- شرح الأصول الثّلاثة (01) مقدّمة مهمّة.
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:
- فهذه الرّسالة رسالة نافعة كتب الله تعالى لها القبول.
- رسالة " الأصول الثّلاثة " للإمام العلاّمة: محمّد بن عبد الوهّاب رحمه الله، الّذي رفع رايةَ التّوحيد بعد أن انتشرت من جديد في هذه الأمّة معالم الشّرك، يوم أصبح النّاس يستغيثون بغير الله سبحانه وتعالى، ويعظّمون الأضرحة والقبور، فقام هذا الشّيخ المجدّد رحمه الله برفع راية التّوحيد، فهدى الله به الخلق في ذلك الزّمان وما زالت دعوته المباركة يجني المسلمون ثمارها إلى أيّامنا هذه.
- وقد اعتنى كثيرٌ من أهل العلم بشرحها والتّعليق عليها، وطبعت عشرات المرّات، وهذا يدّل على صدق المؤلّف رحمه الله في النّصح لهذه الأمّة.
- اعتنى العلماء بهذه الرسالة لأهميتها: لموضوعها أولا ثمّ لأسلوبها ثمّ لأدّلتها.
- أمّا موضوع هذه الرّسالة: فهي تعتني بالقضيّة الكبرى والمسألة المصيريّة الّتي تعتبر نقطة البدء، وتعتبر في الوقت نفسه محطّة الوصول، فإذا أدرك الإنسان موضوع الرّسالة عظمت في قلبه، وعظم اهتمامه بها. هذه القضية: هي قضية أسئلة القبر الثلاثة: من ربك؟ وما دينك؟ و من نبيك ؟
هذه القضيّة هي الّتي ينبغي أن تشغلنا وأن نهتمّ بها كثيرا؛ لأنّها قضيّة مصيريّة إمّا ينتج منها السّعادة الأبديّة السّرمدية، وإمّا ينتج من ورائها الشّقاوة والعياذ بالله. فحريّ بالمسلم أن يهتمّ بالقضايا الكبرى الّتي تمسّ مستقبله الأخرويّ.
والمسلم ينبغي أن يكون عالِيَ الهمّة فيشتغل بمعالي الأمور ولا يشتغل بسفاسفها. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: (( إِنَّ اللهَ يُحِبُّ مَعَالِيَ الأُمُورِ، وَيَكْرَهُ سَفَاسِفَهَا )).
وفي وصيّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (( اِحْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَلاَ تَعْجَزْ ))، ولا يوجد شيءٌ ينفعنا أعظم من أن ننجح في الإجابة عن هذه الأسئلة الثّلاثة.
وكان عثمان رضي الله عنه إذا ذكر الجنّة والنّار بكى، ولكنّه لا يبكي بكاءَه إذا ذكر القبر، فسئل ؟ فقال رضي الله عنه:" القبر أوّل منازل الآخرة؛ فمن نجا فيه نجا فيما بعده، ومن خاب فيه خاب فيما بعده ".
- الذي يقرأ هذه الرّسالة يجد أسلوبها سهلا يصل إلى جميع النّاس: يفهمها العالم ويفهمها العاميّ.
وهذه الصّفة لا بد أن يحرص عليها كلّ من المتكلّم، والكاتب. وإنّ الله عزّ وجلّ الّذي أنزل القرآن فأعجز به البلغاء كلّهم قال:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}.
- قوّة الأدّلة: ما من كلمةٍ يقولُها الشيخ رحمه الله إلا ويعقبها بدليل عليها، وسمّى رسالته:" الأصول الثّلاثة وأدّلتها "، والدّليل يفيدك في أمرين:
أ) يفيدك في تثبيت المعلومة، فتصبح بالدّليل يقينا.
ب) يدفع الشّبه، والشّبه على التّوحيد لا تزال قائمة إلى اليوم وهي نفسها، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَلْحَقَ قَبَائِلُ مِنْ أُمَّتِي بِالمُشْرِكِينَ ))، فينبغي على المسلم أن يتسلّح بالدّليل لطمسها وردّها.
- تنبيهان:
- الأوّل: هناك أربع رسائل تدور حول هذا الموضوع ذكرها الشّيخ ابن قاسم رحمه الله جامع "الدّرر السنيّة لرسائل أئمّة الدّعوة النّجديّة":
الرّسالة الأولى من ص 125 وهي أطولها، وهي:" الأصول الثّلاثة "، والرّسالة الثّانية وهي أخصر من الأولى، والثّالثة زاد فيها توحيد الألوهيّة والرّبوبيّة وتسمّى: ثلاثة الأصول، والرّابعة: المسائل الستّة.
ثمّ لا بدّ أن نعلم أنّ رسالة "الأصول الثّلاثة وأدلّتها" تبدأ من قول المصنّف رحمه الله:" اعلم أرشدك الله لطاعته أنّ الحنيفيّة ملّة ..."، وقد قام أحد تلاميذ المصنّف رحمه الله بإلحاق رسالتين بهذا الكتاب جعلهما كالمقدّمة له، الرّسالة الأولى هي المبدوءة بقوله:" اعلم رحمك الله أنّه يجب علينا تعلّم أربع مسائل "، والثّانية هي المبدوءة بقول المصنّف:" اعلم رحمك الله أنّه يجب على كلّ مسلم ومسلمة تعلُّمُ هذه المسائل الثّلاث "، وقد نبّه على هذا الشّيخ ابن القاسم رحمه الله في حاشيته.
الثّاني: الأصول الثّلاثة عند شيخي الإسلام:
الأصول الّتي يدندن حولها شيخا الإسلام غير ما ذكره الشّيخ محمد عبد الوهاب، وهي: الإيمان بالله، وباليوم الآخر، والعمل الصّالح، وهي الموجبة للسّعادة في كلّ ملّة.[ولا يُعرف العمل الصّالح إلاّ من بيان الرّسل].
[انظر " قاعدة في المحبّة (42)، و" شرح الأصفهانيّة "، و" بغية المرتاد "(1/490)، و"درء التّعارض والنّقل"، و"الصّفديّة" (1/245)، و"مجموع الفتاوى" (9/32)، و" الصّواعق المرسلة "].
والدّليل على هذه الأصول الثّلاثة الّتي اتّفق عليها جميع الرّسل، وجاءت بها جميع الملل قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}.
- قال المؤلف رحمه الله: " بسم الله الرّحمن الرّحيم"
فابتدأ رحمه الله بالبسملة، اقتداءً بالكتاب العزيز، وبفعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ فقد تواتر عنه أنّه كان يفتتح رسائله إلى الملوك، وعهوده بالبسملة.
أمّا ما شاع في الكتب من ذكر المصنّفين والشّراح لحديث: (( كلّ أمرٍ ذي بال لا يُبدَأ فيه بباسم الله الرّحمن الرّحيم فهو أبتر ))، فهو ضعيف جدّا.
والصّواب أنّ المطلوب هو بدء الخطب بذكر الله تعالى؛ لأنّ اسم الله لا يثقُل معه شيء، وخاصّة التشهّد؛ لما رواه أبو داود عن أبي هريرةَ رضي الله عنه عن النّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( كُلُّ خُطْبَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَشَهُّدٌ فَهِيَ كَالْيَدِ الْجَذْمَاءِ )).
وفي " البيان والتبيين "(2/6)"... أنّ خطباءَ السّلَفَ الطيّب، وأهلَ البيان من التّابعين بإحسان، ما زالوا يسمُّون الخطبةَ التي لم تبتَدَأ بالتحميد، وتُستفتَحْ بالتمجيد: البتراء، ويسمُّون التي لم توشّح بالقرآن، وتزيَّنْ بالصَّلاة على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: الشَّوْهاء "اهـ.
- قال المؤلف رحمه الله: "اعلم رحمك الله"
"اعلم": يأتي بها العلماء بها للتنبيه على أنّ الأمر الذي سيقولونه عظيم جدّا، فينبغي الاهتمام به، اقتداء بالقرآن الكريم : قال تعالى:{اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}.
- قوله "اعلم" فيه إشارة إلى أنّ العقيدة مبناها على العلم الصّحيح، وليس مبناها على كلام وآراء النّاس، وإنّ العقيدة سبيلها النّقل عن أئمة الهدى وأئمة السنة الذين بلّغوا لنا الدّين، كابرا عن كابر إلى أن تصل إلى الصّحابة من المهاجرين والأنصار الذين أخذوها عن سيّد العبيد والأحرار صلى الله عليه وسلم.
يقول أبو ذر رضي الله عنه:" توفّي رسول الله عليه الصلاة والسلام وما طائر يطير بجناحيه إلا ترك لنا فيه علما ".
وقد بيّن لنا النبيّ صلى الله عليه وسلم فبيّن لنا أحكام الخلاء، وآداب قضاء الحاجة، أفلا يبيّن لنا ما يتعلق بمعرفة الله ؟! لا شكّ أنّ ذلك أولى. فعلى الإنسان أن يثق في الوحي، وليعلم أنّ القرآن الكريم فيه المخرج من كل أزمة والفرج من كل غمّة أو فتنة.
فالدّواء النّافع من كلّ داء ما كان طبيبُ القلوب صلوات الله وسلامه عليه يقوله إذا قام من اللّيل يفتتح صلاته:
(( اللّهُمّ رَبَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، عَالِمَ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اِهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )) [رواه مسلم].
فتوسّل إلى الله تعالى بربوبيّته لأسباب الحياة: فجبريل: ملك الوحي الذي به حياة القلوب، وميكائيل الملك الموكل بالمطر الذي من ورائه حياة الزرع، وإسرافيل الملك الذي ينفخ في الصور به حياة الناس من بعد الموت، فسأل الله أن يحيي قلبه وينير صدره. فإذا رأيت النّاس يختلفون فتشبث بالوحي وادعُ الله بهذا الدعاء.
- قال رحمه الله:"اعلم رحمك الله": هذا دعاء للقارئ وللسامع بالرّحمة، والرّحمة لازمها مغفرة ما مضى، والعصمة فيما يُستقبل.
- وفي هذا الدعاء تودد وتلطف، لأنّ مبنى العلم قائم على الرّحمة، وعلم بلا رحمة لا يصلح؛ لذلك كان ابن تيمية رحمه الله يقول:" أهل السنّة والجماعة أعلم النّاس بالحق، وأرحم النّاس بالخلق".
وكان العلماء يروُون ويُروّون طلبتهم الّذين يطلبون الإجازة حديث: (( الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ، اِرْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمُ مَنْ في السَّمَاءِ )). وهذا الحديث هو المعروف بالحديث المسلسل بالأوّلية، لأنّهم أوّل مسموعات التّلاميذ عن الشّيوخ.
قال أهل العلم: إنّما كانوا يفعلون ذلك لبيان أنّ العلم وسيلته الرّحمة، وغايته الرّحمة في الدّنيا والآخرة.
فيجب على أهل الحقّ أن يكونوا أرحم النّاس بالخلق، كما قال شيخ الإسلام رحمه الله، وذلك حين تكلّم عن الطّوائف والفرق، وما فيها من الظّلم لغيرهم، بل لبعضهم بعضا، حتّى إنّ كلّ طائفة تلعن الأخرى، وقد قال له أحد الرّافضة لشيخ الإسلام: أنتم أرحم بنا من بعضنا لبعض، وهذا حال أهل الفرق المنحرفة، كلّما اجتمعوا تفرّقوا.
فالعلم يجنّبك الجهل، والرّحمة تجنّبك الظّلم، وحال الإنسان كما قال تعالى:{وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}، والله تعالى يأمر بالعدل والإحسان.
فلا يكفي أن يعرف المسلم الحقّ، بل لا بدّ أن يكون رحيما بالخلق، قال تعالى مخاطبا سيّد الموحّدين صلّى الله عليه وسلّم:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}؛ لأنّ المقصود هو إيصال الخير للنّاس.
وقد ذكر الإمام الذّهبيّ رحمه الله في مقدّمة معجم شيوخه هذا الأصل الأصيل، فافتتح كتابه بالحديث المسلسل بالأوّليّة، وبيّن أنّ بيان الحقّ لا بدّ أن يقترن بالرّحمة بالخلق، وذكر أمثلة كثيرة على ذلك، كالإحسان في القتل، وبذل الجهد لقتل الوزغ في الضّربة الأولى، وقطع يد السّارق مع حسم االعضو كيلا ينزف، وإقامة الحدود، حتّى قال:" فالفقيه من جاهد في سبيل الله، وأقام حدود الله، مع الرّحمة بخلق الله "اهـ. وذكر أنّ الصّحابة رضي الله عنهم كانوا في غزواتهم يودّون أن لو أسلم الكافر قبل أن يصل سيفه إليه.
فلا بدّ أن يتّسع الصّدر لهذين الأمرين.
وممّا يحدو بنا إلى الحديث عن سعة الصّدر للجمع بين الأمرين، ما ذكره ابن القيّم رحمه الله في " مدارج السّالكين " (2/209)، و"روضة المحبّين" (291) عن الفضيل بن عياض رحمه الله حين مات ولده ضحك ! وعلّل ذلك بأنّ ذلك قضاء الله تعالى !
ولمّا كان النّاس قد يستشكلون ذلك، لأنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حين مات ولده إبراهيم بكى، ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رضي الله عنه: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ فقالَ: (( يَا ابْنَ عَوْفٍ ! إِنَّهَا رَحْمَةٌ )) ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى فَقَالَ: (( إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ )) ؟
فبيّن ابن القيّم رحمه الله أنّ قلب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم اتّسع قلبه للأمرين كليهما: الرّضا بقضاء الله، والرّحمة الّتي جُبِل عليها عباد الله، قال:" والتّحقيق: أنّ قلب رسولِ الله اتّسع لتكميل جميع المراتب من الرّضا عن الله والبكاء رحمةً للصبيّ، فكان له مقام الرّضا ومقام الرّحمة ورقّة القلب، والفضيل لم يتّسع قلبُه لمقام الرّضا ومقام الرّحمة، فلم يجتمع له الأمران "اهـ
والله أعلم.
:
|