآيات المتلوّة الشّرعيّة: قال تعالى:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ}، وقال جلّ ذكره:{أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشّعراء: 197].

وقد أنكر سبحانه على من لم يتفطّن إلى أنّ القرآن من أعظم الآيات فقال:{وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)} [العنكبوت].

ب) الآيات المرئيّة الكونيّة: قال تعالى:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190]، وقال تعالى:{أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)} [الغاشية].

والمؤلّف رحمه الله لم يذكر الآيات الشّرعيّة، وإنّما اقتصر على ذكر الآيات الكونيّة، وسمّاها آياتٍ ومخلوقات، وهي كلّها شيء واحد كما لا يخفى، فقال رحمه الله:  

  • · قوله: ( ومن آياتِه: اللّيلُ والنّهارُ والشمسُ والقمرُ، ومِنْ مخلوقاتِه السّمٰواتُ السَّبْعُ والأَرْضُونَ السَّبع ومَنْ فيهنَّ وما بينهما): فالسّموات والأرض من الآيات، كما قال تعالى:{إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الجاثية: 3]. والظّاهر أنّه جعل الآيات ما يتغيّر حاله كاللّيل والنّهار والشّمس والقمر، والمخلوقات ما هو مستقرّ كالسّماوات والأرض.  

فإن قال قائل: لماذا خصّ المؤلّف رحمه الله الآيات الكونيّة بالذّكر ؟ قيل:

سبب هذا التّخصيص أنّ الآيات الكونيّة والمخلوقات المرئيّة دليل واضح لكلّ أحدٍ، وتقرّ به الفِطرة والعقل؛ إذ لكلّ حادث من مُحدِث، وقد سبق بيان ذلك.

وينبغي لصاحب العقيدة والإيمان أن يستحضر هذه الآيات، ولا تكون حياتُهم بمعزلٍ عنها، وإلاّ استوينا وأولئك الّذين نرميهم بأنّ مادّيون !

فإذا نظر إلى السّماء والأرض والجبال وغير ذلك اعتبر وتذكّر عظمة الخالق عزّ وجلّ، وقيامه على هذا الكون، وبذلك لا يكون قد فصل حياته الكونيّة عن حياته الشّرعيّة، والله هو القائل:{أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: من الآية54].

روى البخاري ومسلم عن ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنه قال:

بِتُّ عندَ خالتِي ميْمونَةَ رضي الله عنها، فَتَحَدَّثَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم معَ أهلِهِ ساعةً، ثمَّ رقَدَ، فلمّا كانَ ثلُثُ اللّيْلِ الآخِرُ، قَعَدَ، فنظَرَ إِلَى السّمَاءِ، فقالَ: (({إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ} ثُمَّ قَامَ، فَتَوَضَّأَ، وَاسْتَنَّ، فَصَلَّى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الصُّبْحَ.

زاد ابن حبان رحمه الله: فلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حتّى بَلَّ الأَرْضَ، فَجَاءَ بِلاَلٌ رضي الله عنه يُؤْذِنُهُ بِالصَّلاَةِ، فَلَمَّا رَآهُ يَبْكِي، قال: يا رسولَ اللهِ، لِمَ تَبْكِي وقدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ ؟! قال: (( أَفَلاَ أَكُونُ عَبْداً شَكُوراً ؟! لَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ آيَةٌ، وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ...} الآية كلَّها )).

وقد كانت أكثر عبادة السّلف التفكّر والتذكّر، فقيل لأمّ الدّرداء رضي الله عنها: ما كان أكثرُ شأن أبي الدّرداء رضي الله عنه ؟ قالت: كان أكثر شأنه التفكّر.

قيل لأبي الدّرداء: أفترى التفكّر عملاً من الأعمال ؟ قال: نعم هو اليقين.

وقال أحد الزّهاد:" والله ما رأيت الثّلج يتساقط إلاّ تذكّرت تطايُرَ الصّحف يوم الحشر والنّشر ".

كيف لا والله تعالى يقول:{وفي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ}.

وقد أشار الله تعالى إلى عبادةَ التفكّر في قوله:{أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)} [الواقعة].

روى البخاري ومسلم عن أبِي هريرَةَ رضي الله عنه أنّ النّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( نَارُكُمْ هَذِهِ الَّتِي يُوقِدُ ابْنُ آدَمَ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ )).

فالمؤلّف رحمه الله ذكر طريقين إلى معرفة الله تعالى، وقد كان ابن القيّم رحمه الله أكثر دقّة في بيانهما؛ حيث قال في " الفوائد " (170):

" فصل: معرفة الله سبحانه نوعان:

1- معرفة إقرار، وهي الّتي اشترك فيها النّاس جميعا: البرّ والفاجر، والمطيع والعاصي.

2- والثّاني: معرفة توجبُ الحياءَ منه والمحبّة له، وتعلّقَ القلب به، والشّوق إلى لقائه، وخشيتَه، والإنابةَ إليه، والأنسَ به، والفرارَ من الخلق إليه.

وهذه هي المعرفة الخالصة الجارية على لسان القوم، وتفاوتُهم فيها لا يُحصيه إلاّ الّذي عرّفهم بنفسه، وكشف لقلوبهم من معرفته ما أخفاه عن سواهم ... ولهذه المعرفة بابان واسعان:

باب التفكّر والتأمّل في آيات القرآن كلّها، والفهم الخاصّ عن الله ورسوله.

والباب الثّاني: التفكّر في آياته المشهودة، وتأمّل حكمته فيها، وقدرته ولطفه وإحسانه وعدله وقيامه بالقسط على خلقه، وجماع ذلك: الفقهُ في معاني أسمائه الحسنى وجلالها وكمالها، وتفرّده بذلك، وتعلّقها بالخلق والأمر، فيكون فقيها في أوامره ونواهيه، فقيها في قضائه وقدره، فقيها في أسمائه وصفاته، فقيها في الحكم الدّيني الشّرعيّ، والحكم الكونيّ القدريّ، و{ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ}"اهـ.

  • · والدّليلُ قولُه تَعَالىٰ:{وَمِنْ آيَاتِهِ}: الدالّة على كمال القدرة، وكمال الحكمة، وكمال الرّحمة.

{اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ}: فمن أعظم آيات الله المشاهدة بالأبصار اللّيل والنّهار، وكيف يأتي اللّيل على النّهار فيغطّيه حتّى كأنّه لم يكن، ثمّ يأتي النّهار فيذهب بظلمة اللّيل حتّى كأن اللّيل لم يكن، فمجيء هذا وذهاب هذا بهذا الإتقان وهذا التّرتيب البديع المنتظم دالّ على وحدانية خالقه سبحانه، وهو القائل:{وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ}.

وقال تعالى وهو يذكّر عباده بنعمة اللّيل والنّهار:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72)} [القصص].

{وَالشَّمْسُ}: فهي من آيات الله العظيمة بحجمها وآثارها ونورها:

أمّا حجمها فهي مخلوق عظيم. وأمّا آثارها: فيحصُل منها من المنافع للأجسام والأشجار والأنهار والبحار ما لا يحاط به، على بُعدِها من الأرض، وقد أقرّ الكافرون أنفسُهم بأنّه لو ابتعدت الشّمس عن الأرض بحدّ أو اقتربت بحدّ لفسدت الأرض وخرب العالم.

وأمّا نورها فمن آثاره النّهار الّذي جعله الله معاشا للنّاس.

{وَالْقَمَرُ}: حيث قدّره الله منازل لكلّ ليلة ليعلم النّاس عدد السّنين والحساب.

وترى كلاّ من الشّمس والقمر يجريان في الفلك بإتقان وإحكام، قال تعالى:{وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)} [يس].

{لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ}: وجاء بعد الدّعوة إلى النّظر في آيات الله تعالى الدّالة على توحيد ووجوب عبادته، جاء البراء ممّا سواه، والأمر - كما سبق بيانه - دائرٌ بين الإثبات والنّفي.

فالشّمس والقمر مهما بلغا من شأنهما فإنّهما لا يستحقّان العبادة، وخصّ الشّمس والقمر بالذّكر لأنّهما أعظم المخلوقات، كما خصّ السّجود بالذّكر دون سائر أنواع العبادة لأنّه أشرف مظاهرها ونهاية التّعظيم.

بل أخبر تعالى أنّ الشّمس والقمر كلّ منهما عبدٌ مطيع عابد ساجد لله، فقال:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ} [الحجّ من: 18]، فإذا كانا يسجدان لله فكيف يُسجد لهما ؟

روى البخاري روى البخاريّ عن أبي ذَرٍّ رضي الله عنه قال: قال النّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم لأبي ذَرٍّ حِينَ غرَبَتْ الشَّمْسُ: (( أَتَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ ؟ )) قلت: اللهُ ورسولُهُ أَعْلَمُ. قال: (( فَإِنَّهَا تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ الْعَرْشِ، فَتَسْتَأْذِنَ فَيُؤْذَنُ لَهَا، وَيُوشِكُ أَنْ تَسْجُدَ فَلَا يُقْبَلَ مِنْهَا، وَتَسْتَأْذِنَ فَلَا يُؤْذَنَ لَهَا، يُقالُ لها: ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ، فَتَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فذلكَ قولُهُ تعالى:{وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ})).

لذلك قال تعالى:

{وَاسْجُدُوا للهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}: أي: إن كنتم تعبدون الله على الحقيقة فإنّه لا يصحّ أن يُصرف شيءٌ من مظاهر العبادة لغيره، ولو كان أعظم مخلوق.

  • · وقولُهُ تعالى:{إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}.

ومن دلالات الخلق على توحيد الله:

  • · قوله تعالى:{إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ}: فهو سبحانه يتعرّف إلى عباده ليوحّدوه ويُعظّموه، فدلّهم عليه بمخلوقاته:

{الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ}: أي ومن أعظم مخلوقات الله الدالّة على وحدانيته: السماوات السبع، وسعتها، وارتفاعها، وما فيها من الكواكب الزّاهرة، والآيات الباهرة.

{وَالأَرْضَ}: أي: والأرضون السّبع، وامتدادُها، وسعة أرجائها، وما في الأرض من الجبال والبحار، وأصناف المخلوقات من الحيوانات والنباتات وسائر الموجودات.

ثمّ ما بين السّماوات والأرض من أنواع الهواء والسّحاب وغير ذلك، كلّه دالّ على وحدانية الباري جلّ جلاله.

{فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ}: من أيّام الدّنيا، ولو شاء سبحانه أن يخلقها في لحظة لفعل، ولكنّه تعالى يعلّم عبادة التّؤدة وترك العجلة، وربط الأسباب بمسبّباتها.

{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}: فقد كان الله ولا شيء معه، ولا قبله، فخلق الخلق، وجعل سقف السّموات العرش، وهو أعظم مخلوق، فعلا وارتفع على العرش سبحانه.

{يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ}: أي: يجعل اللّيل غطاء للنّهار، والنّهار غطاءً للّيل، حتّى تقوم السّاعة.

{يَطْلُبُهُ حَثِيثًا}: أي سريعا بسرعة فائقة متناهية حتّى لا نكاد نشعُر بذلك.

{وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ}: مذلّلات للخلق مأمورة بأمره سبحانه، فلا يسير شيء منها إلاّ بتدبيره وإذنه.

{أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ}: الخلق هو الأمور الكونيّة، والأمر: هو الأمور الشّرعيّة فلم يأمر سبحانه إلاّ بما يُصلح أمور العباد في المعاش والمعاد، فلا يخالف أمرُه خلقَه.

{تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}: البركة هي الخير الكثير، ومعنى ( تبارك ): بلغ من البركة نهايتَها؛ فهو إله الخلق ومليكهم، وموصل الخيرات إليهم، ودافع المكاره عنهم، والمتفرّد بإيجادهم وتدبيرهم.

  

 : 

من سلسلة: شرح كتاب الحجّ من (صحيح التّرغيب والتّرهيب)

العنوان

استماع المادة

تحميل المادة

شرح كتاب الحجّ 20:

الباب الثّالـث عـشـر: ( ترهيب من قدر على الحجّ فلم يحجّ، وما جاء في لزوم المرأة بيتَها بعد قضاء فرض الحجِّ ). 

  •  الحـديـث الأوّل:

وتقدّم حديث حُذَيْفَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

(( الإِسْلاَمُ ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ: الإِسْلاَمُ سَهْمٌ، وَالصَّلاَةُ سَهْمٌ، وَالزَّكَاةُ سَهْمٌ، وَالصَّوْمُ سَهْمٌ، وَحَجُّ البَيْتِ سَهْمٌ، وَالأَمْرُ بِالمَعْرُوفِ سَهْمٌ، وَالنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ سَهْمٌ، وَالجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ سَهْمٌ، وَقَدْ خَابَ مَنْ لاَ سَهْمَ لَهُ )).

[رواه البزّار].

  •  شـرح الحـديـث: 

سبق أن ذكرنا في المقدّمة أنّ الرّاجح من أقوال أهل العلم أنّ الحجّ يجب على القادر على الفور، وذكرنا النّصوص المرهّبة من تركه والتّقاعس عن أدائه.

وهذا الباب يؤكّد ما سبق ذكره، ثمّ يخصّ المرأة بترغيبها بأن تكتفِي بأداء فريضة الحجّ، ولا تتوسّع في الخروج.

- قوله: " وتقدّم حديث حذيفة .." الخ، أي: في " كتاب الصّدقات ". 

- قوله: ( الإِسْلاَمِ ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ: الإِسْلاَمُ سَهْمٌ ) الإسلام في الجملة الأولى المقصود به الدّين، و( الإِسْلاَمُ ) في الجملة الثّانية المقصود به الشّهادة، لأنّ الإسلام لا يتمّ إلاّ بها.

ويؤيّد ذلك رواية أخرى عند البزّار نفسِه بلفظ: (( الإِسْلاَمُ ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ: الشَّهَادَةُ سَهْمٌ )). 

وقد رأى بعض أهل العلم أنّ هذا الحديث يعارض ما هو معلوم من أنّ أركان الإسلام خمسة، كما في حديث ابن عمر رضي الله عنه، وليست ثمانيةً، وممّن تكلّم عن هذا التّعارض الإمام ابن عبد البرّ رحمه الله في " التّمهيد " (16/161) حيث قال بعد ذكر حديث ابن عمر رضي الله عنه: 

" وعلى هذا أكثر العلماء، أنّ أعمُدَ الدّين الّتي بُنِي عليها خمس، على ما في خبر ابن عمر هذا، إلاّ أنّه جاء عن حذيفة خبرٌ يخالف ظاهرُه خبرَ ابن عمر هذا في الإسلام، قال: (( الإِسْلاَمُ ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ: الشَّهَادَةُ سَهْمٌ، وَالصَّلاَةُ سَهْمٌ، وَالزَّكَاةُ سَهْمٌ، وَحَجُّ البَيْتِ سَهْمٌ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ سَهْمٌ، وَالجِهَادُ سَهْمٌ، وَالأَمْرُ بِالمَعْرُوفِ سَهْمٌ، وَالنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ سَهْمٌ، وَقَدْ خَابَ مَنْ لاَ سَهْمَ لَهُ )).

قال: وقد ذكرنا فرضَ الجهاد وما يتعيّن منه على كلّ مكلّف، وما منه فرض على الكفاية، وأنّه لا يجري مجرى الصّلاة والصّوم.

وأمّا الأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر فليس يجري أيضا مجرى الخمس المذكورة في حديث ابن عمر رضي الله عنه، لقول الله عزّ وجلّ:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } [المائدة: من الآية105]". 

والصّواب أنّه لا تعارض، وإنّما يقال:

إنّ الأركان الخمسة المعروفة تجب في كلّ زمان ومكان، وعلى كلّ شخص قادر.

بخلاف الأمور الأخرى الثّلاثة فهي لا تجب بذاتها، وإنّما تجب عندما يقتضي الأمر ذلك، فعند وقوع المنكر يجب النّهي، وعند ترك الطّاعة يجب الأمر، وعند وقوع الضّرر بالمسلمين ورفض الكفّار للدّين يجب الجهاد في سبيل الله. 

والدّليل على أنّ ذلك يختلف باختلاف الأشخاص، ما رواه أحمد عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( ثَلَاثٌ أَحْلِفُ عَلَيْهِنَّ:

لَا يَجْعَلُ اللَّهُ عزّ وجلّ مَنْ لَهُ سَهْمٌ فِي الْإِسْلَامِ كَمَنْ لَا سَهْمَ لَهُ، فَأَسْهُمُ الْإِسْلَامِ ثَلَاثَةٌ: الصَّلَاةُ، وَالصَّوْمُ، وَالزَّكَاةُ.

وَلَا يَتَوَلَّى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَبْدًا فِي الدُّنْيَا فَيُوَلِّيهِ غَيْرَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. 

وَلَا يُحِبُّ رَجُلٌ قَوْمًا إِلَّا جَعَلَهُ اللَّهُ عزّ وجلّ مَعَهُمْ. 

وَالرَّابِعَةُ لَوْ حَلَفْتُ عَلَيْهَا رَجَوْتُ أَنْ لَا آثَمَ: لَا يَسْتُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَبْدًا فِي الدُّنْيَا إِلَّا سَتَرَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )). 

فلم يذكر الشّهادة لأنّ الخطاب للمؤمن، ولم يذكر الحجّ لأنّه إنّما يجب على المستطيع. 

- ( فائدة ): غاير النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بين الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، كما في سائر الآيات والأحاديث، وذلك: ليدلّ على أنّ الأمر بالمعروف لا يسقط بالنّهي عن المنكر، وأنّ النّهي عن المنكر لا يسقط بالأمر بالمعروف، وذلك من وجهين اثنين:

أ‌) فأحيانا يكون نهي ولا يكون أمر، كالسّارق وشارب الخمر، فإنّهما يُنهيان عن الخمر والسّرقة، ولا يؤمران بشيء مقابل ذلك.

ب‌) أنّ الأمر أحيانا يكون مجملا، يقابله عددٌ من المنهيّات، فيأتي النّهي للتّفصيل. 

مثال على ذلك: أنّك تأمر غيرك بالإحسان إلى الزّوجة، ثمّ تفصّل في المنهيّات حتّى يتبيّن معنى الإحسان، فتنهاه عن الشّتم، والتّحقير، وعن البخل والتّقتير، وعن الضّرب والإيذاء، والتّجاهل والبذاء، وغير ذلك ممّا يضادّ مظاهر الإحسان.  

وبهذا تعلم أنّ الواو في قوله تعالى:{ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ } [التوبة من:112] لها وزنها الثّقيل في الكلام، وأنّها ليست واو الثّمانية الّتي ذكرها بعض العلماء الأعلام.

  •  الحـديـث الثّـانـي:

1166-وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِي رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

(( يَقُولُ اللهُ عزّ وجلّ: إِنَّ عَبْدًا صَحَّحْتُ لَهُ جِسْمَهُ، وَوَسَّعْتُ عَلَيْهِ فِي المَعِيشَةِ تَمْضِي عَلَيْهِ خَمْسَةُ أَعْوَامٍ لاَ يَفِدُ إِلَيَّ لَمَحْرُومٌ )).

رواه ابن حبّان في "صحيحه"، والبيهقيّ وقال:

" قال عليّ بن المنذر: أخبرني بعض أصحابنا قال: كان حسن بنُ حَييّ يعجبه هذا الحديث، وبه يأخذ ويحبّ للرّجل الموسِر الصّحيح أن لا يتركَ الحجّ خمس سنين ".

  • شـرح الحـديـث:

ذهب بعض الشّافعيّة إلى وجوبه كلّ خمسة أعوام كما في " إعانة الطّالبين " (2/285).

والصّواب أنّ هذا الحديث خرج مخرج تأكيد الحجّ كلّ خمس سنوات، لا وجوبه، كما في المصدر السّابق، و" الإقناع " للشّربيني (1/250)، و" مغني المحتاج " (1/460)، و" كفاية الطّالب الربّاني " (1/650)، و" الثّمر الدّاني " (1/360).

وقد ردّ القرطبيّ رحمه الله في تفسيره لسورة " آل عمران " هذا القول بالحديث الّذي رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ:

خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَ: (( أَيُّهَا النَّاسُ ! قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ فَحُجُّوا )).

فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَسَكَتَ، حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ )) ثُمَّ قَالَ: (( ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ )).

وردّ النّووي هذا القول بإجماع الصّحابة والتّابعين.

وما ذكره المصنّف عن الحسن بن حُييّ، ذكره البيهقيّ في " السّنن الكبرى " (5/262) أيضا عن الحسن بن صالح – وهو أحد كبار التّابعين –، قال رحمه الله:" الحجّ في كلّ خمسة أعوام أفضل ".

ووجه التّرهيب من ترك الحجّ في هذا الحديث من وجهين اثنين:

الأوّل: أنّه سمّاه محروما، والحرمان من ألفاظ التّرهيب كما لا يخفى.

الثّاني: أنّ الله تعالى حكم على عبده الّذي لم يحجّ بعد خمس سنوات فقط بالحرمان، فكيف بمن لم يحجّ أصلا ؟!

والله الموفّق لا ربّ سواه.

  • الحـديث الثّاني، والثّالث، والرّابع، والخامس:

1167-عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِنِسَائِهِ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ:

(( هَذِهِ، ثُمَّ ظُهُورَ الْحُصْرِ )).

قَالَ: فَكُنَّ كُلُّهُنَّ يَحْجُجْنَ إِلَّا زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ وَسَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ، وَكَانَتَا تَقُولَانِ: وَاللَّهِ لَا تُحَرِّكُنَا دَابَّةٌ بَعْدَ إِذْ سَمِعْنَا ذَلِكَ مِنْ النَّبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ".

قَالَ إِسْحَاقُ فِي حَدِيثِهِ: قَالَتَا: وَاللَّهِ لَا تُحَرِّكُنَا دَابَّةٌ بَعْدَ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( هَذِهِ، ثُمَّ ظُهُورَ الْحُصْرِ )).

[رواه أحمد، وأبو يعلى، وإسناده حسن، رواه عن صالح مولى التّوأمة ابنُ أبي ذئب، وقد سمع منه قبل اختلاطه].

1168-وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ:

(( هِيَ هَذِهِ الحَجَّةُ، ثُمَّ الجُلُوسُ عَلَى ظُهُورِ الحَصْرِ فِي البُيُوتِ )).

[رواه الطّبراني في "الكبير"، وأبو يعلى، ورواته ثقات].

1169-ورواه الطّبراني في "الأوسط" عن ابن عمر رضي الله عنه:

" أنّ النّبيّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمَاَّ حَجَّ بِنِسَائِهِ، قَالَ:

(( إنَّمَا هِيَ هَذِهِ، ثُمَّ عَلَيْكُمْ بِظُهُورِ الحُصْرِ )).

1170-عَنْ ابْنٍ لِأَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِأَزْوَاجِهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ:

(( هَذِهِ ثُمَّ ظُهُورَ الْحُصْرِ )).

[رواه أبو داود، ولم يُسمِّ ابنَ أبي واقد].

  • شـرح الأحـاديـث:

- قوله: ( هذه ): أي: هذه الحجّة هي حجّتكنّ الواجبة عليكنّ، فاكتَفِينَ بها. بدليل الرّواية الأخرى: ( إنّما هي هذه الحجّة ).

- قوله: ( ثمّ ظُهُورَ الحُصْر ): الحُصر: جمع حصير. و( ظهور الحُصر ): هو وجه الحصير الّذي يُجلَس عليه. وفي رواية أمّ سلمة رضي الله عنها: (( ثُمَّ الجُلُوسُ عَلَى ظُهُورِ الحَصْرِ فِي البُيُوتِ )).

وهذا كناية عن القرار في البيوت، كما يقال: عليك بحِلْسِ بيتك، أي: عرصته.

قال ابن الأثير رحمه الله:" أي إنّكنّ لا تعُدن تخرجن، وتلزمن الحُصُرَ، هي جمع الحصير، الّتي تبسط البيوت بضمّ الصّاد وتسكّن تخفيفا ".

وقال ابن كثير رحمه الله تعالى في " تفسيره ":" يعني: ثم الْزَمن ظهور الحصر ولا تخرجن من البيوت ".

  • فقه هذه الأحـاديث:

1-هذا الحديث فيه ترغيب شديد للمرأة أن تلزم بيتها، وأنّ النّصوص المرغّبة في الحجّ كلَّ عامٍ، يُستثنى منها النّساء.

قال الشّيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى معلّقاً على هذا الحديث في " عمدة التّفسير " (3/11):

" فإذا كان هذا في النّهي عن الحجّ بعد حجّة الفريضة - على أنّ الحجّ من أعلى القربات عند الله فما بالك بما يصنع النّساء المنتسبات للإسلام في هذا العصر من التنقّل في البلاد ؟! حتّى ليخرجن سافرات عاصيات ماجنات إلى بلاد الكفر ! وحدهنّ دون محرم! أو مع زوج أو محرم كأنّه لا وجود له ! فأين الرّجال ؟! أين الرّجال ؟! " اهـ

2-أمرُه صلّى الله عليه وسلّم بالاكتفاء بحجّة الفريضة ليس للوجوب، وإنّما هو للاستحباب، بدليل أنّ نساء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حججن بعد ذلك، وما كان أمّهات المؤمنين يعصِِين أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم .

ثمّ إنّ بعض العلماء – كالحافظ ابن كثير رحمه الله – يرى أنّ هذا الأمر يصرفه عن الوجوب الحديثُ الثّاني الّذي مرّ معنا، وهو قوله تعالى في الحديث القدسيّ: (( إِنَّ عَبْدًا صَحَّحْتُ لَهُ جِسْمَهُ، وَوَسَّعْتُ عَلَيْهِ فِي المَعِيشَةِ، تَمْضِي عَلَيْهِ خَمْسَةُ أَعْوَامٍ لاَ يَفِدُ إِلَيَّ لَمَحْرُومٌ )). فالمرأة تدخل في الخطاب.

وقد كان عمر رضي الله عنه يمنعهنّ من الحجّ والعمرة، عملا بالحديث، حتّى استأذنّه في الحجّ، فأذن لهنّ.

روى البخاري عَنْ إبراهيم بن عبد الرّحمن بن عوف قال: أَذِنَ عُمَرُ رضي الله عنه لِأَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم فِي آخِرِ حَجَّةٍ حَجَّهَا، فَبَعَثَ مَعَهُنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ رضي الله عنهما.

وقد خرج نساء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كلّهنّ حاجّاتٍ، إلاّ زينبَ بنتَ جحش وسودةَ بنت زمعة.

أمّا زينب رضي الله عنها فكانت قد ماتت، وهي أوّل نساء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم موتا بعده، فقد روى البخاري ومسلم عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( أَسْرَعُكُنَّ لَحَاقًا بِي أَطْوَلُكُنَّ يَدًا )) قَالَتْ: فَكُنَّ يَتَطَاوَلْنَ أَيَّتُهُنَّ أَطْوَلُ يَدًا، قَالَتْ: فَكَانَتْ أَطْوَلَنَا يَدًا زَيْنَبُ لِأَنَّهَا كَانَتْ تَعْمَلُ بِيَدِهَا وَتَصَدَّقُ.

وأمّا سودة بنت زمعة رضي الله عنها، فكانت تقول:" وَاللَّهِ لَا تُحَرِّكُنَا دَابَّةٌ بَعْدَ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم ".

والله أعلم.



 

الصفحة 136 من 253

Your are currently browsing this site with Internet Explorer 6 (IE6).

Your current web browser must be updated to version 7 of Internet Explorer (IE7) to take advantage of all of template's capabilities.

Why should I upgrade to Internet Explorer 7? Microsoft has redesigned Internet Explorer from the ground up, with better security, new capabilities, and a whole new interface. Many changes resulted from the feedback of millions of users who tested prerelease versions of the new browser. The most compelling reason to upgrade is the improved security. The Internet of today is not the Internet of five years ago. There are dangers that simply didn't exist back in 2001, when Internet Explorer 6 was released to the world. Internet Explorer 7 makes surfing the web fundamentally safer by offering greater protection against viruses, spyware, and other online risks.

Get free downloads for Internet Explorer 7, including recommended updates as they become available. To download Internet Explorer 7 in the language of your choice, please visit the Internet Explorer 7 worldwide page.