- شرح الأصول الثّلاثة (06) الإقرار بتوحيد الألوهيّة
[بعد الحمد، والتّذكير بما سبق]:
- · قوله تعالى: ( فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ ): وأتى بالألف واللاّم هنا، للتّعريف وأنّ فرعون عصى الرّسول المبعوث إليه، ومن قواعد كلام العرب: النّكرة إذا أُعيدت نكرة كانت غيرها، وإذا أعيدت معرفة كانت نفسها.
- · لذلك لمّا كان ابن عبّاس رضي الله عنه يقرأ قوله تعالى:{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)} [الشّرح] يقول: ولن يغلِب عُسرٌ يُسرين.
- · ( فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلاً ): قال ابن عبّاس رضي الله عنه: أي: شديدا.
- · قوله رحمه الله: ( الثّانية: أنَّ اللهَ لا يرضى أن يُشْرك معهُ أحدٌ في عبادتِه لا مَلَكٌ مُقَرَّب ولا نبيٌّ مُرْسَل، والدّليلُ قولُهُ تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:18]).
وهذه المسألة غايةٌ للمسألة الأولى، فلمّا تضمّنت المسألة الأولى وجوب معرفة ربوبيّة الله تعالى، فكأنّ سائلا يسأل: فما العلّة من خلقِنا ورَزقِنا وإرسال الرّسول إلينا ؟ فيأتي الجواب: إنّما الغاية من ذلك هو عبادة الله وحده لا شريك له.
فإذا أقرّ العبدُ بربوبيّة الله تعالى كان واجبا عليه أن يُذعِن له بالإخلاص في العبادة.
وقد روى التّرمذي في الحديث الطّويل في وصايا يحيى عليه السّلام الخمس: (( أَوَّلُهُنَّ: أَنْ تَعْبُدُوا اللهَ ولا تُشْرِكُوا بِهِ شيْئًا؛ وَإِنَّ مَثَلَ منْ أَشْرَكَ بِاللهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اشْتَرَى عَبْدًا مِنْ خَالِصِ مَالِهِ بِذَهَبٍ أَوْ وَرِقٍ، فَقَال: هَذِهِ دَارِي وَهَذَا عَمَلِي، فَاعْمَلْ وَأَدِّ إِلَيَّ، فَكَانَ يَعْمَلُ وَيُؤَدِّي إِلَى غَيْرِ سَيِّدِهِ ! فَأَيُّكُمْ يَرْضَى أَنْ يَكُونَ عَبْدُهُ كَذَلِكَ ؟)). لذلك قال المصنّف رحمه الله:
- قوله: ( لاَ يَرْضَى ): وصفة الرّضا غير صفة الإرادة؛ فالرّضا نوع من أنواعها؛ ذلك لأنّ إرادة نوعان:
أ) إرادة كونيّة: فلا يحدُث في كونه سبحانه إلاّ ما يريد، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكُن، وضابطه: أن يُمكِّن العبدُ من الفعل، أي: يستطيع.
ب) إرادة شرعيّة، وضابطها: الأوامر والنّواهي: افعل أو لا تفعل.
والشّرك واقعٌ في الكون بإرادة الله سبحانه؛ ولو شاء الله أن لا يكون ما كان، ولكنّه لا يرضاه، فهو لا يريده الإرادة الشّرعيّة.
قال الله تعالى:{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزّمر من: 7]، وقال:{وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة من:3]، وفي صحيح مسلم والإمام أحمد - واللّفظ له - عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم:
(( إِنَّ اللهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثًا، فَيَرْضَى لَكُمْ: أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تُنَاصِحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ: قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةِ الْمَالِ )).
ومن لوازم صفة الرّضا المحبّة، فإذا رضِي الله عن عبده أحبّه، وهو غاية ما تصبو إليه الأنفس والقلوب والأرواح، كما قال بعض السّلف: ليس الشأن أن تُحِبّ ولكن أن تُحَبّ؛ فإنّ محبّة الله يدّعيها كلّ أحد.
- · قوله رحمه الله: ( أن يُشْرك ) سواء الشّرك الأكبر أو الشّرك الأصغر.
والشّرك مأخوذ من الشّركة، فإذا أزلت الشّريك تكون قد جعلت خالصا، وإنّ من عادة النّاس أن يتّخذوا شركاء ليتكثّروا ويتقوّوا بهم، والله هو الغنيّ القويّ ليس بحاجة إلى شريك يشاركه في العبادة.
لذلك روى مسلم عن أبى هريرةَ رضي الله عنه قال: قالَ رسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( قال اللهُ تبارك وتعالى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ )) وفي نسخة: ( وَشَرِيكَهُ ). أي: يأمر الله المشركَ يوم القيامة بأن يذهب إلى من أشركه مع الله فيلتمس منه الأجر.
والشّرك ثلاثة أنواع:
1- شرك في الرّبوبيّة: كمن يُثبت للعالم خالقين، أو من يعتقد أنّ هناك مدبّرا للكون مع الله تعالى. وقد وقع طوائف في مثل هذا الشّرك عياذا بالله، فيعتقدون أنّ الوليّ الصّالح قد يخلق ! وقد يرزق ! بل قد يحيِي ويُميت ! وقد يردّ ملك الموت ! ومن جملة الاعتقادات الّتي انتشرت لدى غلاة المتصوّفة ما يُسمّى لديهم بديوان الصّالحين !
2- وشرك في الأسماء والصّفات: كأن يسمّى أحدٌ من الخلق أو يُوصف بما لا يليق إلاّ بالله تعالى.
3- وشرك في الألوهيّة، وهو المقصود بالمسألة الثّانية.
- · قوله: ( معهُ أحدٌ في عبادتِه ): والعبادة في اللّغة هي غاية التذلّل والخضوع، تقول: هذا طريق معبّد، أي: مذلّل.
وفي الشّرع: هي اسمٌ جامع لما يحبّه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظّاهرة.
فالله لا يرضى أن تُصرف أيّ عبادة لغير الله أيّاً كان؛ لذلك قال:
- · ( أحدٌ ) نكرةٌ في سياق النّفي فتفيد العموم، فتشمل الملائكة والجنّ والبشر، والجماد والحجر، والشّمس والقمر، وغير ذلك. لذلك أكّد هذا العموم:
- · قوله: ( لا مَلَكٌ مُقَرَّب ولا نبيٌّ مُرْسَل ): جملة للتّنبيه والتّحذير فذكر أحبّ وأقرب الخلق إلى الله تعالى، الّذين اصطفاهم على سائر العباد، وخصّهم بما لم يخصّ به غيرهم.
فإذا كان لا يحلّ صرف شيء من العبادات إلى ملك مقرّبٍ ولو كان جبريل عليه السّلام، ولا إلى نبيّ مرسل ولو كان محمّد صلّى الله عليه وسلّم، فكيف بغيرهما ؟!
- · قال رحمه الله: ( والدّليلُ قولُهُ تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ للهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا}):
والمساجد هي مواضع السّجود، أي: مواطن الصّلاة والعبادة، وكأنّ الله تعالى يقول لهم: إذا كنتم تعلمون أنّ المساجد لله، وتسمّونها بيوت الله، فلماذا تصرفون العبادة فيها لغيره، كما يفعل عُبّاد الأوثان، وعبّاد القبور ؟!
ومنهم من قال: هي أعضاء السّجود؛ وعليه فالمقصود: إنّ هذه الأعضاء إنّما خلقها المولى تبارك وتعالى؛ فلماذا تسجدون بها لغيره ؟!
و( تدعوا ): يُقصد بالدّعاء هنا العبادة، وفي سنن أبي داود والتّرمذي عن النّعمانِ بنِ بشيرٍ رضي الله عنهما عن النّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قالَ: ((الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ)) وَقَرَأَ:{وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}.
والدّعاء نوعان: دعاء المسألة، ودعاء الثّناء.
فدعاء المسألة: وهو الطّلب.
ودعاء الثّناء: وهو نداء المولى تبارك وتعالى دون ذكر مطلوب، ومنه ما رواه التّرمذي عن عبدِ اللهِ بنِ عَمْرِو رضي الله عنه أنّ النّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )).
وقد استشكل هذا الحسين بن الحسن المروزي، قال: سألت ابنَ عيينة عن دعاء عرفة فقلت: هذا ثناء وليس دعاء ؟! فقال ابن عيينة: قال: قال أميّة بن أبي الصّلت في مدح عبد الله بن جدعان:
أَأَذْكُـرُ حَـاجـَتِـي أَمْ قَـدْ كَفَـانِـي *** حَـيَـاؤُكَ إِنَّ شِـيمَـتَـكَ الحَـيَـاءُ
إِذَا أَثْـنَـى عَـلَـيْـكَ المَـرْءُ يَـوْمًـا *** كَـفَـاهُ مِـنْ تَـعَـرُّضِـهِ الثَّـنَـاءُ
قال سفيان: فهذا مخلوق حين نسب إلى الكرم اكتفى بالثّناء عن السّؤال، فكيف بالخالق ؟
فإذا تقرّر وجوب توحيد الله تعالى في ربوبيّته، وألوهيّته، فلازم ذلك أن يُواليَ العبد المؤمنين، وأن يُعاديَ الكافرين، وذلك ما ذكره رحمه الله في المسألة الثّالثة.
:
|